Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 282-282)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قال ابن كثير قوله - تعالى - { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَٱكْتُبُوهُ } هذا إرشاد منه - تعالى - لعباده المؤمنين إذا تعاملوا بمعاملات مؤجلة أن يكتبوها ليكون ذلك أحفظ لمقدارها وميقاتها وأضبط للشاهد فيها ، وقد نبه على ذلك فى آخر الآية حيث قال { ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَىٰ أَلاَّ تَرْتَابُوۤاْ } وروى البخارى عن ابن عباس أنه قال أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى قد أحله الله وأذن فيه ثم قرأ { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا تَدَايَنتُم } . الآية . وثبت فى الصحيحين " عن ابن عباس قال قدم النبى صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون فى الثمار السنة والسنتين والثلاث فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من أسلف فليسلف فى كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم " . ومعنى { تَدَايَنتُم } تعاملتم بالدين وداين بعضكم بعضا . وحقيقة الدين - كما يقول القرطبى - " عبارة عن كل معاملة كان أحد العوضين فيها نقداً والآخر فى الذمة نسيئة ، فإن العين عند العرب ما كان حاضرا ، والدين ما كان غائبا " . والأجل فى اللغة هو الوقت المضروب لانقضاء الأمد ، وأجل الإِنسان هو الوقت المحدد لانقضاء عمره . وأجل الدين هو الوقت المعين لأدائه فى المستقبل . وأصله من التأخير ، يقال أجل الشىء يأجل إذا تأخر والآجل نقيض العاجل . والمعنى يأيها الذين آمنوا إذا عامل بعضكم بعضا بالدين إلى وقت معين فاكتبوا هذا الدين ، لأن فى هذه الكتابة حفظاً له ، وضبطاً لمقداره ، ومنعاً للتنازع من أن يقع بينكم . قال صاحب الكشاف فإن قلت هلا قيل إذا تداينتم إلى أجل مسمى ، وأى حاجة إلى ذكر الدين ؟ قلت ذكر - لفظ الدين - ليرجع الضمير إليه فى قوله { فَٱكْتُبُوهُ } إذ لو لم يذكر لوجب أن يقال فاكتبوا الدين ، فلم يكن النظم بذلك الحسن ، ولأنه أبين لتنويع الدين إلى مؤجل وحال . فإن قلت ما فائدة قوله { مُّسَمًّى } قلت ليعلم أن من حق الأجل أن يكون معلوما كالتوقيت بالسنة والأشهر والأيام . ولو قال إلى الحصاد أو الدياس أو رجوع الحاج لم يجز لعدم التسمية " . وجمهور العلماء على أن الأمر فى قوله " فاكتبوه " للندب ، ولأن الله - تعالى - قد قال بعد ذلك { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ ٱلَّذِي ٱؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ } ولأن النبى صلى الله عليه وسلم لم يلزم الدائنين بكتابة ديونهم ، ولا المدينين بأن يكتبوها . وقال الظاهرية إن الأمر هنا للوجوب ، ومن لم يفعل ذلك كان آتماً ، لأن الأصل فى الأمر أنه للوجوب … وقوله { وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِٱلْعَدْلِ } بيان لكيفية الكتابة المأمور بها وتعيين من يتولاها عقب الأمر بها على سبيل الإِجمال . أى عليكم أيها المؤمنون إذا تعاملتم بالدين إلى أجل معين أن تكتبوا هذا الدين ، وليتول الكتابة بينكم شخص يجيدها وعنده فقهها وعلمها ، بأن يكون على معرفة بشروط العقود وتوثيقها ، وما يكون من الشروط موافقاً لشريعة الإِسلام وما يكون منها غير موافق ، وعلى هذا الكاتب أن يلتزم الحق مع الدائن والمدين فى كتابته ، لأن الله - تعالى - يقول { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىۤ أَلاَّ تَعْدِلُواْ ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ } فالجملة الكريمة تحض المتعاملين بالدين أن يختاروا لكتابته شخصاً تتوفر فيه إجادة الكتابة ، والخبرة بشروط العقود وتوثيقها ، كما تتوفر فيه الاستقامة وتحرى الحق . ومفعول { يكتب } محذوف ثقة بانفهامه أى وليكتب بينكم الكتابة كاتب بالعدل . والتقييد بالظرف بينكم للإِيذان بأنه ينبغى للكاتب ألا يسمح لنفسه بأن ينفرد به أحد المتعاقدين ، لأن فى هذا الانفراد تهمة يجب أن يربأ بنفسه عنها . والجار والمجرور وهو { بالعدل } متعلق بمحذوف صفة لكاتب أى وليكن المتصدى للكتابة من شأنه أن يكتب بالسوية من غير ميل إلى أحد الجانبين . أو متعلق بالفعل يكتب . أى وليكتب بالحق . ثم نهى الله - تعالى - من كان قادراً على الكتابة عن الامتناع متى دعى إليها فقال { وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ ٱللَّهُ فَلْيَكْتُبْ } . أى ولا يمتنع كاتب من أن يكتب للمتداينين ديونهما بالطريقة التى علمه الله إياها أن يتحرى العدل والحق فى كتابته ، وأن يلتزم فيها ما تقتضيه أحكام الشريعة الإِسلامية . فالكاف فى قوله - تعالى - { كَمَا عَلَّمَهُ ٱللَّهُ } نعت لمصدر محذوف والتقدير فليكتب كتابة مثل ما علمه الله - تعالى - بمعنى أن يلتزم الحق والعدل فيها . ويجوز أن تكون الكاف للتعليل فيكون المعنى لا يمتنع عن الكتابة لأنه كما علمه الله إياها ويسرها له ونفعه بها ، فعليه أن ينفع غيره بها ، فهو كقوله - تعالى - { وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ } وفى الحديث الشريف " إن من الصدقة أن تعين صانعاً أو تصنع لأخرق " وفى حديث آخر " من كتم علماً يعلمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة " . وقوله { فليكتب } تفريع على قوله " ولا يأب كاتب " أى فليكتب الكتابة التى علمه الله إياها فهو توكيد للأمر المستفاد من قوله { وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ } . ويجوز أن يكون توكيداً للأمر الصريح فى قوله { وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِٱلْعَدْلِ } . قال القرطبى واختلف الناس فى وجوب الكتابة على الكاتب والشهادة على الشاهد . فقال الطبرى واجب على الكاتب إذا أمر أن يكتب . وقال الحسن ذلك واجب عليه فى الموضع الذى لا يقدر فيه على كاتب غيره فيضر صاحب الدين إن امتنع ، فإن كان كذلك فهو فريضة ، وإن قدر على كاتب غيره فهو فى سعة إذا قام بها غيره " . وإلى هنا تكون الآية الكريمة قد قررت مبدأ الكتابة فى الدين ، وبينت كيفية الكتابة ، وأشارت إلى إجادة الكاتب لها ، ونهته عن الامتناع عنها إذا دعى إليها . ثم انتقلت الآية بعد ذلك إلى بيان من يتولى الإِملاء فقال - تعالى - { وَلْيُمْلِلِ ٱلَّذِي عَلَيْهِ ٱلْحَقُّ وَلْيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً } . والإِملال معناه الإِملاء . فهما لغتان معناهما واحد . وقد جاء القرآن باللغتين قال - تعالى - { وَقَالُوۤاْ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ ٱكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } أى وعلى المدين الذى عليه الدين وقد التزم بأدائه أن يمل على الكاتب هذا الدين ، وذلك ليكون إملاؤه إقراراً به وبالحقوق التى عليه الوفاء بها . وعليه كذلك أن يراقب الله - تعالى - فى إملائه فلا ينقص من الدين الذى عليه شيئاً ، لأن هذا الإِنقاص ظلم حرمه الله - تعالى - . وقد أمر الله - تعالى - بأن يكون الذى يملى على الكاتب هو المدين لأنه هو المكلف بأداء مضمون الكتابة ، ولأنه بإملائه يكون قد أقر على نفسه بما عليه ، ولأنه لو أفلس الدائن فربما يزيد فى الدين ، أو يملى شيئاً ليس محل اتفاق بينه وبين المدين ، ولأن المدين فى الغالب فى موقف ضعيف فأعطاه الله - تعالى - حق الإِملاء على الكاتب حتى لا يغبن من الدائن . فأنت ترى أن الله - تعالى - قد مكن المدين من الإِملاء على الكاتب حتى تكون الكتابة تحت سمعه وبصره وباختياره ، ولكنه فى الوقت نفسه أوجب عليه أمرين تقوى الله وعدم الانقاص من الدين الذى عليه ، وإن ذلك لتشريع عادل حكيم لا ظلم فيه لا للدائن ولا للمدين . ثم بين - سبحانه - الحكم فيما إذا كان الذى عليه الدين لا يحسن الإِملاء فقال - تعالى - { فَإن كَانَ ٱلَّذِي عَلَيْهِ ٱلْحَقُّ } وهو المدين { سَفِيهاً } أى جاهلا بالإِملاء أو ناقص العقل ، أو متلافاً مبذراً لا يحسن تدبير أمره " . { أَوْ ضَعِيفاً } بأن يكون صبياً أو شيخاً تقدمت به الشيخوخة . { أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ } بأن يكون عيياً أو أخرس أو لا خبرة له بإملاء أمثال هذه المكاتبات . { فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِٱلْعَدْلِ } أى فعلى ولى أمره أو من يهمه شأنه ولا يرضى له أن يضيع حقه أن يتولى الإِملاء متحرياً الحق والعدل فيما يكلف به . وبعد هذا البيان الحكيم عن الكتابة وأحكامها فى شأن الديون ، انتقل القرآن إلى الحديث عن الإِشهاد فقال - تعالى - { وَٱسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ } أى اطلبوا شاهدين عدلين من الرجال ليشهدوا على ما يجرى بينكم من معاملات مؤجلة ، لأن هذا الإِشهاد يعطى الديون والكتابة توثيقاً وتثبيتاً . والسين التاء فى قوله " واستشهدوا " للطلب . قال الآلوسى " وفى اختيار صيغة المبالغة فى { شَهِيدَيْنِ } للإِيماء إلى من تكررت منه الشهادة ، فهو عالم بها مقتدر على أدائها وكأن فيه رمزاً إلى العدالة ، لأنه لا يتكرر ذلك من الشخص عند الحكام إلا وهو مقبول عندهم ولعله لم يقل رجلين لذلك . والأمر للندب أو للوجوب على الخلاف على ذلك " . وقوله { مِّن رِّجَالِكُمْ } متعلق بقوله { وَٱسْتَشْهِدُواْ } ومن لابتداء الغاية ويجوز أن يكون متعلقاً بمحذوف صفة لشهيدين ومن للتبعيض ، أى من رجالكم المسلمين الأحرار فإن الكلام فى معاملتهم . ثم بين - سبحانه - الحكم إذا لم يتيسر شاهدان من الرجال فقال { فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَٱمْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ ٱلشُّهَدَآءِ } . وقوله { مِمَّن تَرْضَوْنَ } متعلق بمحذوف على أنه صفة لرجل وامرأتان . أى فإن لم يتيسر رجلان للشهادة فليشهد رجل وامرأتان كائنون مرضيون عندكم بعدالتهم . وهذا الوصف وإن كان فى جميع الشهود إلا أنه ذكر هنا للتشديد فى اعتباره ، لأن اتصاف النساء به قد لا يتوفر كثيراً . وقوله { مِنَ ٱلشُّهَدَآءِ } متلعق بمحذوف حال من الضمير المفعول المقدر فى { تَرْضَوْنَ } العائد إلى الموصول أى فليشهد رجل وامرأتان ممن ترضونهم حال كونهم من بعض الشهداء لعلمكم بعدالتهم ، وثقتكم بهم . وقوله - تعالى - { مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ ٱلشُّهَدَآءِ } أدق فى الدلالة على صدق الشهادة من العدالة ، لأن الإِنسان العدل قد يكون مرضياً فى دينه وخلقه ولكنه قد يتأثر بالمشاهد المؤثرة فتخونه ذاكرته فى وقت الحاجة إليها ، أو قد يكون ممن يمنعه منصبه وجاهه ومقامه فى الناس من الكذب إلا أنه قد يرتكب بعض المعاصى ، فجاء - سبحانه - بهذه الجملة الحكيمة لكى يقول للناس . اختاروا الشهداء من الذين يرتضى قولهم ، ويقيمون الشهادة على وجهها الحق بدون التأثر بأى نوع من أنواع المؤثرات . هذا ، وشهادة النساء مع الرجال تجوز عند الحنفية فى الأموال والطلاق والنكاح والرجعة وكل شىء إلا الحدود والقصاص . وعند المالكية تجوز فى الأموال وتوابعها خاصة ، ولا تقبل فى أحكام الأبدان مثل الحدود والقصاص والنكاح والطلاق والرجعة . ثم بين - سبحانه - العلة فى أن المرأتين تقومان مقام الرجل فى الشهادة فقال { أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا ٱلأُخْرَىٰ } . وقال القرطبى معنى تضل تنسى ، والضلال عن الشهادة فإنما هو نسيان جزء منها وذكر جزء ، ويبقى المرء حيران بين ذلك ضلالا " . والمعنى جعلنا المرأتين بدل رجل واحد فى الشهادة ، خشية أن تنسى إحداهما فتذكر كل واحدة منهما الأخرى إذ المرأة لقوة عاطفتها ، وشدة انفعالها بالحوادث ، قد تتوهم ما لم تر ، فكان من الحكمة أن يكون مع المرأة أخرى فى الشهادة بحيث يتذكران الحق فيما بينهما . والعلة فى الحقيقة هى التذكير ، ولكن الضلال لما كان سبباً فى التذكير ، نزل منزلة العلة . وذلك كأن تقول أعددت السلاح خشيه أن يجىء العدو فأدفعه ، فإن العلة هى الدفاع عن النفس ، ولكن لما كان مجئ العدو سبباً فيه نزل منزلته . وكما أمر الله - سبحانه - الكتاب فى أول الآية بعدم الامتناع عن الكتابة أمر الشهود أيضاً بعدم الامتناع عن الشهادة فقال - تعالى - { وَلاَ يَأْبَ ٱلشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْ } أى ولا يمتنع الشهود عن أداء الشهادة وتحملها متى دعوا إليها ، لأن الامتناع عن تحمل الشهادة وأدائها قد يؤدى إلى ضياع الحقوق . والله - تعالى - قد شرع الشهادة لإِحقاق الحق ، ونشر العدل بين الناس ، فعلى من اشتهروا بالعدالة ووثق الناس بهم أن يؤدوا الشهادة كما أمرهم الله - تعالى - . ثم أمر - سبحانه - بكتابة الدين سواء أكبر الدين أم صغر فقال { وَلاَ تَسْأَمُوۤاْ أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إِلَىٰ أَجَلِهِ } . السأم الضجر والملل . يقال سئمت الشىء أسأمه سأماً وسآمة أى مللته وضجرته . والمعنى وعليكم أيها المؤمنون أن لا تملوا من كتابة الدين إلى الوقت المحدد له سواء أكان هذا الدين كبيراً أم صغيراً ، لأن الكتابة فى الحالتين أدعى إلى حفظ الحقوق وصيانتها ، وإلى عدم نشوب التنازع أو التخاصم بينكم ، ولأن الدين قد يكون صغيراً فى نظر الغنى الملىء ، إلا أنه كبير فى نظر الفقير المعسر ، ولأن التهاون فى شأن الدين الصغير قد يؤدى إلى التهاون فى شأن الدين الكبير ، لذا وجب عليكم أن تنقادوا لشرع الله وأن تكتبوا ما بينكم من ديون . والضمير فى قوله { أَن تَكْتُبُوهُ } يعود إلى الدين أو إلى الحق ، وقولهك { صَغِيراً أَو كَبِيراً } حالان من الضمير . أى لا تسأموا أن تكتبوه على كل حال قليلا أو كثيراً ، وقدم الصغير على الكبير اهتماماً به وانتقالا من الأدنى إلى الأعلى . ثم بين - سبحانه - ثلاث فوائد تعود عليهم إذا ما امتثلوا ما أمرهم الله - تعالى - به ، فقال { ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ } . واسم الإِشارة { ذَلِكُمْ } يعود إلى كل ما سبق ذكره فى الآية من الكتابة والإِشهاد ومن عدم الامتناع عنهما ، ومن تحرى الحق والعدل . و { أَقْسَطُ } بمعنى أعدل . يقال أقسط فلان فى الحكم يقسط إقساطاً إذا عدل فهو مقسط . قال - تعالى - { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ } ويقال هو قاسط إذا جار وظلم . قال - تعالى - { وَأَمَّا ٱلْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } أى ذلكم الذى شرعناه لكم فى أمر الديون من الكتابة والإِشهاد وغيرهما أعدل فى علم الله - تعالى - ، وكل ما كان كذلك فهو الأعدل والأفضل والأحكم فى ذاته ، لأنه - سبحانه - هو الأعلم بما فيه مصلحتكم فاستجيبوا له ، وتلك هى الفائدة الأولى . أما الفائدة الثانية فهى قوله - سبحانه - { وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ } ومعنى { وَأَقْومُ } أبلغ فى الاستقامة التى هى ضد الاعوجاج . أى أثبت لها وأعون على إقامتها وأدائها . وأما الفائدة الثالثة فهى قوله { وَأَدْنَىٰ أَلاَّ تَرْتَابُوۤاْ } أى أقرب إلى زوال الشك والريبة . أى أن الأوامر والنواهى السابقة إذا نفذت على وجهها كان تنفيذها أعدل فى علم الله - تعالى - وأعون على إقامة الشهادة إذ بها يتم الاعتماد على الحفظ ، وأقرب إلى عدم الشك فى جنس الدين وقدره وأجله ، وإذا توفرت هذه الفوائد الثلاث فى المعاملات ساد الوفاق والتعاون بين الناس ، أما إذا فقدت فإن الثقة تزول من بينهم ، ويحل محلها النزاع والشقاق . ثم أباح - سبحانه - فى التجارة الحاضرة عدم الكتابة فقال { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا } . والتجارة الحاضرة التى تدور بين التجار هى التى يجرى فيها التقابض فى المجلس أو التى يتأخر فيها الأداء زمنا يسيرا . وسميت حاضرة ، لأن المبيع والثمن كلاهما حاضر . والمعنى أن الله - تعالى - يأمركم بكتابة الديون وبالإِشهاد عليها إلا أنه - سبحانه - رحمة بكم أباح لكم عدم الكتابة فى التجارة الحاضرة التى تكثرون إدارتها والتعامل فيها ، لأنه لو كلفكم بذلك لشق الأمر عليكم ، وهو - سبحانه - { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فى ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } ولأن أمثال هذه التجارات التى يحصل فيها التقابض ويكثر تكرارها ، لا يتوقع فيها التنازع أن أو النسيان . والاستثناء هنا منقطع لأنه ليس هناك دين حتى يكتب ، وليست التجارة الحاضرة من جنس التعامل بالديون فكأنه قيل إذا تداينتم فتكاتبوا وأشهدوا لكن التجارة الحاضرة التى يجرى فيها التقابض لا جناح عليكم فى عدم كتابتها . وقيل الاستثناء متصل والجملة المستثناة فى موضع نصب لأنه استثناء من الجنس ، لأنه أمر بالكتابة فى كل معاملة واستثنى منها التجارة الحاضرة والتقدير آمركم بالكتابة والإِشهاد فى كل معاملة إلا فى حال حضور التجارة فلا بأس من ترك الكتابة . و { تِجَارَةً } قرأها الجمهور بالرفع على أنها اسم تكون ، والخبر جملة { تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ } . أو على أنها فاعل تكون إذا اعتبرناها تامة . وقرأها عاصم بالنصب على أنها خبر تكون واسمها ضمير مستتر فيها يعود على التجارة . أى . إلا أن تكون التجارة تجارة حاضرة . وقوله - تعالى - { وَأَشْهِدُوۤاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ } أمر منه - سبحانه - بالإِشهاد عند البيع ، وهذا الأمر للإِرشاد والتعليم عند جمهور العلماء . ويرى الظاهرية أنه للوجوب . قال صاحب الكشاف هذا أمر بالإِشهاد على التبايع مطلقا ناجزا أو كالئا - أى مؤجلا - لأنه أحوط وأبعد مما عسى يقع من الاختلاف . ويجوز أن يراد وأشهدوا إذا تبايعتم هذا التبايع . يعنى التجارة الحاضرة على أن الإِشهاد كاف فيه دون الكتابة ، وعن الضحاك هى عزيمة من الله ولو على باقة بقل " . ثم نهى - سبحانه - عن المضارة فقال { وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } . والمضارة إدخال الضرر . والفعل { يضار } يحتمل أن يكون مبنيا للفاعل ، وأن أصله " لا يضارر - بكسر الراء - ويحتمل أن يكون مبنيا للمفعول . وأن أصله لا يضارر بفتح الراء الأولى . والمعنى على الأول نهى الكاتب والشاهد عن أن ينزلا ضرراً بأحد المتعاقدين ، بأن يبخس الكاتب أحدهما ، أو يشهد بغير الحق . والمعنى على الثانى وهو الظاهر - نهى الدائن والمدين عن أن ينزل أحدهما ضرراً بالكاتب أو الشاهد لحملهما على كتابة غير الحق أو قول غير الحق ، فإنهما أمينان ، والإِضرار بهما قد يحملهما على الخيانة وفى ذلك ضياع للأمانة وذهاب للثقة . ولذا قال - تعالى - بعد ذلك { وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ } . أى وإن تفعلوا ما نهيتم عنه أو تخالفوا ما أمرتم به ، فإنكم بذلك تكونون قد خرجتم عن طاعة الله ، وتلبستم بمعصيته ، وصرت أهلا لعقوبته ، فعليكم أن تقفوا عند حدود الله حتى تتحقق لكم السعادة فى دينكم ودنياكم . ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بالأمر بخشيته . وبتذكيرهم بنعمه فقال { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } . أى واتقوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه ، فهو - سبحانه - الذى يعلمكم ما يصلح لكم أمر دنياكم وما يصلح لكم أمر دينكم متى اتقيتموه واستجبتم له ، وهو - سبحانه - بكل شىء عليم لا تخفى عليه خافية فى الأرض ولا فى السماء . وبعد فهذه هى آية الدين التى هى أطول آية فى القرآن ، تقرؤها فتراها قد اشتملت على أدق التشريعات ، وأحكم التوجيهات ، وأنجع الإِرشادات التى تهدى إلى حفظ الحقوق وضبطها وتوثيقها بمختلف الوسائل . تقرؤها فترى الدقة العجيبة فى الصياغة بأن وضع كل لفظ فى مكانه المناسب ، وترى الطلاوة فى التعبير ، والعذوبة فى الألفاظ بحيث لا تطغى دقة الصياغة على جمال العرض . وترى الوفاء الكامل ، لكل الجوانب التشريعية والاحتراس التام من كل المؤثرات التى قد تؤثر على سلامة التعاقد ، والإِرشاد الجامع إلى كل ما يضمن وصول الحق والعدل إلى جميع الأطراف بدون محاباة أو غبن . وترى قبل ذلك وبعد ذلك كيف يسوق القرآن تشريعاته بطريقة تغرس فى النفوس الخوف من الله - تعالى - والمراقبة له ، والاستجابة لأوامره ، لا كطريقة البشر فى قوانينهم التى صاغوها فى قوالب صماء من الألفاظ لا تشعر معها بتأثير فى النفس ، ولا باهتزاز فى القلب . ولو لم يكن فى شريعة الله سوى هذا التأثير الذى تشعر به النفوس النقية الصافية عند تدبرها لكفاها ذلك دليلا على سموها وفضلها وعلى أنها من صنع الله - تعالى - ولو أن المسلمين أخذوا بها وبتوجيهاتها فى سائر شئونهم لظفروا بالسعادتين الدينية والدنيوية . ثم بين - سبحانه - ما يحب على المسلمين فعله إذا لم يتمكنوا من كتابة ديونهم بأن كانوا مسافرين وليس معهم كاتب فقال - تعالى - { وَإِن كُنتُمْ عَلَىٰ سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ … } .