Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 125-129)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - تعالى - { وَإِذْ جَعَلْنَا ٱلْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنا } معطوف على قوله - تعالى - { وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ } وجعلنا بمعنى صرنا . والبيت المقصود به الكعبة ، إذ غلب استعمال البيت فيها حتى صار اسما لها . ومثابة للناس مرجعاً للناس يرجعون إليه من كل جانب ، وهو مصدر ميمى من ثاب القوم إلى المكان رجعوا إليه . فهم يثوبون إليه ثواباً وثوبانا ، أو معاذا لهم يلجأون إليه أو موضع ثواب يثابون بحجه واعتماره . والأمن السلامة من الخوف ، وأمن المكان اطمئنان أهله به ، وعدم خوفهم من أن ينالهم فيه مكروه فالبيت مأمن ، أى موضع أمن . وأخبر - سبحانه - بأنه جعله أمنا ليدل على كثرة ما يقع به من الأمن حتى صار كأنه نفس الأمن . وكذلك صار البيت الحرام محفوظاً بالأمن من كل ناحية ، فقد كان الناس فى الجاهلية يقتتلون ويعتدى بعضهم على بعض من حوله ، أما أهله فكانوا فى أمان واطمئنان . قال تعالى { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ ٱلنَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } وقال - تعالى - { فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } وقد أقرت تعاليم الإِسلام هذه الحرمة للبيت الحرام على وجه لا يضيع حقاً ولا يعطل حداً ، وزادت فى تكريمه وتشريفه بأن جعلت الحج إليه فريضة على كل قادر عليها . قال الإِمام ابن كثير " ومضمون ما فسر به العلماء هذه الآية أن الله تعالى يذكر شرف البيت وما جعله موصوفاً به شرعاً وقدراً من كونه مثابة للناس . أى جعله محلا تشتاق إليه الأرواح وتحن إليه ولا تقضى منه وطراً ولو ترددت إليه فى كل عام استجابة من الله - تعالى - لدعاء خليله إبراهيم فى قوله تعالى { فَٱجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهْوِيۤ إِلَيْهِمْ } ويصفه - تعالى - بأنه جعله أمنا من دخله أمن ولو كان قد فعل ما فعل ثم دخله كان آمنا ، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم كان الرجل يلقى قاتل أبيه أو أخيه فيه فلا يعرض له { وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } الاتخاذ الجعل ، تقوم اتخذت فلاناً صديقاً أى جعلته صديقاً . والمقام فى اللغة موضع القدمين من قام يقوم ، ومقام إبراهيم هو الحجر الذى كان إبراهيم يقوم عليه عند بناء الكعبة لما ارتفع الجدار ، وهو - على المشهور - تحت المصلى المعروف الآن بهذا الاسم . ومعنى اتخاذ مصلى منه القصد إلى الصلاة عنده . فقد ورد فى الحديث الصحيح الذى رواه الإِمام مسلم عن جابر بن عبد الله " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت سبعاً وصلى خلف المقام ركعتين " " . ومن العلماء من فسر مقام إبراهيم بالمسجد الحرام ، ومنهم من أطلقه على الكعبة لأن إبراهيم كان يقوم عندها لعبادة الله تعالى . قال الإِمام ابن كثير " وقد كان هذا المقام - أى الحجر الذى يسمى مقام إبراهيم - ملصقاً بجدار الكعبة قديماً ، ومكانه معروف اليوم إلى جانب الباب مما يلى الحجر على يمين الداخل من الباب فى البقعة المستقلة هناك ، وكان الخليل - عليه السلام - لما فرغ من بناء البيت وضعه إلى جدار الكعبة … ثم قال وإنما أخره عن جدار الكعبة إلى موضعه الآن عمر - رضى الله عنه - ولم ينكر ذلك عليه أحد من الصحابة ثم قال - تعالى - { وَعَهِدْنَآ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَٱلْعَاكِفِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ } . عهدنا أمرنا وأوحينا ، و { أَن } مفسرة المأمور به أو الموصى به المشار إليه بقوله { عَهِدْنَآ } أى أوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتى . وأضاف - سبحانه - البيت إليه للتشريف والتكريم ومعنى تطهيره صيانته من كل ما لا يليق ببيوت الله من الأقذار والأرجاس والأوثان وكل ما كان مظنة للشرك ، فالمقصود تطهيره من كل رجس حسى ومعنوى . والطائفين جمع طائف من طاف يطوف طوفاً وطوافاً إذا دار حول الشىء والمراد بهم المتقربون إلى الله بالطواف حول الكعبة . والعاكفين جمع عاكف ، من عكف على الشىء عكوفاً إذا أقام عليه ملازماً له ، والمراد بهم المقيمون فى الحرم بقصد العبادة ، ويدخل فى العبادة مدارسة العلوم الدينية وما يساعد على فهمها . والركع السجود الركع جمع راكع ، والسجود جمع ساجد . والركوع والسجود من هيئات الصلاة وأركانها ، فمعنى " والركع السجود " المصلون . فالآية الكريمة جمعت أصناف العابدين فى البيت الحرام وهم الطائفون وإن لم يكونوا مقيمين ، كمن يأتون لحج أو عمرة ثم ينصرفون . والعاكفون الذين يقيمون فى الحرم بقصد الإِكثار من العبادة فى المسجد الحرام . والمصلون يتقربون إلى الله بالصلوات سواء أكانت فرائض أم نوافل . ولم يعطف السجود على الركع ، لأن الوصفين متلازمان ولو عطف لتوهم أنهما وصفان مفترقان . ثم ساق القرآن بعد ذلك نماذج من الدعوات التى تضرع بها إبراهيم إلى ربه فقال { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَداً آمِناً } أى أضرع إليك يا إلهى أن تجعل الموضع الذى فيه بيتك مكانا يأنس إليه الناس ، ويأمنون فيه من الخوف ، ويجدون فيه كل ما يرجون من أمان واطمئنان . والمشار إليه بقوله { هَـٰذَا } مكة المكرمة . والبلد كل قطعة من الأرض عامرة أو غامرة . والمقصود بالدعاء إنما هو أمن أهله لأن الأمن والخوف لا يلحقان البلد ، وإنما يلحقان أهل البلد . قال الإِمام الرازى وإنما قال هنا { بَلَداً آمِناً } على التنكير ، وقال فى سورة إبراهيم { رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا ٱلْبَلَدَ ءَامِناً } على التعريف لوجهين الأول أن الدعوة الأولى وقعت ولم يكن المكان قد جعل بلداً ، كأنه قال اجعل هذا الوادى بلداً آمناً . والدعوة الثانية وقعت وقد جعل بلداً ، فكأنه قال اجعل هذا المكان الذى صيرته بلداً ذا أمن وسلامة . الثانى أن تكون الدعوتان وقعتا بعد ما صار المكان بلداً ، فقوله { ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَداً آمِناً } تقديره أجعل هذا البلد بلداً آمناً كقولك كان اليوم يوماً حاراً ، وهذا إنما تذكره للمبالغة فى وصفة بالحرارة ، لأن التنكير يدل على المبالغة فقوله رب اجعل هذا البلد بلدا آمنا معناه اجعله من البلدان الكاملة فى الأمن . وأما قوله { رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَداً آمِناً } فليس فيه إلا طلب الأمن لا طلب المبالغة . أما الدعوة الثانية التى توجه بها إبراهيم إلى ربه من أجل أهل مكة فقد حكاها القرآن فى قوله { وَٱرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } . أى كما أسألك يا إلهى أن تجعل هذا لبلد بلداً آمنا . أسألك كذلك أن ترزق المؤمنين من أهله من الثمرات ما يسد حاجاتهم ، ويغنيهم من الاحتياج إلى غيرك . وقوله " ارزق " مأخوذ من رزقه يرزقه إذا أعطاه ما ينتفع به من مأكول وغيره . والثمرات جمع ثمرة ، وهى ما يحمله شجر أو زرع أو غيره من النبات . وإنما طلب ابراهيم - عليه السلام - من الله أن يجعل مكة بلدا آمناً ، وأن يرزق أهلها من الثمرات بما يغنيهم لأن البلد إذا امتدت إليه ظلال الأمن ، وكانت مطالب الحياة فيه ميسرة ، أقبل أهله على طاعة الله بقلوب مطمئنة وتفرغوا لذلك بنفوس مستقرة . وقال فى دعائه { مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } لأن أهل مكة قد يكون من بينهم كافرون ، فأراد تخصيص المؤمنين منهم بدعائه ، لذا أتبع قوله { وَٱرْزُقْ أَهْلَهُ } بقوله { مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ } على وجه البدل فصار المعنى وارزق المؤمنين من أهله على ما تقتضيه القاعدة العربية من أن البدل وهو هنا { مَنْ آمَنَ } هو المقصود بطلب الرزق . وخص إبراهيم المؤمنين بطلب الرزق لهم حرصاً على شيوع الإِيمان بين سكان مكة ، لأنهم إذا علموا أن دعوة إبراهيم إنما هى خاصة بالمؤمنين تجنبوا ما يبعدهم عن الإِيمان ، أو أنه خص المؤمنين بذلك تأدباً مع الله - تعالى - إذ سأله سؤالا أقرب إلى الإِجابة ، ولعله استشعر من رد الله عليه عموم دعائه السابق إذ قال { وَمِن ذُرِّيَّتِي } فقال { لاَ يَنَالُ عَهْدِي ٱلظَّالِمِينَ } أن غير المؤمنين ليسوا أهلا لإِجراء رزق الله عليهم . واقتصر على ذكر الإِيمان بالله واليوم الآخر فى التعبير عن المؤمنين لأن الإِيمان بالله واليوم الآخر لا يقع على الوجه الحق إلا إذا صاحبه الإِيمان بكتب الله ورسله وملائكته . ثم بين - سبحانه - مصير الكافرين فقال { قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلنَّارِ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ } . الضمير فى { قَالَ } يعود إلى الله - تعالى - ومن فى قوله { وَمَن كَفَرَ } منصوب بفعل مقدر دل عليه " فأمتعه " . والمعنى قال الله وأرزق من كفر وايراد المتكلم قولا من عنده معطوفاً على قول متكلم آخر مألوف فى اللغة العربية ، ويحسن موقعه عندما يقتضى المقام إيجازاً فى القول ، ولولا هذا العطف لكان المعنى متطلباً لأن يقال قال الله أرزق من آمن ومن كفر . { فَأُمَتِّعُهُ } من التمتع وهو إعطاء ما ينتفع به . و { قَلِيلاً } وصف لمصدر محذوف فى النظم ، والمعنى أمتعه تمتيعاً قليلا . ووصف التمتع فى الدنيا بالقلة ، لأنه صائر إلى نفاد وانقطاع . و { أَضْطَرُّهُ } أى الجثة وأسوقه بعد متاعه فى الدنيا إلى عذاب لا يمكنه الإِنفكاك عنه وجملة " ثم اضطره إلى عذاب النار " احتراس من أن يغتر الكافر بأن تخويله النعم فى الدنيا يؤذن برضا الله فلذلك ذكر العذاب هنا . { وَبِئْسَ } فعل يستعمل لذم المرفوع بعده ، وهو ما يسميه النحاة بالمخصوص بالذم ، ووردت هنا لذم النار المقدرة فى الجملة ، والمعنى بئس المصير النار . أى أنها مصير سىء كما قال تعالى فى آية أخرى . { إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } وقد أفادت الآية الكريمة أن الله يرزق الكافر فى الدنيا كما يرزق المؤمن وإذا كان إمتاع المؤمن بالرزق لأنه أهل لأن ينعم عليه بكل خير ، فإمتاع الكافر بالرزق له حكم منها استدراجه المشار إليه بقوله تعالى { سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } ولو خص الله المؤمنين بالتوسعة فى الرزق وحرم منها الكافرين لكان هذا التخصيص سائقا للكافرين إلى الإِيمان على وجه يشبه الإِلجاء . وقد قضت حكمته - تعالى - أن يكون الإِيمان اختيارياً حتى ينساق الإِنسان من طريق النظر فى أدلة عقلية يبصر بها أقوام ولا يبصر بها آخرون . ثم حكى القرآن دعوة ثالثة تضرع بها إبراهيم إلى ربه فقال { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ ٱلْقَوَاعِدَ مِنَ ٱلْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } . القواعد جمع قاعدة ، وهى أساس البناء الموالى للأرض ، وبها يكون ثبات البناء . ورفعها إبرازها عن الأرض بالبناء عليها . والمراد بالبيت الكعبة . والتقبل القبول ، وقبول الله للعمل أن يرضاه أو يثيب عليه . والمعنى واذكر يا محمد ما صدر من الرسولين الكريمين إبراهيم وإسماعيل فقد كانا وهما يقومان يرفع قواعد الكعبة إلى ويقولان يا ربنا تقبل منا أقوالنا وأعمالنا ، إنك أنت السميع العليم . وتصدير الدعاء بندائه - سبحانه - باسم الرب المضاف إلى ضميرها مظهر من مظاهر خضوعهما ، وإجلالهما لمقامه ، والخضوع له - سبحانه - ، وإجلال مقامه من أسنى الآداب التى تجعل الدعاء بمقربة من الاستجابة . وعبر بالمضارع فقال { وَإِذْ يَرْفَعُ } مع أن رفع القواعد كان قبل نزول الآية ، وذلك ليخرجه فى صورة الحاضر فى الواقع لأهميته . وختما دعاءهما بذكر اسمين من أسمائه الحسنى ، ليؤكدا أن رجاءهما فى استجابة دعائهما وثيق ، وأن ما عملاه ابتغاء مرضاته جدير بالقبول . لأن من كان سميعاً عليماً بنيات الداعين وصدق ضمائرهم ، كان تفضله باستجابة دعاء المخلصين فى طاعته غير بعيد . ثم حكى القرآن جملة من الدعوات الخاشعات ، التى توجه بها إبراهيم وإسماعيل إلى الله - تعالى - فقال { رَبَّنَا وَٱجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ } مسلمين من الإِسلام ، وهو الخضوع والإِذعان ، وقد كانا خاضعين لله مذعنين فى كل حال ، وإنما طلبا الثبات والدوام على ذلك ، والإِسلام الذى هو الخضوع لله بحق إنما يتحقق بعقيدة التوحيد ، وتحرى ما رسمه الشارع فى العبادات والمعاملات ، والإِخلاص فى أداء ما أمر به ، واجتناب ما نهى عنه . وقوله { وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ } معناه واجعل يا ربنا من ذريتنا أمة مخلصة وجهها إليك ، مذعنة لأوامرك ونواهيك . ومن من للتبعيض ، أو للتعيين كقوله { وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ } وإنما خص الذرية بالدعاء لأنهم أحق بالشفقة ، ولأنهم إذا صلحوا صلح بهم الأتباع ولأن صلاح الذرية مرغوب فيه طبعاً ، والدعاء لهم بالصلاح مرغب فيه شرعاً ، وقد حكى القرآن من دعاء الصالحين قوله - تعالى - { رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَٱجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً } { وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا } أى علمنا شرائع ديننا وأعمال حجنا ، كالطواف والسعى والوقوف . أو متعبداتنا التى تقام فيها شرائعنا ، كمنى ، وعرفات ، وتحوهما . والمناسك جمع منسك - بفتح السين وكسرها - بمعنى الفعل وبمعنى الموضع من النسك - مثلثة النون وبضمها وضم السين - وهو غاية العبادة والطاعة ، وشاعت تسمية أعمال الحج بالمناسك كالطواف والسعى وغيرهما . { وَتُبْ عَلَيْنَآ } تسند التوبة إلى العبد فيقال تاب فلان إلى الله ومعناها الندم على ما لابس من الذنب ، والإِقلاع عنه ، والعزم على عدم العود إليه ، ورد المظالم إن استطاع ، أو نية ردها إن لم يستطع وتسند إلى الله فيقال تاب الله على فلان ، ومعناها حينئذ توفيقه إلى التوبة ، أو قبولها منه . فمعنى { وَتُبْ عَلَيْنَآ } وفقنا للتوبة أو تقبلها منا . والتوبة تكون من الكبائر والصغائر ، وتكون من ترك ما هو أولى أو من تقصير يؤدى إلى خطأ فى الاجتهاد ، وعلى أحد هذين الوجهين ، تحمل التوبة التى يسأل الأنبياء والمرسلون ربهم قبولها أو التوفيق لها . { إِنَّكَ أَنتَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ } التواب كثير القبول لتوبة المنيبين إليه ، وقبول توبتهم يقتضى عدم مؤاخذتهم بما يأتونه من سيئات ، ثم بعد تخلصهم من عقوبة الخطيئة أو المعاتبة عليها ينتظرون من رحمة الله أن تحفهم بإحسان . وإبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - قد طلبا قبول توبتهما صراحة فى قولهما { وَتُبْ عَلَيْنَآ } ولوحا إلى طلب الرحمة بذكر اسمه الرحيم ، إذ الرحمة صفة من أثرها الإِحسان ، فكأنهما قالا تب علينا وارحمنا ، وهذا من أكمل آداب الدعاء وأرجاها للقبول عند الله تعالى . ثم ختم إبراهيم وإسماعيل دعواتهما بتلك الدعوة التى فيها خيرهم فى الدنيا والآخرة ، فقالا - كما حكى القرآن عنهما { رَبَّنَا وَٱبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلعَزِيزُ ٱلحَكِيمُ } . الضمير فى قوله { مِّنْهُمْ } يعود إلى الذرية أو الأمة المسلمة فى قوله { وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ } . والرسول من أوحى إليه بشرع وأمر بتبليغه وتلاوة الشىء قراءته والمراد بقوله تعالى { يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ } يقرؤها عليهم قراءة تذكير وفى هذا إيماء إلى أنه يأتيهم بكتاب فيه شرع . والآيات جمع آية ، والمراد بها ما يشهد بوحدانية الله ، وبصدق رسوله صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عنه ، أو المراد بها آيات القرآن الكريم فهو يتلوها عليهم ليحفظوها بألفاظها كما نزلت ، ويتعبدوا بتلاوتها ، وليعرفوا من فضل بلاغتها وروعة أساليبها وجهاً مشرقا من وجوه إعجازها . والكتاب القرآن ، وتعلمه يكون ببيان معانيه وحقائقه ، ليعرفوا ما أقامه لهم من دلائل التوحيد وما اشتمل عليه من أحكام وحكم ومواعظ وآداب . والحكمة العلم النافع المصحوب بالعمل الواقع موقعه اللائق به . ووضعها بجانب الكتاب يرجح أن المراد بها السنة النبوية المطهرة التى تنتظم أقوال النبى صلى الله عليه وسلم وأفعاله ، إذ بالكتاب وبالسنة يعرف الناس أصلح الأعمال ، وأعدل الأحكام وأسنى الآداب ، وتنفتح لهم طرق التفقه فى أسرار الدين ومقاصده . ويزكيهم أى يطهرهم من أرجاس الشرك ومن كل ما لا يليق التلبس به ظاهراً أو باطناً . يقال زكاة الله ، أى طهره وأصلحه ، ومنه زكاة المال لتطهره بها ، وأصل الزكاة - بالمد - النماء والزيادة ، يقال . زكا الزرع زكاء وزكوا ، أى نما . والمعنى ونسألك يا ربنا أن تبعث فى الأمة المسلمة ، أو فى ذريتنا رسولا منهم يقرأ عليهم آياتك الدالة على وحدانيتك ، ويعلمهم كتابك بأن يبين لهم معانيه ، ويرشدهم إلى ما فيه من حكم ومواعظ وآداب ، كما يهديهم إلى الحكمة التى تتمثل فى اتباع سنة نبيك - والتى بها يتم التفقه فى الدين ومعرفة أسراره وحكمه ومقاصده ، والتى يكمل بها العلم بالكتاب إنك يا مولانا أنت العزيز الحكيم . أى القادر الذى لا يغلب على أمره ، العالم الذى يدبر الأمور على وفق المصلحة ، ومن كان قادراً على كل ما يريد ، عليما بوجوه المصالح ، كانت استجابته قريبة من دعاء الخير الصادر عن إخلاص وابتهال . وقد جاءت ترتيب هذه الجمل فى أسمى درجات البلاغة والحكمة لأن أول تبليغ الرسالة يكون بتلاوة القرآن ثم بتعليم معانيه ، ثم بتعليم العلم النافع الذى تحصل به التزكية والتطهير من كل ما لا يليق التلبس به فى الظاهر ، أو الباطن . وقد سأل إبراهيم وإسماعيل ربهما أن تكون بعثة الرسول فى ذريتهما فيكون أمر الإِيمان قريبا منهم ، فإن نشأته بينهم ، ومعرفة سيرته قبل الرسالة وشهادتهم له بالصدق والأمانة ، وكل ذلك يحمل العقلاء على المبادرة إلى تصديقه فيما يبلغه عن ربه . ولقد حقق الله تعالى دعوة هذين النبيين الكريمين ، فأرسل فى ذريتهما رسولا منهم ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم أرسله إلى الناس كافة بشيراً ونذيراً . وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنه دعوة إبراهيم ، فقال " أنا دعوة أبى إبراهيم ، وبشارة عيسى بى ، ورؤيا أمى التى رأت ، وكذلك أمهات المؤمنين يرين " ثم عرض القرآن بعد ذلك بالجاحدين والمعاندين الذين تركوا الحق الواضع الذى هو ملة إبراهيم فقال { وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ ٱصْطَفَيْنَاهُ … عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } .