Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 14-16)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } يقال لقيته ولاقيته إذا استقبلته وصادفته وكان قريباً منك . والمصدر اللقاء واللقى واللقية . والمقصود استقبلوهم وكانوا فى مواجهتهم وقريبا منهم . ومرادهم بقولهم " آمناً " أخلصنا الإِيمان بقلوبنا لأن الإِقرار باللسان معلوم منهم . وإذا خلوا إلى شياطينهم ، أى انفردوا مع رؤسائهم وقادتهم المشبهين الشياطين فى تمردهم وعنوهم وصدهم عن سبيل الحق . يقال خلابه وإليه ومعه ، خلوا وخلاء وخلوة سأله أن يجتمع به فى خلوة ففعل وأخلاه معه . أو المعنى وإذا مضوا وذهبوا إلى شياطينهم ، يقال خلا بمعنى مضى وذهب ، ومنه قوله تعالى { قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ } أى مضت . وعبر عن حالهم مع المؤمنين بالملاقاة ، وعن حالهم مع الشياطين بالخلوة إيذانا بأن هؤلاء المنافقين لا أنس لهم بالمؤمنين ، ولا طمأنينة منهم إليهم فهم لا يجالسونهم ولا يسامرونهم ، وإنما كل ما هنالك أن يلقوهم فى عرض طريق ، أما شأنهم مع شياطينهم فهم إليهم يركنون ، وإليهم يتسامرون ويتحادثون ، لذلك هم بهم يخلون . والمعية فى قولهم { إِنَّا مَعَكُمْ } ، المراد منها موافقتهم فى دينهم ، وأكدوا ما خاطبوا به شياطينهم بحرف التأكيد ، إذ قالوا { إِنَّا مَعَكُمْ } ليزيلوا ما قد يجرى فى خراطرهم من أنهم فارقوا دينهم وانقلبوا إلى دين الإِسلام بقلوبهم . ولم يؤكدوا ما خاطبوا به المؤمنين ، إذ قالوا لهم { آمَنَّا } ولم يقولوا " إنا آمنا " ليوهموهم أنهم بمرتبة لا ينبغى أن يترددوا فى إيمانهم حتى يحتاجوا إلى تأكيد . وقوله - تعالى - حكاية عنهم { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } . وارد مورد الجواب عما قد يعترض به عليهم شياطينهم إذا قالوا لهم كيف تدعون أنكم معنا مع أنكم توافقون المؤمنين فى عقيدتهم وتشاركونهم فى مظاهر دينهم ؟ فكان جوابهم عليهم { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } والاستهزاء السخرية والاستخفاف بالغير ، يقال هزأ منه وبه - كمنع وسمع - واستهزأ به ، أى سخر . والمعنى إننا نظهر للمؤمنين الموافقة على دينهم استخفافاً بهم وسخرية منهم ، لا أن ذلك صادر منا عن صدق وإخلاص . ثم بين - سبحانه - موقفه منهم فقال { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ } . حمل بعض العلماء استهزاء الله بهم على الحقيقة وإن لم يكن من أسمائه المستهزئ ، لأن معناه يحتقرهم على وجه شأنه أن يتعجب منه ، وهذا المعنى غير مستحيل على الله ، فيصح إسناده إليه - تعالى - على وجه الحقيقة . ويرى جمهور العلماء أن الاستهزاء لا ينفك عن التلبيس كأن يظهر المستهزئ استحسان الشىء وهو فى الواقع غير حسن ، أو يقر المستهزأ به على أمر غير صواب ، وهذا المعنى لا يليق بجلال الله ، فيجب حمل الاستهزاء المسند إليه تعالى على معنى يليق بجلاله ، فيحمل على ما يلزم على الاستهزاء من الانتقام والعقوبة والجزاء المقابل لاستهزائهم ، وسمى ذلك استهزاء على سبيل المشاكلة كما فى قوله تعالى { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } وهذا دليل على غيرة الله على عباده المؤمنين ، وانتقامه من كل من يستهزئ بهم أو يؤذيهم . وعبر بالمضارع فى قوله { يَسْتَهْزِىءُ } للإِيذان بأن احتقاره لهم ، أو مجازاتهم على استهزائهم يتجدد ويقع المرة بعد الأخرى ثم بين - سبحانه - لونا آخر من ألوان غضبه عليهم فقال { وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } . المد الإِمهال والمطاولة والزيادة ، من المد بمعنى الإِمهال ، يقال مده فى غيه - من باب رد - أمهله وطول له ، ويقال مد الجيش وأمده إذا ألحق به ما يقويه ويكثره ويزيده ، وقيل أكثر ما يستعمل المد فى المكروه ، والإِمداد فى المحبوب ، والطغيان مجاوزة الحد ، ومنه طغا الماء ، أى ارتفع . ويعمهون يعمون عن الرشد ، أو يتحيرون ويترددون بين الإِظهار والإِخفاء ، أو بين البقاء على الكفر وتركه إلى الإِيمان . يقال عمه - كفرح ومنع - عمها ، إذا تردد وتحير ، فهو عمه وعامه ، وهم عمهون وعمه كركع والمعنى أن الله تعالى يجازى هؤلاء المنافقين على استهزائهم وخداعهم ، ويمكنهم من المعاصى أو يملى لهم ليزدادوا إثماً . حال كونهم يعمون عن الرشد ، فلا يبصرون الحق حقاً ولا الباطل باطلا . ثم بين - سبحانه - لونا من ألوان غبائهم وبلادتهم فقال { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلاَلَةَ بِٱلْهُدَىٰ } . الاشتراء أخذ السلعة بالثمن . والمراد أنهم استبدلوا ماكره الله من الضلالة بما أحبه من الهدى قال ابن عباس أخذوا الضلالة وتركوا الهدى . والمشار إليه بـ " أولئك " هم المنافقون الموصوفون فى الآيات السابقة بالكذب والمخادعة ، والإِفساد فى الأرض ، ورمى المؤمنين بالسفاهة واستهزائهم بهم . والسر فى الإِشارة اليهم والتعبير عنهم بأولئك تمييزهم وتوضيحهم بأكمل صورة وأجلى بيان . إذ من المعروف عند علماء البلاغة أن اسم الإِشارة إذا أشير به إلى أشخاص وصفوا بصفات يلاحظ فيه تلك الصفات ، فهو بمنزلة إعادة ذكرها وإحضارها فى أذهان المخاطبين . فتكون تلك الصفات ، وهى هنا الكذب والمخادعة وما عطف عليها ، كأنها ذكرت فى هذه الآية مرة أخرى ليعرف بها علة الحكم الوارد بعد اسم الإِشارة ، وهو هنا اشتراء الضلالة بالهدى . أى اختيارها . واستبدالها به . وعبرت الآية بالاشتراء على سبيل الاستعارة ليتحدد مقدار رغبتهم فى الضلالة ، وزهدهم فى الهدى ، فإن المشترى فى العادة يكون شديد الرغبة فيما يشترى ، رغبة تجعله شديد الزهد فيما يبذله من ثمن . فهم راغبون فى الضلالة ، زاهدون فى الهدى . وقوله تعالى { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلاَلَةَ بِٱلْهُدَىٰ } لا يقتضى أنهم كانوا على هدى من ربهم فتركوه ، بل يكفى فيه أن يجعل تمكنهم من الهدى لقيام أدلته . بمنزلة الهدى الحاصل بالفعل . ثم بين سبحانه نتيجة أخذهم الضلالة وتركهم الهدى فقال { فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ } أى أنهم لم يحصلوا من اشترائهم الضلالة بالهدى على الربح ، وإذا كانت التجارة الحقيقة قد يفوت صاحبها الربح ، ولكنه لا يقع فى خسارة بأن يبقى له رأس ماله محفوظاً ، فإن التجارة المقصودة من الآية هى استبدال الضلالة بالهدى ، لا يقابل الربح فيها إلا الخسران ، فإذا نفى عنها الربح فذلك يعنى أنها تجارة خاسرة . ثم قال - تعالى - { وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } أى وما كانوا مهتدين إلى سبيل الرشاد وما تتجه إليه العقول الراجحة من الدين الحق ، وما كانوا مهتدين إلى طرق التجارة الرابحة ، فهم أولا لم يربحوا فى تجارتهم بل خسروها ، وهم ثانياً ذهب نور الهدى من حولهم فبقوا فى ظلمة الضلال . وما أوجع أن يجتمع على التاجر خسارته وتورطه ، وما أوجع أن يجتمع عليه أن ينقطع عن غايته ، وأن يكون فى ظلمة تعوقه عن التبصر . وبعد أن وصف الله تعالى حال المنافقين فى الآيات السابقة ، ساق مثلين لتوضيح سوء تصرفهم ، وشدة حيرتهم واضطرابهم . فقال تعالى { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً … يَكَادُ ٱلْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ } .