Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 19, Ayat: 27-33)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وقوله - سبحانه - { فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ … } معطوف على كلام محذوف يفهم من سياق القصة . والتقدير وبعد أن استمعت مريم إلى ما قاله ابنها عيسى - عليه السلام - اطمأنت نفسها ، وقرت عينها ، فأتت به أى بمولودها عيسى إلى قومها . وهى تحمله معها من المكان القصى الذى اعتزلت فيه قومها . قال الآلوسى أى جاءتهم مع ولدها حاملة إياه ، على أن الباء للمصاحبة ، وجملة { تَحْمِلُهُ } فى موضع الحال من ضمير مريم … وكان هذا المجىء على ما أخرج سعيد بن منصور ، وابن عساكر عن ابن عباس بعد أربعين يوماً حين طهرت من نفاسها … وظاهر الآية والأخبار " أنها جاءتهم به من غير طلب منهم … " . ثم حكى - سبحانه - ما قاله قومها عندما رأوها ومعها وليدها فقال { يٰمَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً } . أى قالوا لها على سبيل الإنكار يا مريم لقد جئت أى فعلت شيئاً منكراً عجيباً فى بابه ، حيث أتيت بولد من غير زوج نعرفه لك . والفَرِى مأخوذ من فريت الجلد إذا قطعته ، أى شيئاً قاطعاً وخارقاً للعادة ، ومرادهم أنها أتت بولدها عن طريق غير شرعى ، كما قال - تعالى - فى آية أخرى { وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَىٰ مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً } ويدل على أن مرادهم هذا ، قولهم بعد ذلك { يٰأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ ٱمْرَأَ سَوْءٍ } . أى ما كان أبوك رجلاً زانياً أو معروفاً بالفحش { وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً } أى تتعاطى الزنا . يقال بغت المرأة ، إذا فجرت وابتعدت عن طريق الطهر والعفاف . وليس المراد بهارون هارون بن عمران أخا موسى ، وإنما المراد به رجل من قومها معروف بالصلاح والتقوى ، فشبهت به ، أى يا أخت هارون فى الصلاح والتقوى . أو المراد به أخ لها كان يسمى بهذا الاسم . قال الآلوسى ما ملخصه " وقوله { يٰأُخْتَ هَارُونَ } استئناف لتجديد التعيير ، وتأكيد التوبيخ ، وليس المراد بهارون أخا موسى بن عمران - عليهما السلام - لما أخرج أحمد ، ومسلم ، والترمذى ، والنسائى ، والطبرانى ، وابن حبان ، وغيرهم عن المغيرة بن شعبة قال بعثنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل نجران فقالوا أرأيت ما تقرأون { يٰأُخْتَ هَارُونَ } وموسى قبل عيسى بكذا وكذا . قال فرجعت فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال " ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم " . وعن قتادة قال " هو رجل صالح فى بنى إسرائيل ، والأخت على هذا بمعنى المشابهة ، وشبهوها به تهكماً ، أو لما رأوا قبل من صلاحها … " . وعلى أية حال فإن مرادهم بقولهم هذا ، هو اتهام مريم بما هى بريئة منه ، والتعجب من حالها ، حيث انحدرت من أصول صالحة طاهرة ، ومع ذلك لم تنهج نهجهم . وهنا نجد مريم تبدأ فى الدفاع عن نفسها ، عن طريق وليدها { فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ } . أى فأشارت إلى ابنها عيسى ، ولسان حالها يقول لهم وجهوا كلامكم إليه فإنه سيخبركم بحقيقة الأمر . ولكنهم لم يقتنعوا بإشارتها بل قالوا لها { كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي ٱلْمَهْدِ صَبِيّاً } . والمهد اسم للمضطجع الذى يهيأ للصبى فى رضاعه . وهو فى الأصل مصدر مهده يمهده إذا بسطه وسواه . أى كيف نكلم طفلاً صغيراً ما زال فى مهده وفى حال رضاعه . والفعل الماضى وهو { كَانَ } ههنا بمعنى الفعل المضارع المقترن بالحال ، كما يدل عليه سياق القصة . ولكن عيسى - عليه السلام - أنطقه الله - تعالى - بما يدل على صدق مريم وطهارتها فقال { قَالَ إِنِّي عَبْدُ ٱللَّهِ … } أى قال عيسى فى رده على المنكرين على أمه إتيانها به إنى عبد الله ، خلقنى بقدرته ، فأنا عبده وأنتم - أيضاً - عبيده ، وهذا الخالق العظيم { آتَانِيَ ٱلْكِتَابَ } أى سبق فى قضائه إيتائى الكتاب أى الإنجيل أو التوراة أو مجموعهما . وعبر فى هذه الجملة وفيما بعدها بالفعل الماضى عما سيقع فى المستقبل ، تنزيلاً لتحقق الوقوع منزلة الوقوع الفعلى . وهذا التعبير له نظائر كثيرة فى القرآن الكريم ، منها قوله - تعالى - { أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } وقوله - سبحانه - { وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ ٱللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ } وقوله { وَجَعَلَنِي نَبِيّاً } أدعو الناس إلى عبادته وحده { وَجَعَلَنِي } أيضاً بجانب نبوتى { مُبَارَكاً } أى كثير الخير والبركة { أَيْنَ مَا كُنتُ } أى حينما حللت جعلنى مباركاً ، فأينما شرطية وجوابها محذوف لدلالة ما قبله عليه . { وَأَوْصَانِي بِٱلصَّلاَةِ وَٱلزَّكَاةِ } أى بالمحافظة على أدائهما { مَا دُمْتُ حَيّاً } فى هذه الدنيا . وقوله { وَبَرّاً بِوَالِدَتِي } ، أى وجعلنى كذلك مطيعاً والدتى ، وبارا بها ، ومحسنا إليها ، { وَلَمْ يَجْعَلْنِي } سبحانه - فضلاً منه وكرماً { جَبَّاراً شَقِيّاً } أى ولم يجعلنى مغرروا متكبراً مرتكباً للمعاصى والموبقات . { وَٱلسَّلاَمُ } والأمان منه - تعالى - { عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ } مفارقا هذه الدنيا { وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً } للحساب والجزاء يوم القيامة . فأنت ترى أن عيسى - عليه السلام - قد وصف نفسه بمجموعة من الصفات الفاضلة ، افتتحها بصفة العبودية لله رب العالمين ، لإرشاد الناس إلى تلك الحقيقة التى لا حق سواها . ولتحذير أعدائه من وصفه بأنه هو الله ، أو هو ابن الله ، أو هو مشارك له فى العبادة … واختتمها برجاء الأمان له من الله - تعالى - فى كل أطوار حياته . ثم ختم - سبحانه - هذه القصة ببيان وجه الحق فيها ، وأنذر الذين وصفوا عيسى وأمه بما هما بريئان منه بسوء المصير . فقال - تعالى - { ذٰلِكَ عِيسَى … } .