Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 16, Ayat: 68-69)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وقوله - سبحانه - { وأوحى } من الوحى ، وهو هنا بمعنى الإِلهام ، وهو - كما يقول القرطبى - ما يخلقه الله - تعالى - فى القلب ابتداء من غير سبب ظاهر . ومنه قوله - تعالى - { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } ومن ذلك إلهام البهائم لفعل ما ينفعها ، وترك ما يضرها ، وتدبير معاشها … وقال صاحب الكشاف والإِيحاء إلى النحل إلهامها والقذف فى قلوبها على وجه هو أعلم به ، لا سبيل لأحد إلى الوقوف عليه ، وإلا فتأنقها فى صنعتها ولطفها فى تدبير أمرها ، وإصابتها فيما يصلحها دلائل شاهدة على أن الله - تعالى - أودعها علما بذلك وفطنها ، كما أودع أولى العقول عقولهم … والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ويشمل كل من يصلح للخطاب من الأمة الإِسلامية . والنحل اسم جنس يفرق بينه وبين واحده بالتاء ، ويطلق على الذكر والأنثى ، وسمى بذلك لأن الله - تعالى - نحله أى منحه العسل الذى يخرج منه . وقوله - سبحانه - { أَنِ ٱتَّخِذِي مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ ٱلشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ } بيان لما ألهمه الله النحل من أوامر . ولما كلفها به من أعمال . و " أن " مفسرة لأن الإِيحاء فيه معنى القول دون حروفه وما بعدها لا محل له من الإِعراب ، ويجوز بأن تكون مصدرية فيكون ما بعدها فى محل نصب على تقدير الجار . أى بأن اتخذى . والمعنى وألهم ربك النحل وأرشدها وهداها إلى أن تتخذ من فجوات الجبال بيوتا تسكن فيها ، وكذلك من تجاويف الأشجار ومما يرفعه الناس ويعرشونه من السقوف وغيرها . يقال عرش الشئ يعرشه - بكسر الراء وضمها - إذا رفعه عن الأرض ، ومنه العريش الذى صنع لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر لمشاهدة سير المعركة . قال صاحب الكشاف فإن قلت ما معنى " من " فى قوله { أَنِ ٱتَّخِذِي مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ ٱلشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ } ؟ وهلا قيل فى الجبال وفى الشجر ؟ . قلت أريد معنى البعضية ، وأن لا تبنى بيوتها فى كل جبل ، وكل شجر ، وكل ما يعرش ، ولا فى كل مكان منها . وقد علق الشيخ ابن المنير على هذا الكلام بقوله " ويتزين هذا المعنى الذى نبه عليه الزمخشرى فى تبعيض " من " المتعلقة باتخاذ البيوت بإطلاق الأكل ، كأنه - تعالى - وكل الأكل إلى شهوتها واختيارها فلم يحجر عليها فيه ، وإن حجر عليها فى البيوت ، وأمرت باتخاذها فى بعض المواضع دون بعض لأن مصلحة الأكل على الإِطلاق باستمرار مشتهاها منه ، وأما البيوت فلا تحصل مصلحتها فى كل موضع . ولهذا المعنى دخلت ثم فى قوله { ثم كلى … } لتفاوت الأمر بين الحجر عليها فى اتخاذ البيوت ، والإِطلاق لها فى تناول الثمرات ، كما تقول راع الحلال فيما تأكله ثم كل أى شئ شئت . فتوسط ثم لتفاوت . الحجر والإِطلاق فسبحان اللطيف الخبير " . وقوله { ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ فَٱسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً … } بيان للون آخر من الإِلهامات التى ألهمها الله - تعالى - إياها . والسبل جمع سبيل . والمراد بها الطرق التى تسلكها النحلة فى خروجها من بيتها وفى رجوعها إليه وأضاف - سبحانه - السبل إليه ، لأنه هو خالقها وموجدها . وذللا جمع ذلول وهو الشئ الممهد المنقاد ، وهو حال من السبل ، أى فاسلكى سبل ربك حال كونها ممهدة لك ، لا عسر فى سلوكها عليك ، وإن كانت صعبة بالنسبة لغيرك . قالوا ربما أجدب عليها ما حولها ، فتنتجع الأماكن البعيدة للمرعى ، ثم تعود إلى بيوتها دون أن تضل عنها . وقيل إن { ذللا } حال من النحلة أى ثم كلى من كل الثمرات ، فاسلكى سبل ربك ، حالة كونك منقادة لما يراد منك ، مطيعة لما سخرك الله له من أمور تدل على قدرته وحكمته - سبحانه - . وقوله - تعالى - { يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ } كلام مستأنف ، عدل به من خطاب النحلة الى خطاب الناس ، تعديدا للنعم ، وتعجيبا لكل سامع ، وتنبيها على مواطن العظات والعبر الدالة على وحدانية الله - تعالى - وقدرته وعجيب صنعه فى خلقه . أى يخرج من بطون النحل - بعد أكلها من كل الثمرات وبعد اتخاذها بيوتها - شراب هو العسل ، مختلف ألوانه ما بين أبيض وأصفر وغير ذلك من ألوان العسل ، على حسب اختلاف مراعيها ومآكلها وسنها ، وغير ذلك بما اقتضته حكمته - سبحانه - . والضمير فى قوله - تعالى - { فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ } يعود على الشراب المستخرج من بطونها وهو العسل . أى فى العسل شفاء عظيم للناس من أمراض كثيرة تعرض لهم . وقيل الضمير يعود إلى القرآن الكريم ، والتقدير فيما قصصنا عليكم فى هذا القرآن الشفاء للناس . وهذا القيل وإن كان صحيحا فى ذاته ، إلا أن السياق لا يدل عليه ، لأن الآية تتحدث عما يخرج من بطون النحل وهو العسل ، ولا وجه للعدول عن الظاهر ، ومخالفة المرجع الواضح . قال الإِمام ابن كثير والدليل على أن المراد بقوله { فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ } هو العسل ، الحديث الذى رواه البخارى ومسلم فى صحيحيهما عن أبى سعيد الخدرى - رضى الله عنه - ، " أن رجلا جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال إن أخى استطلق بطنه فقال " اسقه عسلا " ، فذهب فسقاه عسلا ثم جاء فقال يا رسول الله ، سقيته عسلا فما زاده إلا استطلاقا . قال " اذهب فاسقه عسلا " . فذهب فسقاه عسلا ثم جاء فقال يا رسول الله ، سقيته عسلا فما زاده إلا استطلاقا . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " صدق الله وكذب بطن أخيك . اذهب فاسقه عسلا " فذهب فسقاه عسلا فبرئ " . ثم ساق الإِمام ابن كثير بعد ذلك جملة من الأحاديث فى هذا المعنى منها ما رواه البخارى عن ابن عباس قال " الشفاء فى ثلاثة فى شرطة محجم أو شربة عسل أو كية بنار ، وأنهى أمتى عن الكى " . وروى البخارى - أيضا - عن جابر بن عبد الله قال " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن كان فى شئ من أدويتكم - أو يكون فى شئ من أدويتكم - خير ففى شرطة محجم ، أو شربة عسل ، أو لذعة بنار ، توافق الداء ، وما أحب أن أكتوى " . وقال صاحب فتح البيان وقد اختلف أهل العلم هل هذا الشفاء الذى جعله الله فى العسل عام لكل داء ، أو خاص ببعض الأمراض . فقال طائفة هو على العموم فى كل حال ولكل أحد . وقالت طائفة أخرى إن ذلك خاص ببعض الأمراض ، ولا يقتضى العموم فى كل علة وفى كل إنسان ، وليس هذا بأول لفظ خصص فى القرآن فالقرآن مملوء منه ، ولغة العربى يأتى فيها العام كثيرا بمعنى الخاص ، والخاص بمعنى العام . ومما يدل على هذا ، أن العسل نكرة فى سياق الإِثبات فلا يكون عاما باتفاق أهل اللسان . ومحققى أهل الأصول . وتنكيره إن أريد به التعظيم لا يدل إلا على أن فيه شفاء عظيما لمرض ، أو أمراض ، لا لكل مرض ، فإن تنكير التعظيم لا يفيد العموم . ثم قال قلت وحديث البخارى أن أخى استطلق بطنه … أوضح دليل على ما ذهبت إليه طائفة من تعميم الشفاء ، لأن قوله صلى الله عليه وسلم " صدق الله " أى أنه شفاء فلو كان لبعض دون بعض لم يكرر الأمر بالسقيا . والذى نراه ، أن من الواجب علينا أن نؤمن إيمانا جازما بأن العسل المذكور فيه شفاء للناس ، كما صرح بذلك القرآن الكريم ، وكما أرشد إلى ذلك النبى صلى الله عليه وسلم . وعلينا بعد ذلك أن نفوض أمر هذا الشفاء وعموميته وخصوصيته لعلم الله - تعالى - وقدرته وحكمته ويكفينا يقينا فى هذا المجال ، إصرار النبى صلى الله عليه وسلم على أن يقول للرجل الذى استطلق بطن أخيه أكثر من مرة ، " اذهب فاسقه عسلا " . وقد تولى كثير من الأطباء شرح هذه الآية الكريمة شرحا علميا وافيا ، وبينوا ما اشتمل عليه عسل النحل من فوائد . ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله { إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } . أى إن فى ذلك الذى ذكرناه لكم من أمر النحل من إلهامها اتخاذ البيوت العجيبة ، ومن إدارتها لشئون حياتها بدقة متناهية ، ومن سلوكها الطرق التى جعلها الله مذللة فى ذهابها وإيابها للحصول على قوام حياتها ، ومن خروج العسل من بطونها . … إن فى ذلك وغيره ، لآية باهرة ، وعبرة ظاهرة ، ودلالة جلية ، على وحدانية الله - تعالى - وقدرته ، وحكمته ، لقوم يحسنون التفكير فيما أخبرهم الله - تعالى - عنه ، ويوقنون بأن لهذا الكون ربا واحدا لا إله إلا هو { تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ } وإلى هنا تكون الآيات الكريمة قد ساقت لنا ألوانا من عجائب صنع الله فى خلقه ، كاستخراج اللبن من بين فرث ودم ، وكاتخاذ السكر والرزق الحسن من ثمرات النخيل والأعناب ، وكاستخراج العسل الذى فيه شفاء للناس من بطون النحل . فهذه الأشربة قد أخرجها الله - تعالى - من أجساد مخالفة لها فى شكلها ، وقد ساقها - سبحانه - فى آيات جمع بينها التناسق الباهر فى عرض هذه النعم ، مما يدل على أن هذا القرآن من عند الله ، { … وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلاَفاً كَثِيراً } وبعد هذا الحديث المتنوع عن عجائب خلق الله - تعالى - فى الأنعام والأشجار والنحل … ساقت السورة الكريمة ألوانا أخرى من مظاهر قدرته - تعالى - فى خلق الإنسان ، وفى التفاضل فى الأرزاق ، ومن نعمه على عباده فى إيجاد الأزواج والبنين والحفدة … فقال - تعالى - { وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ ٱلْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ … } .