Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 18, Ayat: 60-65)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قال الإِمام الرازى ما ملخصه اعلم أن هذا ابتداء قصة ثالثة ذكرها الله - تعالى - فى هذه السورة ، وهى أن موسى - عليه السلام - ذهب إلى الخضر ليتعلم منه ، وهذا وإن كان كلاما مستقلا فى نفسه إلا أنه يعين على ما هو المقصود فى القصتين السابقتين أما نفع هذه القصة فى الرد على الكفار الذين افتخروا على فقراء المسلمين ، فهو أن موسى مع كثرة علمه وعمله … ذهب إلى الخضر لطلب العلم وتواضع له . وأما نفع هذه القصة فى قصة أصحاب الكهف ، فهو أن اليهود قالوا لكفار مكة " إن أخبركم محمد صلى الله عليه وسلم عن هذه القصة فهو نبى وإلا فلا وهذا ليس بشىء . لأنه لا يلزم من كونه نبيا أن يكون عالما بجميع القصص كما أن كون موسى نبيا لم يمنعه من الذهاب ليتعلم منه " . وموسى - عليه السلام - هو ابن عمران ، وهو أحد أولى العزم من الرسل ، وينتهى نسبه إلى يعقوب - عليه السلام - . وفتاه هو يوشع بن نون ، وسمى بذلك لأنه كان ملازما لموسى - عليه السلام - ويأخذ عنه العلم . وقوله { لا أبرح } أى لا أزال سائرا . ومنه قوله - تعالى - { لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ } من برح الناقص . قال الجمل " واسمها مستتر وجوبا ، وخبرها محذوف ، تقديره لا أبرح سائرا ، وقوله { حتى أبلغ } … غاية لهذا المقدر . ويحتمل أنها تامة فلا تستدعى خبرا ، بمعنى لا أزول عما أنا عليه من السير والطلب ولا أفارقه حتى أبلغ … " . و { مجمع البحرين } المكان الذى فيه يلتقى البحر الأحمر بالبحر الأبيض المتوسط . قال الآلوسى " والمجمع الملتقى ، وهو اسم مكان … والبحران بحر فارس والروم ، كما روى عن مجاهد وقتادة وغيرهما وملتقاهما مما يلى المشرق ولعل المراد مكان يقرب فيه التقاؤهما … وقيل البحران بحر الأردن وبحر القلزم … " . وقال بعض العلماء " والأرجح - والله أعلم - أن مجمع البحرين بحر الروم وبحر القلزم . أى البحر الأبيض والبحر الأحمر . ومجمعهما مكان التقائهما فى منطقة البحيرات المرة وبحيرة التمساح . أو أنه مجمع خليجى العقبة والسويس فى البحر الأحمر . فهذه المنطقة كانت مسرح تاريخ بنى إسرائيل بعد خروجهم من مصر ، وعلى أية حال فقد تركها القرآن مجملة فنكتفى بهذه الإِشارة " . والمعنى واذكر - أيها الرسول الكريم - لقومك لكى يعتبروا ويتعظوا وقت أن قال أخوك موسى - عليه السلام - لفتاه يوشع بن نون ، اصحبنى فى رحلتى هذه فإنى لا أزال سائرا حتى أصل إلى مكان التقاء البحرين ، فأجد فيه بغيتى ومقصدى ، { أو أمضى } فى سيرى { حقبا } أى زمنا طويلا ، إن لم أجد ما أبتغيه هناك . والحقب - بضم الحاء والقاف - جمعه أحقاب ، وفى معناه الحقبة - بكسر الحاء - وجمعها حقب - كسدرة وسدر - والحقبة - بضم الحاء - وجمعها حقب كغرفة وغرف - قيل مدتها ثمانون عاما . وقيل سبعون . وقيل زمان من الدهر مبهم غير محدد . والآية الكريمة تدل بأسلوبها البليغ ، على أن موسى - عليه السلام - كان مصمما على بلوغ مجمع البحرين مهما تكن المشقة فى سبيل ذلك ، ومهما يكن الزمن الذى يقطعه فى سبيل الوصول إلى غايته وهو يعبر عن هذا التصميم بما حكاه عنه القرآن بقوله { أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً } . وقد أشار الآلوسى - رحمه الله - إلى سبب تصميم موسى على هذه الرحلة فقال وكأن منشأ عزيمة موسى - عليه السلام - على ما ذكره ما رواه الشيخان وغيرهما من حديث ابن عباس عن أبى بن كعب ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن موسى - عليه السلام - قام خطيبا فى بنى إسرائيل فسئل أى الناس أعلم ؟ فقال أنا . فعاتبه الله - تعالى - عليه ، إذ لم يرد العلم إليه - سبحانه - فأوحى الله - تعالى - إليه إن لى عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك " . وفى رواية أخرى عنه عن أبى - أيضا - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " أن موسى - عليه السلام - سأل ربه فقال أى رب إن كان فى عبادك أحد هو أعلم منى فدلنى عليه فقال له " نعم فى عبادى من هو أعلم منك ، ثم نعت له مكانه وأذن له فى لقائه " . ثم تقص علينا السورة الكريمة ما حدث بعد ذلك فتقول { فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَٱتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي ٱلْبَحْرِ سَرَباً } . والفاء فى قوله { فلما بلغا } وفى قوله { فاتخذ سبيله … } هى الفصيحة . والسرب النفق الذى يكون تحت الأرض . أو القناة التى يدخل منها الماء إلى البستان لسقى الزرع . والمعنى وبعد أن قال موسى لفتاه ما قال ، أخذا فى السير إلى مجمع البحرين ، فلما بلغا هذا المكان { نسيا حوتهما } أى نسيا خبر حوتهما ونسيا تفقد أمره ، فحيى الحوت ، وسقط فى البحر ، واتخذ { سبيله } أى طريقه { فِي ٱلْبَحْرِ سَرَباً } . أى واتخذ الحوت طريقه فى البحر ، فكان هذا الطريق مثل السرب أى النفق فى الأرض بحيث يسير الحوت فيه ، وأثره واضح . قال الإِمام ابن كثير قوله { فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا } وذلك أنه كان قد أمر بحمل حوت مملوح - أى مشوى - معه وقيل له متى فقدت الحوت ، فهو ثمة - أى الرجل الصالح الذى هو أعلم منك يا موسى فى هذا المكان - فسارا حتى بلغا مجمع البحرين . وهناك عين يقال لها عين الحياة ، فناما هناك ، وأصاب الحوت من رشاش ذلك الماء فاضطرب ، وكان فى مكتل مع يوشع ، وطفر من المكتل إلى البحر ، فاستيقظ يوشع ، وسقط الحوت فى البحر ، وجعل يسير فيه ، والماء له مثل الطاق - أى مثل البناء المقوس كالقنطرة - لا يلتئم بعده ، ولهذا قال { فَٱتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي ٱلْبَحْرِ سَرَباً } أى مثل السرب فى الأرض . وقال الإِمام البيضاوى قوله { نسيا حوتهما } أى نسى موسى أن يطلبه ويتعرف حاله ، ونسى يوشع أن يذكر له ما رأى من حياته ووقوعه فى البحر . ثم بين - سبحانه - ما كان منهما بعد ذلك فقال { فلما جاوزا } أى المكان الذى فيه مجمع البحرين . { قال } موسى - عليه السلام - لفتاه يوشع بن نون { آتنا غداءنا } أى أحضر لنا ما نأكله من هذا الحوت المشوى الذى معنا ثم علل موسى - عليه السلام - هذا الطلب بقوله { لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَـٰذَا نَصَباً } أى تعبا وإعياء . واسم الإِشارة " هذا " مشار به إلى سفرهما المتلبسين به . قالوا ولكن باعتبار بعض أجزائه ، فقد صح أنه صلى الله عليه وسلم قال " لم يجد موسى شيئا من التعب حتى جاوز المكان الذى أمر به " . وقوله - سبحانه - { قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى ٱلصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ ٱلْحُوتَ } حكاية لما رد به يوشع على موسى - عليه السلام - عندما طلب منه الغداء . والاستفهام فى قوله { أرأيت } للتعجب مما حدث أمامه من شأن الحوت حيث عادت إليه الحياة ، وقفز فى البحر ، ومع ذلك نسى يوشع أن يخبر موسى عن هذا الأمر العجيب . أى قال يوشع لموسى - عليه السلام - تذكر وانتبه واستمع إلى ما سألقيه عليك من خبر هذا الحوت ، أرأيت ما دهانى فى وقت أن أوينا ولجأنا إلى الصخرة التى عند مجمع البحرين ، فإنى هناك نسيت أن أذكر لك ما شاهدته منه من أمور عجيبة ، فقد عادت إليه الحياة ، ثم قفز فى البحر . وقال { إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى ٱلصَّخْرَةِ } دون أن يذكر مجمع البحرين ، زيادة فى تحديد المكان وتعيينه . وأوقع النسيان على الحوت دون الغداء الذى طلبه منه موسى ، للإِشعار بأن الغداء الذى طلبه موسى منه ، هو ذلك الحوت الذى فقداه . وقوله { وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ ٱلشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ } جملة معترضة جئ بها لبيان ما يجرى مجرى السبب فى وقوع النسيان منه . وقوله { أن أذكره } بدل اشتمال من الهاء فى { أنسانيه } . أى وما أنسانى تذكيرك بما حدث من الحوت إلا الشيطان الذى يوسوس للإِنسان ، بوساوس متعددة ، تجعله يذهل وينسى بعض الأمور الهامة . وقوله { وَٱتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي ٱلْبَحْرِ عَجَباً } معطوف على قوله { فَإِنِّي نَسِيتُ ٱلْحُوتَ } . أى نسيت أن أخبرك بأن الحوت عندما أوينا إلى الصخرة عادت إليه الحياة ، واتخذ طريقه فى البحر اتخاذا عجيبا ، حيث صار يسير فيه وله أثر ظاهر فى الماء ، والماء من حوله كالقنطرة التى تنفذ منها الأشياء . وعلى هذا تكون جملة ، { وَٱتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي ٱلْبَحْرِ عَجَباً } ، من بقية كلام يوشع للتعجب مما حدث من الحوت ، حيث عادت إليه الحياة بقدرة الله - تعالى - ، واتخذ طريقه فى البحر بتلك الصورة العجيبة . وقيل إن هذه الجملة من كلام الله - تعالى - لبيان طرف آخر من أمر هذا الحوت العجيب ، بعد بيان أمره قبل ذلك بأنه اتخذ سبيله فى البحر سربا . ويبدو لنا أن الرأى الأول أرجح ، لأن سياق الآية يدل عليه ، لذا اكتفى به بعض المفسرين دون أن يشير إلى غيره . قال الامام الرازى قوله { وَٱتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي ٱلْبَحْرِ عَجَباً } فيه وجوه الأول أن قوله { عجبا } صفة لمصدر محذوف ، كأنه قيل واتخذ سبيله فى البحر اتخاذا عجبا ، ووجه كونه عجبا ، انقلابه من المكتل وصيرورته حيا وإلقاء نفسه فى البحر . الثانى أن يكون المراد منه ما ذكرنا من أنه - تعالى - جعل الماء عليه كالطاق وكالسراب . الثالث قيل إنه تم الكلام عند قوله { وَٱتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي ٱلْبَحْرِ } ثم قال بعده { عجبا } والمقصود منه تعجب يوشع من تلك الحالة العجيبة التى رآها ، ثم من نسيانه لها … وهنا يحكى القرآن ما يدل على أن موسى - عليه السلام - قد أدرك أنه تجاوز المكان الذى حدده له ربه - تعالى - للقاء العبد الصالح فقال { قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَٱرْتَدَّا عَلَىٰ آثَارِهِمَا قَصَصاً } . أى قال موسى لفتاه ذلك الذى ذكرته لى من أمر نسيانك لخبر الحوت هو الذى كنا نبغيه ونطلبه ، فإن العبد الصالح الذى نريد لقاءه موجود فى ذلك المكان الذى فقدنا فيه الحوت . { فَٱرْتَدَّا عَلَىٰ آثَارِهِمَا قَصَصاً } أى فرجعا من طريقهما الذى أتيا منه ، يتتبعان آثارهما لئلا يضلا عنه ، حتى انتهيا عائدين مرة أخرى إلى موضع الصخرة التى فقد الحوت عندها . وقصصا من القص بمعنى اتباع الأثر . يقال قص فلان أثر فلان قصا وقصصا إذا تتبعه . ثم حكى القرآن ما تم لهما بعد أن عادا إلى مكانهما الأول فقال { فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً } . أى وبعد أن عادا إلى مكان الصخرة عند مجمع البحرين مرة أخرى وجدا { عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ } الصالحين . والتنكير فى { عبدا } للتفخيم ، والإِضافة فى { عبادنا } للتشريف والتكريم . { آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا } أى هذا العبد الصالح منحناه وأعطيناه رحمة عظيمة من عندنا وحدنا لا من عند غيرنا واختصصناه بها دون غيره . وهذه الرحمة تشمل النعم التى أنعم الله - تعالى - بها عليه - كنعمة الهداية والطاعة وغيرهما . { وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً } أى وعلمناه من عندنا لا من عند غيرنا علماً خاصاً ، لا يتيسر إلا لمن نريد تيسيره ومنحه له . والمراد بهذا العبد الخضر - عليه السلام - كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة . ومن العلماء من يرى أنه كان نبيا ، ومنهم من يرى أنه كان عبدا صالحاً اختصه الله بلون معين من العلم اللدنى . أخرج البخارى وغيره عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال " إنما سمى الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء ، فإذا هى تهتز من خلفه خضراء " . ويرى المحققون من العلماء أنه قد مات كما يموت سائر الناس . وإلى ذلك ذهب الإِمام البخارى وشيخ الإِسلام ابن تيمية ، وتلميذه ابن القيم وغيرهم . ويرى آخرون أنه حى وسيموت فى آخر الزمان . قال ابن القيم إن الأحاديث التى يذكر فيها أنه حى كلها كذب ، ولا يصح فى ذلك حديث واحد . وهذه المسألة من المسائل التى فصل العلماء الحديث عنها . فارجع إلى أقوالهم فيها إن شئت . ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك ، ما دار بين موسى والخضر - عليهما السلام - بعد أن التقيا فقال - تعالى - { قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً … } .