Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 11-13)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

الفساد خروج الشىء عن حالة الاعتدال والاستقامة ، وعن كونه منتفعاً به ، وضده الصلاح ، يقال فسد الشىء فساداً ، وأفسده إفساداً . والمراد به هنا كفرهم ، ومعاصيهم ، ومن كفر بالله وانتهك محارمه فقد أفسد فى الأرض ، لأن الأرض لا تصلح إلا بالتوحيد والطاعة . ومن أبرز معاصى هؤلاء المنافقين ، ما كانوا يدعون إليه فى السر من تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم وإلقاء الشبه فى طريق دعوته ، والتحالف مع المشركين ضد المسلمين كلما وجدوا إلى ذلك سبيلا . وسلك القرآن هذا الأسلوب فقال { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ } بالبناء للمفعول دون أن يسند الفعل إلى فاعله ، لأن مصدر القول المعبر عن النهى عن الإِفساد ليس مصدراً واحداً ، فقد يصل آذانهم هذا النهى مرة من صريح القول . وأخرى مما كانوا يقابلون به من ناحية الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من تجهم وإعراض . وعلق بالفعل الذى هو الإِفساد قوله { فِي ٱلأَرْضِ } إيذاناً بأن الإِفساد مهما ضاقت حدوده ، فإنه لابد يوماً أن يتعدى الحدود إلى ما وراء ذلك فقد يعم ويشمل إذا لم يشتد فى الاحتياط له ، لذلك جعل ظرف إفسادهم الأرض كلها مع أنهم موجودون فى بقعة محصورة هى المدينة المنورة . ولقد حكى القرآن جوابهم على نصيحة الناصحين وما فيه من تبجح وادعاء فقال { قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } . فقد بالغوا فى الرد فحصروا أنفسهم أولاً فى الإِصلاح مبالغة المفجوع الذى أذهلته المفاجأة بكشف أستار حقيقته ، فتراهم لم يقتصروا على أن يقولوا { إِنّا مُصْلِحُونَ } بل قالوا " إنما " ثم أكدوا الجملة بكونها اسمية ليدلوا بذلك على أن شأنهم فى الإِصلاح ثابت لازم . قال الراغب صوروا إفسادهم بصورة الإِصلاح لما فى قلوبهم من المرض ، كما فى قوله - تعالى - { أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوۤءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً } وقوله { وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ } وقوله { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِٱلأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً } ولقد كذبهم الله - تعالى - تكذيباً مؤكداً فى دعواهم أنهم مصلحون فقال { أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ } . فأنت ترى أن القرآن الكريم قد وضع فى الرد عليهم جملة صدرها بأداة الاستفتاح إيذاناً بأن ما قالوه يجب أن يهمل إهمالاً ، بل يجب أن يكون وصفهم بالإِفساد قضية مبتدأة مقررة حتى يتلقاها السامع وهو منتبه النفس ، حاصر الذهن . ثم أكد الجملة بعدة تأكيدات منها وصل " ألا " " بإن " الدالة على تأكيد الخبر وتحقيقه ، ومنها تأكيد الضمير بضمير منفصل حتى يتم التصاق الخبر بالمبتدأ ، ومنها اسمية الجملة ، ومنها إفادة قصرهم على الإِفساد فى مقابل تأكيدهم أنهم هم المصلحون . ولما كان هذا الرد المؤكد عليهم يستدعى عجباً ، لأنهم زعموا أنهم لا حال لهم إلا الاصلاح ، مع أنهم فى الحقيقة لا حال لهم إلا الإفساد ، لما كان الأمر كذلك ، فقد أزال القرآن هذا العجب بقوله { وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ } . أى أنهم ما قالوه إلا عن غباء استولى على إحساسهم ، ونفى عنهم الشعور بما يصدر عنهم من الفساد ، فأمسوا لا يدركون من شأن أنفسهم شيئاً ، ومن أسوأ ألوان الجهل أن يكون الإِنسان مفسداً ولا يشعر بذلك ، مع أن أثر فساده ظاهر فى العيان ، مرئى لكل ذى حس . فعدم شعورهم بالفساد الواقع منهم منبئ باختلاف آلات إدراكهم ، حتى صاروا يحسبون الفساد صلاحا ، والشر خيراً . وليس عدم شعورهم رافعاً العقاب عنهم ، لأن الجاهل لا يعذر بجهله خصوصاً إذا كان جهله يزول بأدنى تأمل لوضوح الأدلة ، وسطوع البراهين . ثم بين القرآن أن الناصحين قد أمروهم بالمعروف بعد أن نهوهم عن المنكر فقال { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ } . المراد من الناس المؤمنون بالرسول صلى الله عليه وسلم الصادقون فى إيمانهم . السفهاء جمع سفيه ، وأصل السفه الخفة والرقة والتحرك والاضطراب يقال ثوب سفيه ، إذا كان ردىء النسج خفيفه ، أو كان باليا رقيقاً . وتسفهت الريح الشجر . أى مالت به . وزمام سفيه كثير الاضطراب ، لمنازعة الناقة إياه ، وشاع فى خفة العقل وضعف الرأى . وهو المعنى المقصود بالسفهاء فى الآية . فقد كان المنافقون يصفون المسلمين بذلك فيما بينهم . وروى أنهم كانوا يقولون أنؤمن كما آمن سفيه بنى فلان ، وسفيه بنى فلان ؟ ! فأوحى الله للنبى صلى الله عليه وسلم بهذا الذى كانوا يقولونه . قال صاحب الكشاف فإن قلت لم وصفوهم بالسفه وهم العقلاء المراجيح ؟ قلت لأن المنافقين لجهلهم وإخلالهم بالنظر ، اعتقدوا أن ما هم فيه هو الحق ، وأن ما عداه باطل ، ومن ركب متن الباطل كان سفيهاً ، ولأنهم كانوا فى رياسة من قومهم ويسار ، وكان أكثر المؤمنين فقراء ومنهم موال كصهيب وبلال وخباب ، فدعوهم سفهاء تحقيراً لشأنهم اهـ ملخصا . وقد رد الله عليهم بما يكبتهم ويفضحهم فقال { أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ } لأنهم أعرضوا عن النظر فى الدليل وباعوا آخرتهم بدنياهم ، وهذا أقصى ما يبلغه الإِنسان من سفه العقل . وقد تضمن هذا الرد تسفيههم وتكذيبهم فى دعوى سفه الصادقين فى إيمانهم ، فإن قوله - تعالى - { أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ } يفيد أن السفه مقصور عليهم فلا يتجاوزهم إلى المؤمنين ، وقد تضمنت هذه الجملة من المؤكدات ما تضمنته الجملة السابقة فى قوله تعالى - { أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ } . وإنما قال فى الآية السابقة " ولكن لا يشعرون " وقال فى هذه الآية { وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ } لأن الآية السابقة وصفتهم بالإِفساد ، وهو من المحسوسات التى تدرك بأدنى نظر فيناسبه نفى الشعور الذى هو الإِدراك بالمشاعر الحواس ، أما هذه الآية فقد وصفتهم بالسفه ، وهو ضعف الرأى والجهل بالأمور ، وهذا لا يدركه الشخص فى نفسه إلا يعد نظر وإمعان فكر . فيناسبه نفى العلم . ثم بين القرآن ماهم عليه من سلوك ذميم ، وأنهم يقابلون الناس بوجوه مختلفة فقال { وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ … فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } .