Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 16, Ayat: 65-67)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
والمراد بالسماء فى قوله - تعالى - { وَٱللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ ٱلْسَّمَآءِ مَآءً } جهة العلو أو السحاب المنتشر فى طبقات الجو العليا والذى تنزل منه الأمطار . والمراد بإحياء الأرض تحرك القوى النامية فيها ، وإظهار ما أودعه الله - تعالى - فيها من نبات وأزهار ، وثمرات ، وغير ذلك مما تنبته الأرض . والمراد بموتها خلوها من ذلك ، بسبب استيلاء القحط والجدب عليها . قال - تعالى - { وَتَرَى ٱلأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا ٱلْمَآءَ ٱهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } أى وكما أنزل الله - تعالى - كتابه ليكون هداية ورحمة لقوم يؤمنون ، أنزل - سبحانه - أيضا الماء من السماء على الأرض ، فتحولت بسبب نزول هذا الماء المبارك الكثير عليها ، من أرض جدباء خامدة ، إلى أرض خضراء رابية . ثم حرض - سبحانه - عباده على التدبر والشكر فقال - تعالى - { إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } . أى إن فى ذلك الذى فعلناه بقدرتنا وحدها ، من إنزل الماء من السماء ، وإحياء الأرض به من بعد موتها ، لآية عظيمة ، وعبرة جليلة ، ودلالة واضحة تدل على وحدانيتنا وقدرتنا وحكمتنا ، { لقوم يسمعون } ما يتلى عليهم من كلام الله - تعالى - سماع تدبر واعتبار ، فيعملون بما اشتمل عليه من توجيهات حكيمة وإرشادات سديدة . فالمراد بالسمع سمع القلوب والعقول ، لا سمع الآذان فقط ، إذ سمع الآذان بدون وعى واستجابة للحق ، لا قيمة له ، ولا فائدة ترجى من ورائه . ثم أرشد - سبحانه - إلى مظهر آخر من مظاهر وحدانيته ، وعظيم قدرته وعجيب صنعه ، وسعة رحمته ، حيث خلق للناس الأنعام ، وسقاهم من ألبانها ، فقال - تعالى - { وَإِنَّ لَكُمْ فِي ٱلأَنْعَامِ لَعِبْرَةً … } . والأنعام تطلق على الإِبل والبقر والغنم من الحيوان ، ويدخل فى الغنم المعز . والعبرة مصدر بمعنى العبور ، أى التجاوز من محل إلى آخر ، والمراد بها هنا العظة والاعتبار والانتقال من الجهل إلى العلم ، ومن الغفلة إلى اليقظة . أى وإن لكم - أيها الناس - فى خلق الأنعام ، وفيما يخرج منها من ألبان لعبرة عظيمة ، وعظة بليغة ، ومنفعة جليلة توجب عليكم إخلاص العبادة لله - تعالى - وحده ، ومداومة الشكر له على نعمه . فالتنكير فى قوله { لعبرة } للتفخيم والتهويل . وقوله - تعالى - { نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ } استئناف بيانى ، كأنه قيل وما وجه العبرة فى الأنعام ؟ فكان الجواب نسقيكم مما فى بطونه . قال الآلوسى " والضمير فى { بطونه } يعود للأنعام ، وهو اسم جمع ، واسم الجمع يجوز تذكيره وإفراده باعتبار معناه … " . وقوله - سبحانه - { مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ } بيان لموطن العبرة ومحل النعمة ، ومظهر الدلالة على وحدانية الله - تعالى - وقدرته ورحمته . والفرث الطعام المتبقى فى أمعاء الحيوان بعد هضمه . وأصل الفرث التفتيت . يقال فرثت كبده . أى فتتتها . قال الجمل ما ملخصه " والفرث الأشياء المأكولة المنهضمة بعض الانهضام فى الكرش - بفتح الكاف وكسر الراء - فإذا خرجت من الكرش لا تسمى فرثا بل تسمى روثا . وقوله { لبنا } مفعول ثان لنسقيكم ، والأول هو الكاف " . والخالص النقى الصافى الخالى من الشوائب والأكدار . يقال خلص الشئ من التلف خلوصا - من باب قعد - إذا سلم منه . والسائغ اللذيذ الطعم ، السهل المدخل إلى الحلق . يقال ساغ الشراب يسوغ سوغا ، من باب قال - إذا سهل مدخله فى الحلق . أى نسقيكم من بين الفرث والدم الذى اشتملت عليه بطون الأنعام ، { لبنا } نافعا لأبدانكم { خالصا } من رائحة الفرث ، ومن لون الدم ، مع أنه موجود بينهما { سائغا للشاربين } بحيث يمر فى الحلوق بسهولة ويسر ، ويشعر شاربه بلذة وارتياح . وقدم - سبحانه - قوله { مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ } على قوله { لبنا } ، لأن خروج اللبن من بينهما هو موطن العبرة ، وموضع الدليل الأسمى على قدرة الله - تعالى - ووحدانيته . قال صاحب الكشاف قوله - تعالى - { مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ } أى يخلق الله اللبن وسيطا بين الفرث والدم يكتنفانه ، وبينه وبينهما برزخ من قدرة الله - تعالى - ، بحيث لا يبغى أحدهما عليه بلون ولا طعم ولا رائحة ، بل هو خالص من ذلك كله … فسبحان الله ما أعظم قدرته ، وألطف حكمته ، لمن تفكر وتأمل . وسئل " شقيق " عن الإِخلاص فقال تمييز العمل من العيوب كتمييز اللبن من بين فرث ودم . ثم قال - رحمه الله - فإن قلت أى فرق بين " من " الأولى والثانية ؟ . قلت الأولى للتبعيض ، لأن اللبن بعض ما فى بطونها … والثانية لابتداء الغاية ، لأن بين الفرث والدم مكان الإِسقاء الذى منه يبتدأ … وإنما قدم قوله { مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ } لأنه موضع العبرة ، فهو قمن بالتقديم " . وقال الآلوسى عند تفسيره لهذه الآية " ومن تدبر فى بدائع صنع الله - تعالى - فيما ذكر من الأخلاط والألبان وإعداد مقارها ومجاريها ، والأسباب المولدة لها ، وتسخير القوى المتصرفة فيها … اضطر إلى الاعتراف بكمال علمه - سبحانه - وقدرته ، وحكمته ، وتناهى رأفته ورحمته @ حكم حارت البرية فيها وحقيق بأنها تحتار @@ والحق ، أن هذه الآية الكريمة من أكبر الأدلة على وحدانية الله تعالى ونفاذ قدرته ، وعجيب صنعته ، حيث استخرج - سبحانه - من بين فرث ودم فى بطون الأنعام ، لبنا خالصا سائغا للشاربين . وهذا الاستخراج قد تكلم العلماء المتخصصون عن كيفيته وعن مراحله … كلاما يقوى إيمان المؤمنين ، ويدفع باطل الملحدين . هذا ، وفى الآية الكريمة إشارة إلى أن اللبن نعمة جزيلة من نعم الله - تعالى - على خلقه . قال القرطبى ما ملخصه روى أبو داود وغيره عن ابن عباس قال " أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بلبن فشرب ، ثم قال " إذا أكل أحدكم طعاما فليقل ، اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيرا منه ، وإذا سقى لبنا فليقل اللهم بارك لنا فيه ، وزدنا منه ، فإنه ليس شئ يجزئ عن الطعام والشراب إلا اللبن " . ثم قال الإِمام القرطبى قال علماؤنا فكيف لا يكون كذلك ، وهو أول ما يغتذى به الإنسان ، وتنمو به الأبدان ، فهو قوت به قوام الأجسام ، وقد جعله الله - تعالى - علامة لجبريل على هداية هذه الأمة ، ففى الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " فجاءنى جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن ، فاخترت اللبن . فقال لى جبريل اخترت الفطرة … " . ثم انتقلت السورة الكريمة الى الحديث عن نعمة أخرى من نعم الله التى لا تحصى ، وهى نعمة ثمرات النخيل والأعناب ، فقال - تعالى - { وَمِن ثَمَرَاتِ ٱلنَّخِيلِ وَٱلأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً … } . قال الجمل ما ملخصه قوله - سبحانه - { وَمِن ثَمَرَاتِ ٱلنَّخِيلِ وَٱلأَعْنَابِ … } خبر مقدم ، ومن تبعيضية ، والمبتدأ محذوف تقديره ثمر ، وقوله { تتخذون } نعت لهذا المبتدأ المحذوف ، أى ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا . ويجوز أن يكون الجار والمجرور متعلقا بمحذوف ، والتقدير ونسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب ، أى من عصيرهما ، وحذف لدلالة نسقيكم قبله عليه ، وقوله { تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً } بيان وكشف عن كيفية الإِسقاء . والضمير فى قوله { منه } يعود على المضاف المحذوف الذى هو العصير ، أو على المبتدأ المحذوف وهو الثمر . والسكر - بفتح السين والكاف - اسم من أسماء الخمر ، يقال سكر فلان - بوزن فرح - يسكر سكرا ، إذا غاب عقله وإدراكه فهو سكران وسكر - بفتح السين وكسر الكاف - . وأما الرزق الحسن ، فالمراد به ما كان حلالا من ثمرات النخيل والأعناب كالتمر والزبيب وغير ذلك مما أحله الله - تعالى - من ثمارهما . وعلى هذا المعنى سار جمهور العلماء من السلف والخلف . قال الآلوسى ما ملخصه والسكر الخمر . قال الأخطل . @ بئس الصُّحاة وبئس الشَّرب شَربُهم إذا جرى فيهم المزَّاءُ والسَّكَر @@ والمزاء نوع من الأشربة . والسكر ما يسكر وهو الخمر . وفسروا الرزق الحسن . بالخل والتمر والزبيب وغير ذلك . ثم قال وتفسير " السَّكَر " بالخمر ، هو المروى عن ابن مسعود ، وابن عمر ، وأبى رزين ، والحسن ، ومجاهد ، والشعبى … والنخعى … مع خلق آخرين … وعلى هذا التفسير الذى قاله جمهور العلماء يكون السكر غير الرزق الحسن ، ويكون العطف للتغاير . ومن العلماء من فسر السكر بأنه اسم للخل ، أو للعصير غير المسكر ، أو لما لا يسكر من الأنبذة ، وقد بسط الإِمام القرطبى القول فى هذه المسألة فقال ما ملخصه قوله - تعالى - { سكرا } السكر ما يسكر ، هذا هو المشهور فى اللغة . قال ابن عباس نزلت هذه الآية قبل تحريم الخمر . والمراد بالسكر الخمر . وبالرزق الحسن جميع ما يؤكل ويشرب حلالا من هاتين الشجرتين . وقد قيل إن السكر الخل بلغة الحبشة . والرزق الحسن الطعام . وقيل السكر العصير الحلو الحلال ، وسمى سكرا ، لأنه قد يصير مسكرا إذا بقى ، فإذا بلغ الإِسكار حرم … وقال الحنفيون . المراد بقوله { سكرا } ما لا يسكر من الأنبذة . والدليل عليه أن الله - سبحانه - امتن على عباده بما خلق لهم من ذلك ، ولا يقع الامتنان إلا بمحلل لا بمحرم ، فيكون ذلك دليلا على جواز شرب ما دون المسكر من النبيذ ، فإذا انتهى إلى السكر لم يجز . وعضدوا هذا من السنة بما روى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال " حرم الله الخمر بعينها والسُّكْر من غيرها " . وأصحاب هذا الرأى كأنهم يرون أن عطف الرزق الحسن على السكر من باب عطف الشئ على مرادفه ، كما فى قوله - تعالى - { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } وليس من باب العطف المقتضى للمغايرة ، فالسكر عندهم ليس هو الخمر ، وإنما هو الخل أو العصير أو النبيذ غير المسكر . ويبدو لنا أن ما ذهب إليه الجمهور من أن السكر هو الخمر أولى بالقبول ، لأن هذا التفسير هو المروى عن جمع من الصحابة ومن التابعين ، ولأن الأصل فى العطف أنه يقتضى المغايرة . قال ابن العربى أسد هذه الاقوال قول ابن عباس نزلت هذه الآية قبل تحريم الخمر ، والمراد بالسكر الخمر ، فتكون هذه الآية منسوخة لأنها مكية باتفاق العلماء ، وتحريم الخمر مدنى . وقال صاحب تفسير آيات الأحكام بعد أن ذكر أدلة الاحناف ورد عليها والحاصل أننا نرى أن الآية ليس فيها ما يشهد بالحل ، إذ الكلام فى الامتنان بخلق الأشياء لمنافع الانسان ، ولم تنحصر المنافع فى حل التناول ، فقد قال الله - تعالى - فى شأن الخمر { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ … } فهل انحصرت منافع السكر - على فرض أنه النبيذ - فى الشرب ؟ . ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله { إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } أى فى ذلك الذى ذكرناه لكم من إخراج اللبن من بين فرث ودم ، ومن اتخاذ السكر والرزق الحسن من ثمرات النخيل والأعناب ، { لآية } باهرة ، ودلالة واضحة ، على قدرة الله - تعالى - ووحدانيته ، { لقوم يعقلون } هذه التوجيهات الحكيمة ، فيدركون أن من يفعل كل ذلك وغيره ، هو المستحق للعبادة والطاعة { أَلاَ لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلأَمْرُ تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ } ثم ساق - سبحانه - بعد ذلك ما يدل - أيضا - على وحدانيته وقدرته ، عن طريق إخراج العسل الذى فيه شفاء للناس بواسطة حشرة ضعيفة وهى النحلة ، فقال - تعالى - { وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَىٰ ٱلنَّحْلِ أَنِ ٱتَّخِذِي مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ ٱلشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ … } .