Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 6-7)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ففى هاتين الآيتين بيان لأحوال طائفة ثانية من الناس ، على الضد فى طبيعتها وأوصافها ومآلها من الطائفة الأولى التى فازت برضوان الله . والكفر - بالضم - ضد الإِيمان . وأصله المأخوذ منه الكفر - بالفتح - وهو ستر الشىء وتغطيته ، ومنه سمى الليل كافراً ، لأنه يغطى كل شىء بسواده ، وسمى السحاب كافراً لستره ضوء الشمس . ثم شاع الكفر فى مجرد ستر النعمة ، كأن المنعم عليه قد غطى النعمة بجحوده لها . ويستعمله الشارع فى عدم الإِيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر . وسمى من لم يؤمن بما يجب الإِيمان به بعد الدعوة إليه - كافراً ، لأنه صار بجحوده لذلك الحق وعدم الإِذعان إليه كالمغطى له . والمراد بالذين كفروا فى الآية التى معنا ، طائفة معينة صمت آذانها عن الحق ، عناداً وحسداً ، وليس عموم الكافرين ، لأن منهم من دخل في الإِسلام بعد نزول هذه الآية . وسواء اسم مصدر بمعنى الاستواء والمراد به اسم الفاعل أي مستو ولذلك يوصف به كما يوصف بالمصدر ، كما فى قوله - تعالى - { قُلْ يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } أى مستوية . والإِنذار إخبار معه تخويف فى مدة تتسع للتحفظ من المخوف ، فإن لم تتسع له فهو إعلام وإشعار لا إنذار ، وأكثر ما يستعمل فى القرآن فى التخويف من عذاب الله - تعالى - . والمعنى إن الذين كفروا برسالتك يا محمد مستو عندهم إنذارك وعدمه ، فهم لا يؤمنون بالحق ، ولا يستجيبون لداعى الهدى ، لسوء استعدادهم ، وفساد فطرهم . وجاءت جملة " إن الذين كفروا مستأنفة ولم تعطف على ما قبلها لاختلاف الغرض الذى سيق له الكلام ، إذ فى الجمل السابقة حديث عن الكتاب وآثاره وعظمته ، وهنا حديث عن الكافرين وأحوالهم . وقد وضح هذا المعنى صاحب الكشاف فقال " فإن قلت لم قطعت قصة الكفار عن قصة المؤمنين ولم تعطف كنحو قوله { إِنَّ ٱلأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ ٱلْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ } وغيره من الآيات الكثيرة ؟ قلت ليس وزان هاتين القصتين وزان ما ذكرت . لأن الأولى فيما نحن فيه مسوقه لذكر الكتاب وأنه هدى المتقين ، وسيقت الثانية لأن الكفار من صفتهم كيت وكيت فبين الجملتين تباين فى الغرض والأسلوب ، وهما على حد لا مجال فيه للعاطف " . وقوله { سَوَآءٌ } خبر إن و { عَلَيْهِمْ } متعلق به ، و { أَأَنذَرْتَهُمْ } مؤول بمصدر فاعل سواء . أى إن الذين كفروا سواء عندهم إنذارهم وعدم إنذارهم وإنما استوى لديهم الإِنذار وعدمه مع أن الإِنذار إنما يواجههم به نبى قوى أمين مؤيد من الله - تعالى - ، لأنهم لما جحدوا نعم الله ، وعموا عن آياته ، وحسدوا رسوله على ما آتاه الله من فضله ، صاروا بسبب ذلك فى حضيض جمد معه شعورهم ، وبرد فيه إحساسهم ، فلا تؤثر فيهم موجعات القول ، ولا تنفذ إلى قلوبهم بالغات الحجج . فهم كما قال الشاعر @ لقد أسمعت إذ ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادى @@ ولم يذكر - سبحانه - التبشير مع الإِنذار ، لأنهم ليسوا أهلا للبشارة ، ولأن الإِنذار أوقع فى القلوب ، والذى لا يتأثر به يكون عدم تأثره بغيره أولى . ولم يقل - سبحانه - سواء عليك أأنذرتهم أم لم تنذرهم … الخ ، لأنه بالنسبة له صلى الله عليه وسلم لا يستوى الأمران ، إذ هو فى حالة إنذاره لهم مثاب ومأجور ، أما فى حالة عدم إنذاره فهو مؤاخذ من الله - تعالى - لأنه مكلف بتبليغ ما أنزل إليه من ربه . وجملة { لاَ يُؤْمِنُونَ } مفسرة لمعنى الجملة التى قبلها ومؤكدة لها ، لأنه حيث كان الإِنذار وعدمه سواء ، فلا يتوقع منهم الإِيمان . ولذلك فصلت . وفى هذه الجملة إخبار بعدم إيمانهم ألبتة ، وذلك لأن حرف " لا " إذا دخل على الفعل المضارع - كما هنا - أفاد أن الفعل لا يقع في المستقبل حتى تقوم قرينة تقصر النفى فى المستقبل على وقت محدد . والحكمة في الإِخبار بعدم إيمان هذه الطائفة المعينة من الكفار ، تسلية النبى صلى الله عليه وسلم حتى لا يكون فى صدره حرج من تمردهم وعدم إيمانهم بعد أن قام بواجب دعوتهم ، وفى ذلك تذكرة لكل داع مصلح بأن لا يحترق قلبه أسفاً على قوم أعرضوا عن سلوك الصراط المستقيم ، بعد أن دعاهم إليه ، وبذل قصارى جهده فى تبصيرهم وإرشادهم . ثم بين - سبحانه - بعد ذلك الموانع التى حالت بينهم وبين الاهتداء إلى الحق فى الماضى والمستقبل فقال تعالى { خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ } . والختم الوسم بطابع ونحوه ، مأخوذ من وضع الخاتم على الشىء وطبعه فيه للاستيثاق ، لكى لا يخرج منه ما هو بداخله ، ولا يدخله ما هو خارج عنه . قال القرطبى " والختم مصدر ختمت الشىء ختماً فهو مختوم مختم ، شدد للمبالغة ، ومعناه التغطية على الشىء والاستيثاق منه ، وقد يكون محسوساً كما فى ختم الكتاب والباب ، وقد يكون معنوياً كالختم على القلوب … " والقلوب جمع قلب ، وهو المضغة التى توجد بالجانب الأيسر من صدر الإِنسان ، ويستعمل فى القوة العاقلة التى هى محل الفهم والعلم . والسمع مصدر سمع . ويطلق على الآلة التى يقع بها السمع . ولما كان الختم يمنع من أن يدخل فى المختوم عليه شىء ، استعير لإِحداث هيئة فى القلب والسمع تمنع من خلوص الحق إليهما . الأبصار جمع بصر ، وهو فى الأصل الإِدراك بالعين ، ويطلق على القوة التى يقع بها الإِبصار ، وعلى العين نفسها . وهذا المعنى أقرب ما تحمل عليه الأبصار فى الآية . وهو الأنسب لأن تجعل عليه غشاوة . ومفاد الآية أن تصير أبصارهم بحيث لا تهتدى إلى النظر فى حكمة المخلوقات وعجائب المصنوعات . باعتبار وتدبر وحتى لكأنما جعلت عليها غشاوة . والغشاوة ما يغطى به الشىء ، من غشاه إذا غطاه . يقال غشيه غشاوة - مثلثة - وغشاية . أى ستره وغطاه . فهذه الآية الكريمة تفيد عن طريق الاستعارة أو التمثيل أن هناك حواجز حصينة ، وأقفالاً متينة قد ضربت على قلوبهم وعلى أسماعهم ، وغشاوات مطبقة على أبصارهم حتى أصبحوا لا يخيفهم نذير ولا يرغبهم بشير . وعبر فى جانب القلب والسمع بالختم ، وفى جانب البصر بالغشاوة ، لمعنى سام ، وحكمة رائعة ، ذلك أن آفة البصر معروفة ، إذ غشاوة العين معروفة لنا ، فالتعبير فى جانب العين بالغشاوة مما يحدد لنا مدى عجزهم عن إدراك آيات الله بتلك الجارحة ، وأما القلب والسمع فإنهما لما كانا لا تدرك آفتهما إلا بصعوبة ، فقد صور لنا موانعهما عن الاستجابة للحق بصورة الختم . وعبر فى جانب القلب والسمع بجملة فعلية تفيد التجدد والحدوث ، وفى جانب البصر بجملة اسمية تفيد الثبات والاستقرار ، لأنهم قبل الرسالة ما كانوا يسمعون صوت نذير ، ولا يواجهون بحجة ، وإنما كان صوت النذير وصياغة البراهين بعد ظهور النبى صلى الله عليه وسلم . وأما ما يدرك بالبصر من دلائل وجود الله وآيات قدرته ، فقد كان قائما فى السماوات وفى الأرض وفى الأنفس ، ويصح أن يدرك قبل الرسالة النبوية ، وأن يستدل به المتبصرون والمتدبرون على وجود ربهم وحكمته ، فلم يكن عماهم عن آيات الله القائمة حادثاً متجدداً ، بل هم قد صحبهم العمى من بدء وجودهم ، فلما دعوا إلى التبصر والتدبر صمموا على ما كانوا عليه من عمى . وجمع القلوب والأبصار وأفرد السمع ، لأن القلوب تختلف باختلاف مقدار ما تفهمه مما يلقى إليها من إنذار أو تبشير ، ومن حجة أو دليل ، فكان عن ذلك تعدد القلوب بتعدد الناس على حسب استعدادهم ، وكذلك شأن الناس فيما تنظره أبصارهم من آيات الله فى كونه ، فإن أنظارهم تختلف فى عمق تدبرها وضحولته ، فكان من ذلك تعدد المبصرين بتعدد مقادير ما يستطيعون تدبره من آيات الله فى الآفاق . وأما المسموع فهو بالنسبة للناس جميعاً شىء واحد هى الحجة يناديهم بها المرسلون ، والدليل يوضحه لهم النبيون . لذلك كان الناس جميعاً كأنهم على سمع واحد ، فكان إفراد السمع إيذاناً من الله بأن حجته واحدة ، ودليله واحد لا يتعدد . ونرى القرآن هنا قدم القلب فى الذكر على السمع ، بينما فى سورة الجاثية قدم السمع فى الذكر على القلب فقال { أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ ٱللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } وذلك لأنه - سبحانه - في سورة الجاثية قد ذكر الختم معطوفا على قوله " اتخذ إلهه هواه ، ومن اتخذ إلهه هواه يكون أول ما يبدو منه للناس ويعرف هو إعراضه عن النصح ، ولى رأسه عن استماع الحجة ، فكان مظهر عدم السماع منه أول ما يبدو للناظرين ، فلذلك قدم السمع على القلب . وأما آيتنا هذه وهى قوله - تعالى - { خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ } فقد جاءت إثر الآية المختومة بقوله { لاَ يُؤْمِنُونَ } . والإِيمان تصديق يقوم على الحجة والبراهين ، وإدراك الحجة والبرهان إنما هو بالقلب فكان التعليل المتصل الواضح لنفى الإِيمان أن قلوبهم مغلقة لا تنفذ إليها الحجة ، أولا يتسرب إليها نور البرهان لذلك قدم القلب على السمع . هذا وقوله - تعالى - { خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ } … إلخ . لا ينفى عنهم تبعة الكفر ، لأنهم هم الذين باشروا من فاسد الأعمال ، وذميم الخصال ، ومتابعة الهوى ، ما نسج على قلوبهم الأغلفة السميكة ، وأصم إلى جانب ذلك آذانهم وأعمى أبصارهم ، { وَمَا ظَلَمَهُمُ ٱللَّهُ وَلَـٰكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } ولعلماء الكلام كلام طويل حول هذه المسألة فليرجع إليه من شاء . ثم بين - سبحانه - ما يستحقونه من عذاب بسبب إغراقهم في الكفر . واستحبابهم للمعاصى فقال { وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ } . أى ولهم بسبب سوء أعمالهم عذاب موجع مؤلم لأبدانهم وأجسامهم . وأصل العذاب المنع ، يقال عذب الفرس - كضرب - امتنع عن العلف . وعذب الرجل إذا ترك المأكل والنوم ، فهو عاذب وعذوب . ثم أطلق على الإِيجاع الشديد لما فيه من المنع عن اقتراف الذنب . والعظيم الكبير ، من عظم الشىء ، وأصله كبر عظمه ، ثم استعير لكل كبير محسوسا كان أو معقولا . ووصف العذاب بالعظيم على معنى أن سائر ما يجانسه من العذاب يكون بالنسبة إليه حقيراً هنيئاً . قال أبو حيان فى البحر وقد ذكروا فى هاتين الآيتين من ضروب الفصاحة أنواعاً . الأول الخطاب العام اللفظ ، الخاص المعنى . الثانى الاستفهام الذى يراد به تقرير المعنى فى النفس . أى يتقرر أن الانذار وعدمه سواء عندهم . الثالث المجاز ويسمى الاستعارة وهو فى قوله - تعالى - { خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ } وحقيقة الختم وضع محسوس يحدث بينهما رقم يكون علامة للخاتم ، والختم هنا معنوى فإن القلب لما لم يقبل الحق مع ظهوره استعير اسم المختوم عليه ، فبين أنه من مجاز الاستعارة . الرابع الحذف وهو فى مواضع منها { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ … } أى القوم الذين كفروا بالله وبك وبما جئت به ، ومنها { لاَ يُؤْمِنُونَ } أى بالله وبما أخبرتهم به عنه . وإلى هنا يكون القرآن قد حدثنا عن طائفتين من الناس طائفة المتقين ومالها من جميل الصفات ، وجزيل الثواب ، وطائفة الكافرين ومالها من ذميم النعوت ، وشديد العقاب . ثم ابتدأ القرآن بعد ذلك حديثه عن طائفة ثالثة ليس عندها إخلاص المتقين ، وليس لديها صراحة الكافرين ، وإنما هى طائفة قلقة مذبذبة لا إلى هؤلاء ولا إلى أولئك ، تلك الطائفة الثالثة هى طائفة المنافقين الذين فضحهم القرآن . وأماط اللئام عن خفاياهم وخداعهم فقال { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ … وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } .