Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 283-283)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

الرهان جمع رهن بمعنى مرهون من باب إطلاق المصدر على اسم المفعول وقرأ ابن كثير وأبو عمر { فَرِهَنٌ مَّقْبُوضَةٌْْ } وأصل الرهن فى كلام العرب يدل على الحبس قال - تعالى - { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ } ومعنى الرهن أن يوضع شىء يناسب قيمة الدين من متاع المدين بيد الدائن توثقه له فى دينه ، ليستطيع أن يستوفى حقه من هذا الشىء المرهون عند تعذر الدفع . والمعنى وإن كنتم . أيها المؤمنون - مسافرين وتداينتم بدين إلى أجل مسمى ، ولم تجدوا كاتباً يكتب لكم ديونكم ، أو لم تتيسر لكم أسباب الكتابة لأى سبب من الأسباب ، فإنه فى هذه الحالة يقوم مقام الكتابة رهان مقبوضة صاحب الدين ضماناً لحقه عند تعذر أخذه من الغريم . وفى التعبير بقوله { عَلَىٰ سَفَرٍ } استعارة تبعية حيث شبه تمكنهم فى السفر بتمكن الراكب من مركوبه . وفيه كذلك إشارة إلى اضطراب الحال ، لأن حال المسافر يغلب عليها التنقل وعدم الاستقرار . وجملة { وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً } معطوفة على فعل الشرط ، أى وإن كنتم مسافرين ولم تجدوا ، كاتبا فتكون فى محل جزم تقديراً . ويجوز أن تكون الواو للحال والجملة بعدها فى محل نصب على الحال . وقوله { فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ } خبر لمبتدأ محذوف والتقدير فالذى يستوثق به رهان مقبوضة . أو مبتدأ محذوف الخبر والتقدير فعليكم رهان مقبوضة . ومن الأحكام التى أخذها الفقهاء من هذه الآية الكريمة أن تعليق الرهان على السفر ليس لكون السفر شرطاً فى صحة الرهان ، فإن التعامل بالرهان مشروع فى حالتى السفر والحضر ، وإنما علق هنا على السفر لأنه مظنة تعسر الكتابة لما فيه من التنقل وعدم الاستقرار . وقد ثبت فى الصحيحين عن أنس " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفى ودرعه مرهونة عند يهودى على ثلاثين وسقاً من شعير رهنها قوتاً لأهله " . ومن الواضح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما رهن درعه لليهودى كان مقيماً ولم يكن مسافرا . قال القرطبى " ولم يرو عن أحد منع الرهن فى الحضر سوى مجاهد والضحاك وداود متمسكين بالآية ، ولا حجة فيها لهم ، لأن هذا الكلام وإن خرج مخرج الشرط فالمراد به غالب الأحوال . وليس كون الرهن فى الآية فى السفر مما يحظر فى غيره " . كذلك أخذ بعض الفقهاء من قوله { فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ } أن الرهن لا يتم إلا بالقبض ، فإذا افترق المتعاقدان من غير قبض كان الرهن غير صحيح بنص الآية وهذا مذهب الأحناف والشافعية ، ويرى المالكية والحنابلة أن الرهن يتم من غير القبض ، لأن القبض حكم من أحكامه ، فمن حق الدائن بعد تمام عقد الرهن أن يطالب بقبض العين المرهونة ، فالقبض حكم من أحكام العقد ، وليس ركنا من أركانه ولا شرطا لتمامه . وقوله { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ ٱلَّذِي ٱؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّه } تفريع على أحكام الديون السابقة ، وحض على أداء الأمانة وعلى حسن المعاملة . أى فإن أمن الدائن المدين واعتمد على ذمته ووفائه ولم يوثق الدين بالكتابة والشهود والرهن ، فعلى المدين أن يكون عند حسن ظن الدائن به بأن يؤدى ما عليه من ديون فى الموعد المحدد بدون تسويف أو مماطلة ، وعليه كذلك أن يتقى الله ربه فى رعاية حقوق غيره فلا يجحدها ولا يتأخر فى أدائها لأن الله العليم بكل شىء سيحاسب كل إنسان بما قدمت يداه . وعبر - سبحانه - بقوله { فَإِنْ أَمِن } دون أو أودع ، للإِشارة إلى الجانب الذى اعتمد عليه الدائن فى المدين وهو خلق الأمانة ، فهو لا يرى فيه إلا جانباً مأموناً لا يتوقع منه شراً أو خيانة ، وللتنبيه إلى أن صفة الأمانة والوفاء من الصفات التى يجب أن يتحلى بها المؤمنون جميعاً حتى ينالوا السعادة فى دينهم ودنياهم ، عبر بقوله { فَلْيُؤَدِّ ٱلَّذِي ٱؤْتُمِنَ } ولم يقل فليؤد المدين لحضه على الأداء بأحسن أسلوب ، لأنه ما دام الدائن قد ائتمنه على ما أعطاه من ديون ، فعلى هذا الذى اؤتمن وهو المدين أن يكون عند حسن الظن به وأن يرد إليه حقه فى موعده مع شكره على حسن ظنه به . وقوله { أَمَانَتَهُ } أى دينه . والضمير يصح أن يعود إلى الدائن باعتباره مالك الدين ، وإلى المدين باعتبار أن الدين عليه ، وفى إضافتها - أى الأمانة - إلى المدين إشعار له بأنها عبء فى ذمته يجب أن يؤديه حتى يتخلص من تكاليفه ، إذ الأمانة عبء ثقيل عند العقلاء الذين يشعرون بالمسئولية نحو أنفسهم ونحو غيرهم . وجمع - سبحانه - بين صفتى الألوهية والربوبية فى قوله { وَلْيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّه } للمبالغة فى التحذير من الخيانة والمماطلة فإنهما يغضبان الله - تعالى - الذى خلق الإِنسان ورباه وأسبغ عليه نعمه الظاهرة والباطنة ، ولإِشعار هذا المدين بأن التقوى هى الوثيقة الكبرى التى لا تعدلها وثيقة أخرى فى كتابة أو شهادة أو رهان . وبذلك نرى لوناً من ألوان التدرج الحكيم فى شريعة الله - تعالى - فأنت ترى أن الله - تعالى - قد بين قبل ذلك أن الكتابة فى الديون والإِشهاد عليها مطلوبان ، فإن تعذرت الكتابة والشهادة لسبب من الأسباب فإنه يترخص حينئذ بالرهن المقبوض . فإن تعذر على المدين المحتاج أن يدفع للدائن رهنا يكون الاعتماد على الأمانة التى هى صفة من صفات الصادقين . فياله من تشريع حكيم ، بين للناس ما يصلح شأنهم فى دينهم وفى دنياهم . ثم أمر الله تعالى - عباده بأن يؤدوا الشهادة على وجهها وألا يكتموها فقال - تعالى - { وَلاَ تَكْتُمُواْ ٱلشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } . أى وعليكم - أيها المؤمنون - ألا تمتنعوا عن أدائها إذا دعيتم إليها وألا تخفوها فإن الذى يخفيها ويمتنع عن أدائها يكون معاقباً من الله - تعالى - بسبب ارتكابه لما نهى عنه . وقد أسند - سبحانه - الإِثم إلى القلب خاصة مع أن الإِثم يسند إلى الشخص ، لأن الإِثم فى كتمان الشهادة عمل القلب لا عمل الجوارح ، ولأن القلب أساس كل خير وكل شر ، ففى الحديث الشريف " ألا وإن فى الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهى القلب " . قال صاحب الكشاف فإن قلت هلا اقتصر على قوله { فَإِنَّهُ آثِمٌ } وما فائدة ذكر القلب والجملة هى الآثمة لا القلب وحده ؟ قلت كتمان الشهادة هو أن يضمرها ولا يتكلم بها . فلما كان إثما مقترنا بالقلب أسند إليه لأن إسناد الفعل إلى الجارحة التى يعمل بها أبلغ ، ألا تراك تقول إذا أردت التوكيد هذا مما أبصرته عينى ، ووعاه قلبى . ولأن القلب هو رئيس الأعضاء فكأنه قيل ومن يكتمها فقد تمكن الإِثم من أصل نفسه ، وملك أشرف مكان فيه ولئلا يظن أن كتمان الشهادة من الآثام التى تتعلق باللسان فقط . وليعلم أن القلب أصل متعلقه ومعدن اقترافه ، واللسان ترجمان عنه . ولأن أفعال القلوب أعظم من أفعال سائر الجوارح ، وهى لها كالأصول التى تتشعب عنها . ألا ترى أن أصل الحسنات والسيئات الإِيمان والكفر . وهما من أفعال القلوب فإذا جعل كتمان الشهادة من آثام القلوب فقد شهد له بأنه من معاظم الذنوب . وقوله { آثِمٌ } خبر إن و { قَلْبُهُ } رفع بآثم على الفاعلية كأنه قيل فإنه يأثم قلبه . ويجوز أن يرتفع قلبه بالابتداء . وآثم خبر مقدم . والجملة خبر إن والضمير للشأن " . ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله { وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } أى والله - تعالى - عليم بكل أعمالكم وأقوالكم وسائر شئونكم وسيجازى المحسنين إحساناً ، والمسيئين سوءاً فعليكم أيها المؤمنون أن تستجيبوا لأوامر الله ، وأن تجتنبوا ما نهاكم عنه حتى تكونوا من السعداء . فالجملة الكريمة تذييل قصد به الوعد الحسن للمؤمنين الصادقين ، والوعيد الشديد للعصاة المسيئين ، حتى يزداد المؤمنون إيمانا ، ويقلع العصاة عن عصيانهم وسيئاتهم . وبعد هذا البيان الجامع الحكيم لطرق التعامل التى أباحها الله - تعالى - لعباده والتى حرمها عليهم ، بين سبحانه - أن ما فى السماوات والأرض ملك له ، وأنه سيحاسب عباده بما يقتضيه علمه الشامل ، وإرادته النافذة فقال - تعالى - . { للَّهِ ما فى ٱلسَّمَاواتِ وَمَا فِي … } .