Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 16, Ayat: 73-76)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
والمراد بقوله سبحانه { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ … } كل معبود سوى الله - تعالى - من صنم أو وثن أو غير ذلك من المعبودات الباطلة . والجملة الكريمة داخلة تحت مضمون الاستفهام الانكارى ، ومعطوفة عليه وهو قوله - تعالى - { أَفَبِٱلْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ ٱللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ } أى أن هؤلاء الجاحدين لنعم الله - تعالى - ، بلغ من جهالتهم وسفاهاتهم أنهم يؤمنون بالباطل ، ويكفرون بالحق ، ويعبدون من دون الله - تعالى - أصناما وأوثانا لا تملك لعابدها أى شئ من الرزق فهى لا تنزل مطرا من السماء ولا تخرج نباتا من الأرض ، ولا تستطيع أن تنفع أو تضر … و " ما " فى قوله - تعالى - { مَا لاَ يَمْلِكُ … } كناية عن معبوداتهم الباطلة فهى مفردة لفظا ، مجموعة معنى . والتنكير فى قوله - سبحانه - { رزقا } للاشعار بقلته وتفاهته ، وأن معبوداتهم لا تملك لهم أى شئ من الرزق ، حتى ولو كان تافها حقيرا . وقوله { شيئا } منصوب على المصدر ، أى ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم ملكا ، أى شيئا من الملك . والضمير فى قوله { ولا يستطيعون } يعود إلى { ما } وجمع بصيغة العقلاء بناء على زعمهم الفاسد ، من أن هذه الأصنام فى إمكانها النفع والضر . وجاءت جملة { ولا يستطيعون } بعد قوله - تعالى - { مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِّنَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ … } لتأكيد عجز هذه المعبودات عن فعل أى شئ فهى لا تملك شيئا ، وليس فى استطاعتها أن تملك لأنها ليست أهلا لذلك . وقوله - سبحانه - { فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ ٱلأَمْثَالَ … } نهى منه - سبحانه - عن أن يشبه فى ذاته أو صفاته بغيره ، وقد جاء هذا النهى فى صورة الالتفات من الغائب إلى المخاطب للاهتمام بشأن هذا النهى ، والفاء لترتيب النهى على ما عدد من النعم التى وردت فى هذه السورة والتى لم ينته الحديث عنها بعد . والأمثال جمع مثل ، وهو النظير والشبيه لغيره ، ثم أطلق على القول السائر المعروف ، لمماثلة مضربه - وهو الذى يضرب فيه - ، لمورده - وهو الذى ورد فيه أولا . وتضرب الأمثال لتوضيح الشئ الغريب ، وتقريب المعنى المعقول من المعنى المحسوس ، وعرض ما هو غائب فى صورة ما هو مشاهد ، فيكون المعنى الذى ضرب له المثل أوقع فى القلوب ، وأثبت فى النفوس . وقوله - تعالى - { إِنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } تعليل لهذا النهى عن ضرب الأمثال لله - عز وجل - . أى فلا تتجاسروا ، وتتطاولوا ، وتضربوا لله - تعالى - الأمثال ، كما يضرب بعضكم لبعض ، فإن الله - تعالى - هو الذى يعلم كيف تضرب الأمثال وأنتم لا تعلمون ذلك . قال الزجاج ورد أن المشركين كانوا يقولون إن إله العالم أجل من أن يعبده الواحد منا ، فكانوا يتوسلون إلى الأصنام والكواكب ، كما أن أصاغر الناس يخدمون أكابر حضرة الملك ، وأولئك الأكابر يخدمون الملك ، فنهوا عن ذلك . ثم وضح لهم - سبحانه - كيف تضرب الأمثال ، فساق مثلين حكيمين يدلان على وحدانية الله - تعالى - وقدرته … أما المثل الأول فيتجلى فى قوله - عز وجل - { ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ … } . أى ذكر الله - تعالى - وبين ووضح لكم مثلا تستدلون به على وحدانيته - سبحانه - وهو أن هناك عبدا رقيقا مملوكا لغيره ، وهذا العبد لا يقدر على شئ من التصرفات حتى ولو كانت قليلة . وقوله - سبحانه - { عبدا } بدل من { مثلا } و { مملوكا } صفة للعبد . ووصف - سبحانه - العبد بأنه مملوك ، ليحصل الامتياز بينه وبين الحر ، لأن كليهما يشترك فى كونه عبدا لله - تعالى - . ووصفه أيضا - بأنه لا يقدر على شئ للتمييز بينه وبين المكاتب والعبد المأذون له فى التصرف ، لأنهما يقدران على بعض التصرفات . هذا هو الجانب الأول من المثل ، أما الجانب الثانى فيتجلى فى قوله - تعالى - { وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً … } . قال الآلوسى و " من " فى قوله { ومن رزقناه } نكرة موصوفة ، ليطابق عبدا فإنه نكرة موصوفة - أيضا - ، وقيل إنها موصولة ، والأول اختيار الأكثرين أى حرا رزقناه بطريق الملك ، والالتفات إلى التكلم - فى { رزقناه } للإِشعار باختلاف حال ضرب المثل والرزق … " . أى ذكر الله - تعالى - لكم لتتعظوا وتتفكروا ، حال رجلين أحدهما عبد مملوك لا يقدر على شئ . والثانى حر مالك رزقه الله - تعالى - رزقا واسعا حلالا حسنا ، { فهو } أى هذا الحر ينفق على غيره من هذا الرزق الحسن { سرا وجهرا } واختار - سبحانه - ضمير العظمة فى قوله { رزقناه } للإِشعار بكثره هذا الرزق وعظمته ، ويزيده كثرة وعظمة قوله - تعالى - بعد ذلك { مِنَّا } أى من عندنا وحدنا وليس من عند غيرنا . ووصف - سبحانه - الرزق بالحسن ، للإشارة إلى أنه مع كثرته فهو حلال طيب مستحسن فى الشرع وفى نظر الناس . وقال - سبحانه - { فهو ينفق } بصيغة الجملة الاسمية ، للدلالة على ثبوت هذا الإنفاق ودوامه . وقوله { سرا وجهرا } منصوبان على المصدر ، أى إنفاق سر وجهر ، أو على الحالية ، أى فهو ينفق منه فى حالتى السر والجهر . والمراد أنه إنسان كريم ، لا يبخل بشئ مما رزقه الله ، بل ينفق منه فى عموم الأحوال ، وعلى من تحسن معه النفقة سرا ، وعلى من تحسن معه النفقة جهرا . هذان هما الجانبان المتقابلان فى هذا المثل ، والفرق بينهما واضح وعظيم عند كل ذى قلب سليم ، ولذا جاء بعدهما بالاستفهام الإِنكارى التوبيخى فقال { هل يستوون } ؟ أى هل يستوى فى عرفكم أو فى عرف أى عاقل ، هذا العبد المملوك العاجز الذى لا يقدر على شئ … مع هذا الإنسان الحر . المالك الذى رزقه الله - سبحانه - رزقا واسعا حلالا ، فشكر الله عليه ، واستعمله فى وجوه الخير . إن مما لا شك فيه أنهما لا يستويان حتى فى نظر من عنده أدنى شئ من عقل . وما دام الأمر كذلك ، فكيف سويتم - أيها المشركون الجهلاء - فى العبادة ، بين الخالق الرازق الذى يملك كل شئ ، وبين غيره من المعبودات الباطلة التى لا تسمع ولا تبصر ، ولا تعقل ، ولا تملك شيئا . وقال - سبحانه - { هل يستوون } مع أن المتقدم اثنان ، لأن المراد جنس العبيد والأحرار ، المدلول عليهما بقوله { عبدا } وبقوله { ومن رزقناه } . فالمقصود بالمثل كل من اتصف بهذه الأوصاف المذكورة من الجنسين المذكورين لا فردان معينان . وقوله { الحمد لله } ثناء منه - سبحانه - على ذاته ، حيث ساق - سبحانه - هذه الأمثال الواضحة للتمييز بين الحق والباطل . أى قل - أيها الانسان المؤمن العاقل - { الحمد } كله { لله } - تعالى - على إرشاده لعباده المؤمنين ، وتعليمهم كيف يقذفون بحقهم على باطل أعدائهم فإذا هو زاهق . ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أى بل أكثر هؤلاء الكافرين الضالين ، لا يعلمون كيف يميزون بين الحق والباطل لانطماس بصائرهم ، واستيلاء الجحود والحسد والعناد على قلوبهم . وقال - سبحانه - { بل أكثرهم … } للإِشعار بأن من هؤلاء الكافرين من يعلم الحق ويعرفه كما يعرف أبناءه ، ولكن الهوى والغرور والتقليد الباطل … حال بينه وبين اتباع الحق . هذا هو المثال الأول الذى ذكره الله - تعالى - للاستدلال على بطلان التسوية بين عبادة الله - تعالى - الخالق لكل شئ والمالك لكل شئ … وبين عبادة غيره من الأصنام والجمادات التى لا تخلق شيئا ، ولا تملك شيئا ، ولا تضر ولا تنفع . أما المثال الثانى فهو أشد وضوحا من سابقه على وحدانية الله - تعالى - ورحمته بعباده ، وعلى الفرق الشاسع بين المؤمن والكافر ، ويتجلى هذا المثال فى قوله - عز وجل - { وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ … } . أى وذكر الله - تعالى - مثلا آخر لرجلين ، { أحدهما أبكم } أى لا يستطيع النطق أو الكلام ، ضعيف الفهم والتفهيم لغيره . { لاَ يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ } أى لا يقدر على فعل شئ من الأشياء المتعلقة بنفسه وبغيره . { وهو } أى هذا الرجل { كَلٌّ عَلَىٰ مَوْلاهُ } أى حمل ثقيل ، وهم كبير على مولاه الذى يتولى شئونه من طعام وشراب وكساء وغير ذلك . وهذا بيان لعدم قدرته على القيام بمصالح نفسه ، بعد بيان عدم قدرته على القيام بفعل أى شئ على الإِطلاق . قال القرطبى قوله { وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوْلاهُ } أى ثقل على وليه وقرابته ، ووبال على صاحبه وابن عمه ، وقد يسمى اليتيم كلا لثقله على من يكفله ، ومنه قول الشاعر @ أكول لمال الكَلِّ قبل شبابه إذا كان عظم الكلِّ غير شديد @@ فالكل هو الإِنسان العاجز الضعيف الذى يكون محتاجا إلى من يرعى شئونه . وقوله { أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ } أى أن هذا الرجل حيثما يوجهه مولاه وكافله لقضاء أمر من الأمور يعود خائبا ، لعجزه ، وضعف حيلته ، وقلة إدراكه … فأنت ترى أن الله - تعالى - قد وصف هذا الرجل بأربع صفات ، تدل على سوء فهمه ، وقلة حيلته ، وثقله على ولى أمره ، وانسداد طرق الخير فى وجهه … هذا هو الجانب الأول من المثل ، أما الجانب الثانى فيتجلى فى قوله - تعالى - { هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَهُوَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ … } . أى { هَلْ يَسْتَوِي هُوَ } أى هذا الرجل الأبكم العاجز … مع رجل آخر { يأمر } غيره بالعدل " وهو " أى هذا الرجل الآخر فى نفسه { وَهُوَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } أى على دين قويم ، وخلق كريم فقد جمع بذلك بين فضيلتين جليلتين نفعه لغيره ، وصلاحه فى ذاته . لا شك أن هذين الرجلين لا يستويان فى عقل أى عاقل ، إذ أن أولهما أبكم عاجز خائب … وثانيهما منطيق ، ناصح لغيره ، جامع لخصال الخير فى نفسه . وما دام الامر كذلك فكيف سويتم - أيها المشركون الضالون المكذبون - فى العبادة بين الله - تعالى - وهو الخالق لكل شئ ، وبين تلك الأصنام التى لا تسمع ولا تبصر ولا تغنى عن عابديها شيئا . أو كيف سويتم بين المؤمن الجامع لكل مكرمة ، وبين الكافر الغبى الأبله الذى آثر الغى على الرشد ، فتكون الآية الكريمة مسوقة لبيان الفرق الشاسع بين المؤمن والكافر . وقد قابل - سبحانه - الأوصاف الأربعة للرجل الأول ، بهذين الوصفين للرجل الثانى ، لأن حاصل أوصاف الأول أنه غير مستحق لشئ ، وحاصل وصفى الثانى أنه مستحق لكل فضل وخير . وقوله { وَمَن يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ … } معطوف على الضمير المستتر فى قوله { هل يستوى … } . وجملة { وَهُوَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } فى محل نصب على الحال . وبذلك نرى أن الآيتين الكريمتين قد ساقتا مثلين واضحين ، لبيان الفرق الشاسع بين ذات الله - تعالى - الخلاق العليم ، الرزاق الكريم … وبين تلك المعبودات الباطلة التى أشركها الضالون فى العبادة مع الله - عز وجل - . أو بين المؤمن الذى هو على بصيرة من أمره ، وبين الكافر الذى استحب العمى على الهدى … أو بين الحق فى وضوحه وجماله وجلاله ، وبين الباطل فى ظلامه وقبحه وخسته . هذا ، وما ذكره بعضهم من أن المثلين فى الآيتين الكريمتين ، قد وردا فى أشخاص معينين من المؤمنين أو الكافرين ، لا يعول عليه ، لضعف الروايات التى وردت فى ذلك ، ولأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب . قال الآلوسى ما ملخصه " وما روى من أن الأبكم أبو جهل والآمر بالعدل عمار ، أو بالأبكم أبى بن خلف ، والآمر بالعدل عثمان بن مظعون لا يصح إسناده … " . وبهذين المثلين تكون السورة الكريمة قد أقامت أعظم الأدلة وأسطعها على صحة قوله - تعالى - قبل ذلك { وَقَالَ ٱللَّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلـٰهَيْنِ ٱثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلـٰهٌ وَاحِدٌ … } ثم ساقت السورة بعد ذلك ما يدل على إحاطة علمه - سبحانه - بكل شئ ، وعلى شمول قدرته ، وعلى سابغ نعمته ، فقال - تعالى - { وَلِلَّهِ غَيْبُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَمَآ أَمْرُ ٱلسَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ ٱلْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .