Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 19, Ayat: 22-26)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قال ابن كثير رحمه الله يقول - تعالى - مخبراً عن مريم ، أنها لما قال لها جبريل عن الله - تعالى - ما قال أنها استسلمت لقضائه - تعالى - ، فذكر غير واحد من علماء السلف ، أن الملك وهو جبريل - عليه السلام - عند ذلك نفخ فى جيب درعها ، فنزلت النفخة حتى ولجت فى الفرج ، فحملت بالولد بإذن الله - تعالى - … والمشهور عن الجمهور أنها حملت به تسعة أشهر . قال عكرمة ثمانية أشهر . وعن ابن عباس أنه قال لم يكن إلا أن حملت فوضعت ، وهذا غريب ، وكأنه مأخوذ من ظاهر قوله - تعالى - { فَحَمَلَتْهُ فَٱنْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً فَأَجَآءَهَا ٱلْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ ٱلنَّخْلَةِ } . فالفاء وإن كانت للتعقيب ، لكن تعقيب كل شىء بحسبه . فالمشهور الظاهر - والله على كل شىء قدير - أنها حملت به كما تحمل النساء بأولادهن … " . والفاء فى قوله - تعالى - { فَحَمَلَتْهُ … } هى الفصيحة أى وبعد أن قال جبريل لمريم إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكيا … نفخ فيها فحملته ، أى عيسى ، فانتبذت به ، أى فتنحت به وهو فى بطنها { مَكَاناً قَصِيّاً } أى إلى مكان بعيد عن المكان الذى يسكنه أهلها . يقال قَصِى فلان عن فلان قَصْواً وقُصُوًّا ، إذا بعد عنه . ويقال فلان بمكان قصى ، أى بعيد . وجمهور العلماء علىأن هذا المكان القصى ، كان بيت لحم بفلسطين . قال ابن عباس أقصى الوادى ، وهو وادى بيت لحم ، فراراً من قومها أن يعيروها بولادتها من غير زوج " . ثم حكى - سبحانه - ما اعتراها من حزن عندما أحست بقرب الولادة فقال { فَأَجَآءَهَا ٱلْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ ٱلنَّخْلَةِ قَالَتْ يٰلَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَـٰذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً } . وقوله { فَأَجَآءَهَا } أى فألجأها ، يقال أجأته إلى كذا ، بمعنى ألجأته واضطرته إليه . ويقال جاء فلان . وأجاءه غيره ، إذا حمله على المجىء ، ومنه قول الشاعر @ وجارٍ سارَ معتمداً علينا أجاءته المخافة والرجاء @@ قال صاحب الكشاف " أجاء منقول من جاء ، إلا أن استعماله قد تغير بعد النقل إلى معنى الإلجاء . ألا تراك تقول جئت المكان وأجاءنيه زيد ، كما تقول بلغته وأبلغنيه … " . والمخاض وجع الولادة . يقال مخضت المرأة - بكسر الخاء - تمخض - بفتحها - إذا دنا وقت ولادتها مأخوذ من المخض ، وهو الحركة الشديدة ، وسمى بذلك لشدة تحرك الجنين فى بطن الأم عند قرب خروجه . وجذع النخلة ساقها الذى تقوم عليه . أى وبعد أن حملت مريم بعيسى ، وابتعدت به - وهو محمول فى بطنها - عن قومها ، وحان وقت ولادتها . ألجأها المخاض إلى جذع النخلة لنتكىء عليه عند الولادة … فاعتراها فى تلك الساعة ما اعتراها من هم وحزن وقالت { يٰلَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَـٰذَا } الحمل والمخاض الذى حل بى { وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً } أى وكنت شيئاً منسياً متروكاً ، لا يهتم به أحد ، وكل شىء نُسى وترك ولم يطلب فهو نَسْىٌ ونسِيُّ . قال القرطبى " والنِّسْىُ فى كلام العرب الشىء الحقير الذى من شأنه أن ينسى ولا يتألم لفقده كالوتد ، والحبل للمسافر ، وقرىء { نَسْياً } بكسر النون وهما لغتان مثل الوِتر والوَتر … " . قال الآلوسى ما ملخصه " وإنما قالت ذلك مع أنها كانت تعلم ما جرى بينها وبين جبريل من الوعد الكريم ، استحياء من الناس ، وخوفاً من لائمتهم ، أو حذرا من وقوع الناس فى المعصية بسبب كلامهم فى شأنها . وتمنى الموت لمثل ذلك لا كراهة فيه - لأنه يتعلق بأمر دينى - نعم يكره أن يتمنى المرء الموت لأمر دنيوى كمرض أو فقر … ففى صحيح مسلم ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " لا يتمنين أحدكم الموت لضرر نزل به ، فإن كان لا بد متمنيا فليقل الله أحينى ما كانت الحياة خيراً لى ، وتوفنى إذا كانت الوفاة خيراً لى " . ومن ظن أن تمنى مريم الموت كان لشدة الوجع فقد اساء الظن . ثم ذكر - سبحانه - جانباً من إكرامه لمريم فى تلك الساعات العصيبة من حياتها فقال { فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً وَهُزِّىۤ إِلَيْكِ بِجِذْعِ ٱلنَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً فَكُلِي وَٱشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً … } . والذى ناداها يرى بعضهم أنه جبريل - عليه السلام - . وقوله { مِن تَحْتِهَآ } فيه قراءتان سبعيتان إحداهما بكسر الميم فى لفظ { مِن } على أنه حرف جر ، وخفض تاء { تَحْتِهَآ } على أنه مجرور بحرف الجر والفاعل محذوف أى فناداها جبريل من مكان تحتها ، أى أسفل منها … والثانية بفتح فى لفظ { مَن } على أنه اسم موصول ، فاعل نادى وبفتح التاء فى { تَحْتَهَآ } على الظرفية ، أى فنادها الذى هو تحتها ، وهو جبريل - عليه السلام - . قال القرطبى قوله - تعالى - { فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ } . قال ابن عباس المراد بمن تحتها جبريل ، ولم يتكلم عيسى حتى أتت به قومها … ففى هذا لها آية وأمارة أن هذا من الأمور الخارقة للعادة ، التى لله - تعالى - فيها مراد عظيم " . ويرى بعض المفسرين أن المنادى هو عيسى - عليه السلام - فيكون المعنى فناداها ابنها عيسى الذى كان عندما وضعته موجوداً تحتها . وقد رجح الإمام ابن جرير هذا الرأى فقال " وأولى القولين فى ذلك عندنا قول من قال الذى ناداها ابنها عيسى ، وذلك أنه من كناية - أى ضمير - ذكره أقرب منه من ذكر جبريل ، فرده على الذى هو أقرب إليه أولى من رده على الذى هو أبعد منه ، ألا ترى أنه فى سياق قوله - تعالى - { فَحَمَلَتْهُ فَٱنْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً . . } ثم قيل فناداها نسقا على ذلك ، ولعلة أخرى وهى قوله { فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ … } ولم تشر إليه - إن شاء الله - إلا وقد علمت أنه ناطق فى حاله تلك … " . ويبدو لنا أن ما ذهب إليه ابن جرير من كون الذى نادى مريم هو ابنها عيسى ، أقرب إلى الصواب ، لأن هذا النداء منه لها فى تلك الساعة ، فيه ما فيه من إدخال الطمأنينة والسكينة على قلبها . أى فناداها ابنها عيسى الذى كان أسفل منها عندما وضعته . مطمئناً إياها بعد أن قالت يا ليتنى مت قبل هذا الذى حدث لى … ناداها بقوله { أَلاَّ تَحْزَنِي } يا أماه { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً } أى جدولاً صغيراً من الماء ، لتأخذى منه ما أنت فى حاجة إليه ، وسمى النهر الصغير من الماء سريا ، لأن الماء يسرى فيه . وقيل المراد بالسرى عيسى - عليه السلام - مأخوذ من السَّرْو بمعنى الرفعة والشرف . يقال سَرُوَ الرجل يسرو - كشرف يشرف - فهو سَرِىّ ، إذا علا قدره وعظم أمره ومنه قول الشاعر @ لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا @@ أى قد جعل ربك تحتك يا مريم إنسانا رفيع القدر ، وهو ابنك عيسى ، والجلمة الكريمة تعليل لانتفاء الحزن المفهوم من النهى بقوله { أَلاَّ تَحْزَنِي } قال بعض العلماء ما ملخصه " وأظهر القولين عندى أن السرى فى الآية النهر الصغير لأمرين أحدهما القرينة من القرآن ، لأن قوله بعد ذلك { فَكُلِي وَٱشْرَبِي } قرينة على أن ذلك المأكول والمشروب هو ما تقدم الامتنان به فى قوله { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً } . الثانى ما جاء عن ابن عمر من أنه سمع النبى - صلى الله عليه وسلم - يقول " إن السرى الذى قال الله لمريم { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً } نهر أخرجه الله لها لتشرب منه " . فهذا الحديث - وإن كانت طرقه لا يخلو شىء منها من ضعف - أقرب إلى الصواب من دعوى أن السرى عيسى بغير دليل يجب الرجوع إليه " . وقوله - سبحانه - { وَهُزِّىۤ إِلَيْكِ بِجِذْعِ ٱلنَّخْلَةِ } . معطوف على ما قاله عيسى لأمه مريم . والباء فى قوله { بِجِذْعِ } مزيدة للتوكيد ، لأن فعل الهز يتعدى بنفسه . أى وحركى نحوك أو جهة اليمين أو الشمال جذع النخلة { تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً } وهو ما نضج واستوى من الثمر { جَنِيّاً } أى صالحاً للأخذ والاجتناء { فَكُلِي } من ذلك الرطب { وَٱشْرَبِي } من ذلك السرى ، { وَقَرِّي عَيْناً } أى طيبى نفسا بوجودى تحتك ، واطردى عنك الأحزان . يقال قرت عين فلان ، إذا رأت ما كانت متشوقة إلى رؤيته . مأخوذ من القرار بمعنى الاستقرار والسكون ، لأن العين إذا رأت ما تحبه سكنت إليه ، ولم تنظر إلى غيره . وقد أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة ، أن مباشرة الأسباب فى طلب الرزق أمر واجب وأن ذلك لا ينافى التوكل على الله ، لأن المؤمن يتعاطى الأسباب امتثالاً لأمر ربه مع علمه ويقينه أنه لا يقع فى ملكه - سبحانه - إلا ما يشاؤه ويريده . وهنا قد أمر الله - تعالى - مريم - على لسان مولودها - بأن تهز النخلة ليتساقط لها الرطب ، مع قدرته - سبحانه - على إنزال الرطب إليها من غير هز أو تحريك ، ورحم الله القائل @ ألم تر أن الله قال لمريم وهزى إليك الجذع يساقط الرطب ولو شاء أن تجنيه من غير هزه جنته ، ولكن كل شىء له سبب @@ كما أخذوا منها أن خير ما تأكله المرأة بعد ولادتها الرطب ، قالوا لأنه لو كان شىء أحسن للنفساء من الرطب لأطعمه الله - تعالى لمريم . وقوله - سبحانه - { فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ ٱلبَشَرِ أَحَداً فَقُولِيۤ إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَـٰنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ ٱلْيَوْمَ إِنسِيّاً } حكاية منه - تعالى - لبقية كلام عيسى لأمه . ولفظ { إِمَّا } مركب من إن الشرطية ، و ما المزيدة لتوكيد الشرط و { تَرَيِنَّ } فعل الشرط ، وجوابه { فَقُولِيۤ } وبين هذا الجواب وشرطه كلام محذوف يرشد إليه السياق . والمعنى أن عيسى - عليه السلام - قال لأمه لا تحزنى يا أماه بسبب وجودى بدون أب ، وقرى عينا ، وطيبى نفسا لذلك ، فإما ترين من البشر أحداً كائناً من كان فسألك عن أمرى وشأنى فقولى له { إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَـٰنِ صَوْماً } أى صمتا عن الكلام { فَلَنْ أُكَلِّمَ ٱلْيَوْمَ إِنسِيّاً } لا فى شأن هذا المولود ولا فى شأن غيره ، وإنما سأترك الكلام لابنى ليشرح لكم حقيقة أمره . قالوا إنما منعت من الكلام لأمرين أحدهما ان يكون عيسى هو المتكلم عنها ليكون أقوى لحجتها فى إزالة التهمة عنها ، وفى هذا دلالة على تفويض الكلام إلى الأفضل . والثانى " كراهة مجادلة السفهاء ، وفيه أن السكوت عن السفيه واجب ، ومن أذل الناس سفيه لم يجد مسافها " . وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد حكت لنا بأسلوبها البليغ الحكيم ما فعلته مريم عندما شعرت بالحمل وما قالته عندما أحست بقرب الولادة ، وما قاله لها مولودها عيسى من كلام جميل طيب ، لإدخال الطمأنينة على قلبها . ثم انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن مشهد آخر من مشاهد تلك القصة العجيبة مشهد مريم عندما جاءت بوليدها إلى قومها ، وما قالوه لها ، وما قاله وليدها لهم … استمع إلى القرآن الكريم وهو يحكى ذلك فيقول { فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا … } .