Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 18, Ayat: 83-98)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وقوله - سبحانه - { وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي ٱلْقَرْنَيْنِ … } معطوف على قصة موسى والخضر - عليهما السلام - عطف القصة على القصة . قال البقاعى كانت قصة موسى مع الخضر مشتملة على الرحلات من أجل العلم ، وكانت قصة ذى القرنين مشتملة على الرحلات من أجل الجهاد فى سبيل الله ، ولما كان العلم أساس الجهاد تقدمت قصة موسى والخضر على قصة ذى القرنين … والسائلون هم كفار قريش بتلقين من اليهود ، فقد سبق أن ذكرنا عند تفسيرنا لقصة أصحاب الكهف . أن اليهود قالوا لوفد قريش سلوه - أى الرسول صلى الله عليه وسلم عن ثلاث نأمركم بهن … سلوه عن فتية ذهبوا فى الدهر الأول ماذا كان من أمرهم … وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها … وسلوه عن الروح . وجاء التعبير بصيغة المضارع - مع أن الآيات نزلت بعد سؤالهم - لاستحضار الصورة الماضية ، أو للدلالة على أنهم استمروا فى لجاجهم إلى أن نزلت الآيات التى ترد عليهم . أما ذو القرنين ، فقد اختلفت فى شأنه أقوال المفسرين اختلافا كبيرا ، لعل أقربها إلى الصواب ما أشار إليه الآلوسى بقوله وذكر أبو الريحان البيرونى فى كتابه المسمى " بالآثار الباقية عن القرون الخالية " ، أن ذا القرنين هو أبو كريب الحميرى ، وهو الذى افتخر به تبع اليمنى حيث قال @ قد كان ذو القرنين جدى مسلما ملكا علا فى الأرض غير مفند بلغ المغارب والمشارق يبتغى أسباب ملك من حكيم مرشد @@ ثم قال أبو الريجان ويشبه أن يكون هذا القول أقرب ، لأن ملوك اليمن كانوا يلقبون بكلمة ذى . كذى نواس ، وذى يزن . إلخ … ومن المقطوع به أن ذا القرنين هذا ليس هو الإِسكندر المقدونى الملقب بذى القرنين . تلميذ أرسطو ، فإن الإِسكندر هذا كان وثنيا … بخلاف ذى القرنين الذى تحدث عنه القرآن ، فإنه كان مؤمنا بالله - تعالى - ومعتقدا بصحة البعث والحساب . والرأى الراجح أنه كان عبدا صالحا ، ولم يكن نبيا . ويرى بعضهم أنه كان بعد موسى - عليه السلام - ، ويرى آخرون غير ذلك ومن المعروف أن القرآن الكريم يهتم فى قصصه ببيان العبر والعظات المستفادة من القصة ، لا ببيان الزمان أو المكان للأشخاص . وسمى بذى القرنين - على الراجح - لبلوغه فى فتوحاته قرنى الشمس من أقصى المشرق والمغرب . والمعنى ويسألك قومك - يا محمد - عن خبر ذى القرنين وشأنه . { قل } لهم - على سبيل التعليم والرد على تحديهم لك . { سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً } . والضمير فى " منه " يعود على ذى القرنين و " من " للتبعيض . أى قل لهم سأتلو عليكم من خبره - وسأقص عليكم من أنبائه عن طريق هذا القرآن الذى أوحاه الله إلى ما يفيدكم ويكون فيه ذكرى وعبرة لكم إن كنتم تعقلون . ثم بين - سبحانه - ما أعطاه الله لذى القرنين من نعم فقال { إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي ٱلأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً فَأَتْبَعَ سَبَباً } . وقوله { مكنا } من التمكين بمعنى إعطائه الوسائل التى جعلته صاحب نفوذ وسلطان فى أقطار الأرض المختلفة . والمفعول محذوف ، أى إنا مكنا له أمره من التصرف فيها كيف يشاء . بأن أعطيناه سلطانا وطيد الدعائم ، وآتيناه من كل شئ أراده فى دنياه لتقوية ملكه { سببا } أى سبيلا وطريقا يوصله إلى مقصوده ، كآلات السير ، وكثرة الجند ، ووسائل البناء والعمران . وهذه الأسباب التى أعطاها الله إياه ، لم يرد حديث صحيح بتفصيلها ، فعلينا أن نؤمن بأن الله - تعالى - قد أعطاه وسائل عظيمة لتدعيم ، ملكه ، دون أن نلتفت إلى ما ذكره هنا بعض المفسرين من إسرائيليات لا قيمة لها . والفاء فى قوله { فأتبع سببا } فصيحة . أى فأراد أن يزيد فى تدعيم ملكه ، فسلك طريقا لكى يوصله إلى المكان الذى تغرب فيه الشمس . { حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ ٱلشَّمْسِ } أى حتى إذا وصل إلى منتهى الأرض المعمورة فى زمنه من جهة المغرب . { وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ } أى رآها فى نظره عند غروبها ، كأنها تغرب فى عين مظلمة ، وإن لم تكن هى فى الحقيقة كذلك . وهذا هو المعتاد لمن كان بينه وبين أفق الشمس ماء فإنه يراها كأنها تشرق منه وتغرب فيه ، كما أن الذى يكون فى أرض ملساء واسعة ، يراها كأنها تطلع من الأرض وتغيب فيها . وحمئة أى ذات حمأة وهى الطين الأسود . يقال حمأَتِ البئر تَحمأُ حَمأً ، إذا صارت فيها الحمأَة وهى الطينة السوداء . وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائى { وجدها تغرب في عين حامية } أى حارة . اسم فاعل من حَمِى يَحْمَى حَمْياً . { وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً } أى ووجد عند تلك العين على ساحل البحر قوما . الظاهر أن هؤلاء القوم كانوا من أهل الفترة ، فدعاهم ذو القرنين إلى عبادة الله - تعالى - وحده ، فيهم من آمن وفيهم من كفر ، فخيره الله - تعالى - فيهم فقال { قُلْنَا يٰذَا ٱلْقَرْنَيْنِ إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً } . أى قال الله - تعالى - له عن طريق الالهام ، أو على لسان ملك أخبره بذلك يا ذا القرنين إما أن تعذب هؤلاء القوم الكافرين أو الفاسقين بالقتل أو غيره ، وإما أن تتخذ فيهم أمراً ذا حسن ، أو أمرا حسنا ، تقتضيه المصلحة والسياسة الشرعية . ثم حكى الله - تعالى - عنه فى الجواب ما يدل على سلامة تفكيره ، فقال { قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ … } أى قال ذو القرنين فى الرد على تخيير ربه له فى شأن هؤلاء القوم ، يا رب أما من ظلم نفسه بالإِصرار على الكفر والفسوق والعصيان { فسوف نعذبه } فى هذه الدنيا بالقتل وما يشبهه . ثم يرد هذا الظالم نفسه إلى ربه - سبحانه - فيعذبه فى الآخرة عذابا { نكرا } أى عذابا فظيعا عظيما منكرا وهو عذاب جهنم . { وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً } يقتضيه إيمانه { فله } فى الدارين { جزاء الحسنى } أى فله المثوبة الحسنى ، أو الفعلة الحسنى وهى الجنة . { وسنقول له } أى لمن آمن وعمل صالحا { من أمرنا } أى مما نأمره به قولا { يسرا } لا صعوبة فيه ولا مشقة ولا عسر . فأنت ترى أن ذا القرنين قد رد بما يدل على أنه قد اتبع فى حكمه الطريق القويم ، والأسلوب الحكيم ، الذى يدل على قوة الإِيمان ، وصدق اليقين ، وطهارة النفس . إنه بالنسبة للظالمين ، يعذب ، ويقتص ، ويرهب النفوس المنحرفة ، حتى تعود إلى رشدها ، وتقف عند حدودها . وبالنسبة للمؤمنين الصالحين ، يقابل إحسانهم بإحسان وصلاحهم بصلاح واستقامتهم بالتكريم والقول الطيب ، والجزاء الحسن . وهكذا الحاكم الصالح فى كل زمان ومكان الظالمون والمعتدون … يجدون منه كل شدة تردعهم وتزجرهم وتوقفهم عند حدودهم . والمؤمنون والمصلحون يجدون منه كل تكريم وإحسان واحترام وقول طيب . وقوله { ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً } بيان لما فعله بعد أن بلغ مغرب الشمس . أى وبعد أن بلغ مغرب الشمس ، ونال مقصده ، كر راجعا من جهة غروب الشمس إلى جهة شروقها . { حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ ٱلشَّمْسِ } أى حتى إذا كر راجعا وبلغ منتهى الأرض المعمورة فى زمنه من جهة المشرق . { وجدها } أى الشمس { تَطْلُعُ عَلَىٰ قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْراً } أى لم نجعل لهم من دون الشمس ما يستترون به من البناء أو اللباس ، فهم قوم عراة يسكنون الأسراب والكهوف فى نهاية المعمورة من جهة المشرق . وقوله { كذلك } خبر لمبتدأ محذوف ، أى أمر ذى القرنين كذلك من حيث إنه آتاه الله من كل شئ سببا ، فبلغ ملك مشارق الأرض ومغاربها . وقوله { وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً } بيان لشمول علم الله - تعالى - بأحوال ذى القرنين الظاهرة والباطنة ، ولأحوال غيره . أى كذلك كان شأن ذى القرنين . وقد أحطنا إحاطة تامة وعلمنا علما لا يعزب عنه شئ ، بما كان لدى ذى القرنين من جنود وقوة وآلات … وغير ذلك من أسباب الملك والسلطان . وقوله - سبحانه - { ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً } بيان لما فعله بعد أن بلغ مغرب الشمس ومشرقها . أى ثم بعد أن بلغ مغرب الشمس ومشرقها … سار فى طريق ثالث معترض بين المشرق والمغرب ، آخذا فيه { حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ } فى مسيره ذلك { بين السدين } أى الجبلين ، وسمى الجبل سدا ، لأنه سد فجا من الأرض . قالوا والسدان هما جبلان من جهة أرمينية وأذربيجان ، وقيل هما فى نهاية أرض الترك مما يلى المشرق { وَجَدَ مِن دُونِهِمَا } أى من دون السدين ومن ورائهما { قوما } أى أمة من الناس لغتهم لا تكاد تعرف لبعدهم عن بقية الناس ، ولذا قال - سبحانه - . { لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً } أى لا يكاد هؤلاء القوم يفهمون أو يقرءون ما يقوله الناس لهم ، لغرابة لغتهم وقلة فطنتهم ، ولا يعرف الناس - أيضا - ما يقوله هؤلاء القوم لهم ، لشدة عجمتهم . { قالوا } أى هؤلاء القوم لذى القرنين { يٰذَا ٱلْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي ٱلأَرْضِ } . ويأجوج ومأجوج اسمان أعجميان ، قيل مأخوذان من الأوجة وهى الاختلاط أو شدة الحر وقيل من الأوج وهو سرعة الجرى . واختلف فى نسبهم ، فقيل هم من ولد يافث بن نوح والترك منهم . وقيل يأجوج من الترك ، ومأجوج من الديلم . أى قال هؤلاء القوم - الذين لا يكادون يفقهون قولا - لذى القرنين ، بعد أن توسموا فيه القوة والصلاح … يا ذا القرنين إن قبيلة يأجوج ومأجوج مفسدون فى الأرض بشتى أنواع الفساد والنهب والسلب . وفى الصحيحين من حديث زينب بنت جحش - رضى الله عنها - قالت " استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم من نومه وهو محمر وجهه وهو يقول " لا إله إلا الله ، ويل للعرب من شر قد اقترب ، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه " ، وحلق - بين أصابعه - قلت يا رسول الله ، أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال " نعم إذا كثر الخبث " . وقوله - تعالى - { فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَىٰ أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً } حكاية لما عرضه هؤلاء القوم على ذى القرنين من عروض تدل على ثقتهم فيه وحسن أدبهم معه ، حيث خاطبوه بصيغة الاستفهام الدالة على أنهم يفوضون الأمر إليه . والخَرْج اسم لما يخرجه الإِنسان من ماله لغيره . وقرأ حمزة والكسائى خراجا وهما بمعنى واحد ، وقيل الخرجة الجزية . والخراج اسم لما يخرجه عن الأرض . أى فهل نجعل لك مقدارا كبيرا من أموالنا على سبيل الأجر ، لكى تقيم بيننا وبين قبيلة يأجوج ومأجوج سدا يمنعهم من الوصول إلينا . ويحول بيننا وبينهم ؟ وهنا يرد عليهم ذو القرنين - كما حكى القرآن عنه بما يدل على قوة إيمانه وحرصه على إحقاق الحق وإبطال الباطل . فيقول { قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ … } . أى قال ذو القرنين لهؤلاء القوم الذين لا يكادون يفقهون قولا إن ما بسطه الله - تعالى - لى من الرزق والمال والقوة … خير من خرجكم ومالكم الذى تريدون أن تجعلوه لى فى إقامة السد بينكم وبين يأجوج ومأجوج ، فوفروا عليكم أموالكم ، وقفو إلى جانبى { فأعينونى } بسواعدكم وبآلات البناء { بقوة } أى بكل ما أتقوى به على المقصود وهو بناء السد ، لكى { أجعل بينكم } وبين يأجوج ومأجوج { ردما } . أى حاجزاً حصينا . وجدارا متينا ، يحول بينكم وبينهم . والردم الشئ الذى يوضع بعضه فوق بعض حتى يتصل ويتلاصق . يقال ثوب مردم ، أى فيه رقاع فوق رقاع . وسحاب مردم ، أى متكاتف بعضه فوق بعض . ويقال ردمت الحفرة ، إذا وضعت فيها من الحجارة والتراب وغيرهما ما يسويها بالأرض . قال ابن عباس الردم أشد الحجاب . وجملة { أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً } جواب الأمر فى قوله { فأعينونى بقوة } . ثم شرع فى تنفيذ ما راموه منه من عون فقال { آتُونِي زُبَرَ ٱلْحَدِيدِ … } . والزبرَ - كالغُرَف - جمع زُبره - كغرفة - وهى القطعة الكبيرة من الحديد وأصل الزبر . الاجتماع ومنه زبرة الأسد لما اجتمع من الشعر على كاهله . ويقال زبرت الكتاب أى كتبته وجمعت حروفه . أى أحضروا لى الكثير من قطع الحديد الكبيرة ، فأحضروا له ما أراد { حَتَّىٰ إِذَا سَاوَىٰ بَيْنَ ٱلصَّدَفَيْنِ } أى بين جانبى الجبلين . وسمى كل واحد من الجانبين صدفا . لكونه مصادفا ومقابلا ومحاذيا للآخر ، مأخوذ من قولهم صادفت الرجل أى قابلته ولاقيته ، ولذا لا يقال للمفرد صدف حتى يصادفه الآخر ، فهو من الأسماء المتضايفة كالشفع والزوج . وقوله { قالوا انفخوا } أى النار على هذه القطع الكبيرة من الحديد الموضوع بين الصدفين . وقوله { حَتَّىٰ إِذَا جَعَلَهُ نَاراً } أى حتى إذا صارت قطع الحديد الكبيرة كالنار فى احمرارها وشدة توهجها { قَالَ آتُونِيۤ أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً } أى نحاسا أو رصاصا مذابا ، وسمى بذلك لأنه إذا أذيب صار يقطر كما يقطر الماء . أى قال لهم أحضروا لى قطع الحديد الكبيرة ، فلما أحضروها له ، أخذ يبنى شيئا فشيئا حتى إذا ساوى بين جانبى الجبلين بقطع الحديد ، قال لهم أوقدوا النار وانفخوا فيها بالكيران وما يشبهها لتسخين هذه القطع من الحديد وتليينها ، ففعلوا ما أمرهم به ، حتى صارت تلك القطع تشبه النار فى حرارتها وهيئتها ، قال أحضروا لى نحاسا مذابا ، لكى أفرغه على تلك القطع من الحديد لتزداد صلابة ومتانة وقوة . وبذلك يكون ذو القرنين قد لبى دعوة أولئك القوم فى بناء السد . وبناه لهم بطريقة محكمة سليمة ، اهتدى بها العقلاء فى تقوية الحديد والمبانى فى العصر الحديث . وكان الداعى له لهذا العمل الضخم ، الحيلولة بين هؤلاء القوم ، وبين يأجوج ومأجوج الذين يفسدون فى الأرض ولا يصلحون . ولقد أخبر القرآن الكريم بأن ذا القرنين بهذا العمل جعل يأجوج ومأجوج يقفون عاجزين أمام هذا السد الضخم المحكم فقال { فَمَا ٱسْطَاعُوۤاْ أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا ٱسْتَطَاعُواْ لَهُ نَقْباً } . أى فما استطاع قوم يأجوج ومأجوج أن يرتفعوا على ظهر السد ، أو يرقوا فوقه لملاسته وارتفاعه ، وما استطاعوا - أيضاً - أن يحدثوا فيه نقبا أو خرقا لصلابته ومتانته وثخانته . ووقف ذو القرنين أمام هذا العمل العظيم ، مظهرا الشكر لله - تعالى - ، والعجز أمام قدرته - عز وجل - شأن الحكام الصادقين فى إيمانهم ، الشاكرين لخالقهم توفيقه إياهم لكل خير . وقف ليقول بكل تواضع وخضوع لخالقه … { هَـٰذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي } . أى هذا الذى فعلته من بناء السد وغيره ، أثر من آثار رحمة ربى التى وسعت كل شئ . { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي } الذى حدده لفناء هذه الدنيا ونهايتها ، أو الذى حدده لخروجهم منه { جعله دكاء } أى جعل هذا السد أرضا مستوية ، وصيره مدكوكا أى بمساواة الأرض . ومنه قولهم ناقة دكاء أى لا سنام لها . { وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً } أى وكان كل ما وعد الله - تعالى - به عباده من ثواب وعقاب وغيرهما ، وعدا حقا لا يتخلف ولا يتبدل ، كما قال - سبحانه - { وَعْدَ ٱللَّهِ لاَ يُخْلِفُ ٱللَّهُ وَعْدَهُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } وبذلك نرى فى قصة ذى القرنين ما نرى من الدروس والعبر والعظات ، التى من أبرزها . أن التمكين فى الأرض نعمة يهبها الله لمن يشاء من عباده . وأن السير فى الأرض لإِحقاق الحق وإبطال الباطل من صفات المؤمنين الصادقين ، وأن الحاكم العادل من صفاته ردع الظالمين عن ظلمهم ، والإِحسان إلى المستقيمين المقسطين ، والعمل على ما يجعلهم يزدادون استقامة وفضلا ، وأن من معالم الخلق الكريم ، أن يعين الإِنسان المحتاج إلى عونه ، وأن يقدم له ما يصونه عن الوقوع تحت وطأة الظالمين المفسدين ، وأن من الأفضل أن يحتسب ذلك عند الله - تعالى - . وألا يطلب من المحتاج إلى عونه أكثر من طاقته . كما أن من أبرز صفات المؤمنين الصادقين أنهم ينسبون كل فضل إلى الله - تعالى - وإلى قدرته النافذة ، وأنهم يزدادون شكرا وحمداً له - تعالى - كلما زادهم من فضله ، وما أجمل وأحكم أن تختتم قصة ذى القرنين بقوله - تعالى - { قَالَ هَـٰذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّآءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً } . ثم تسوق السورة الكريمة بعد قصة ذى القرنين آيات تذكر الناس بأهوال يوم القيامة ، لعلهم يتوبون ويتذكرون . استمع إلى السورة الكريمة وهى تصور ذلك فتقول { وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً … } .