Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 8-10)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قال صاحب الكشاف " افتتح - سبحانه - كتابه بذكر الذين أخلصوا دينهم لله ، وواطأت قلوبهم ألسنتهم ، ووافق سرهم علنهم ، وفعلهم قولهم ، ثم ثنى بالذين محضوا الكفر ظاهراً وباطناً ، قلوباً وألسنة ، ثم ثلث بالذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ، وأبطنوا خلاف ما أظهروا . وهم الذين قال فيهم { مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذٰلِكَ لاَ إِلَىٰ هَـٰؤُلاۤءِ وَلاَ إِلَى هَـٰؤُلاۤءِ } وسماهم المنافقين وكانوا أخبث الكفرة وأبغضهم إليه وأمقتهم عنده ، لأنهم خلطوا بالكفر تمويهاً وتدليساً ، وبالشرك استهزاء وخداعاً ، ولذلك أنزل فيهم { إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ في ٱلدَّرْكِ ٱلأَسْفَلِ مِنَ ٱلنَّارِ } ووصف حال الذين كفروا فى آيتين ووصف حال الذين نافقوا فى ثلاث عشرة آية ، نعى عليهم فيها خبثهم ، ومكرهم ، وفضحهم ، وسفههم . واستجهلهم ، واستهزأ بهم ، وتهكم بفعلهم ، وسجل طغيانهم ، ودعاهم صما بكما عميا ، وضرب لهم الأمثال الشنيعة . وقصة المنافقين عن آخرها معطوفة على قصة الذين كفروا ، كما تعطف الجملة على الجملة " . والناس اسم لجماعة الإِنس . قال القرطبى " واختلف النحاة فى لفظ الناس فقيل هو من أسماء الجموع ، جمع إنسان وإنسانة على غير اللفظ ، وتصغيره نويس ، فالناس من النوس وهو الحركة ، يقال ناس ، ينوس أى تحرك . وقيل أصله نسى ، فأصل ناس نسى ، قلب فصار نيس ، تحركت الياء وانفتح ما قبلها فانقلبت ألفاً ، ثم دخلت الألف واللام فقيل الناس ، قال ابن عباس نسى آدم عهد الله فسمى إنساناً . وقيل سمى إنساناً لأنسه بربه ، قال الشاعر @ وما سمى الإِنسان إلا لأنسه ولا القلب إلا أنه يتقلب @@ واليوم الآخر هو اليوم الذى يبتدئ بالبعث ولا ينقطع أبداً ، وقد يراد منه اليوم الذى يبتدئ بالبعث وينتهى باستقرار أهل الجنة فى الجنة . وأهل النار فى النار . وقال القرآن فى شأن المنافقين { وَمِنَ ٱلنَّاسِ } مجرداً إياهم من الوصفين السابقين ، وصف الإِيمان ووصف الكفر ، لأنهم لم يكونوا بحسب ظاهر الأمر مع الكافرين ، ولا بحسب باطنه مع المؤمنين ، لذا عبر عنهم بالناس لينطبق التعبير على ما حاولوه لأنفسهم من أتهم لا هم مؤمنون ولا هم كافرون وفى ذلك مبالغة فى الحط من شأنهم . فهم لم يخرجوا عن كونهم ناساً فقط ، دون أن يصلوا بأوصافهم إلى أهل اليمين أو إلى أهل الشمال الصرحاء فى كفرهم ، بل بقوا فى منحدر من الأرض ، لا يمر بهم سالك الطريق المستقيم ولا سالك المعوج من الطرق . وعبر القرآن بلفظ { يَقُولُ آمَنَّا } ليفيد أنه مجرد قول باللسان ، لا أثر له فى القلوب ، وإنما هم يقولون بأفواههم ما ليس فى قلوبهم . وحكى القرآن عن هؤلاء المنافقين أنهم اقتصروا فى إظهار الإِيمان على ذكر الإِيمان بالله واليوم الآخر ، ليزيدوا فى التمويه على المؤمنين بإدعاء أنهم أحاطوا بالإِيمان من طرفيه ، لأن من يؤمن بالله واليوم الآخر ، استجابة لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم فإن من شأنه أن يكون - أيضا - مؤمناً برسل الله وملائكته وكتبه . وقد كذبهم الله - تعالى - فى دعواهم الإِيمان ، فقال { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } . فهذه الجملة الكريمة رد لما ادعوه من الإِيمان ، ونفى له على أبلغ وجه ، إذ جاء النفى مؤكداً بالباء فى قوله { بِمُؤْمِنِينَ } . ثم إن الجملة نفت عنهم الإِيمان على سبيل الإِطلاق ، فهم ليسوا بمؤمنين لا بالله ولا باليوم الآخر ، ولا بكتب الله ولا برسله ولا بملائكته . ثم بين - سبحانه - الدوافع التى دفعتهم إلى أن يقولوا { آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } فقال { يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا } . والخدع فى أصل اللغة الإِخفاء والإِبهام ، يقال خدعه - كمنعه - خدعا ، ختله وأراد به مكروها من حيث لا يعلم وأصله من خدع الضب حارسه إذ أظهر الإِقبال عليه ثم خرج من باب آخر . وخداعهم لله - تعالى - معناه إظهارهم الإِيمان وإبطانهم الكفر ليحقنوا دماءهم وأموالهم ، ويفوزوا بسهم من الغنائم ، وسمى فعلهم هذا خداعاً لله - تعالى - لأن صورته صورة الخداع ، فالجملة الكريمة مسوقة على أسلوب المشاكلة ، ولا يجوز حملها على الحقيقة ، لأنه - سبحانه - لا يخفى عليه صنع المنافقين بل لا يخفى عليه شىء فى الأرض ولا فى السماء . قال - تعالى - { إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ } . أما خداعهم للمؤمنين فمن مظاهره إظهارهم لهم أنهم إخوانهم فى العقيدة وأنهم لا يريدون لهم إلا الخير . بينما هم فى الحقيقة يضمرون لهم العداوة ويتربصون بهم الدوائر . وجاءت الآية الكريمة هكذا بدون عطف ، لأنها جواب سؤال نشأ من الآية السابقة ، إذ أن قول المنافقين " آمنا " وما هم بمؤمنين ، يثير فى نفس السامعين استفهاما عما يدعو هؤلاء لمثل تلك الحال المضطربة والحياة القلقة المقامة على الكذب ، فكان الجواب إنهم يفعلون ذلك محاولين مخادعة المؤمنين ، جهلا منهم بصفات خالقهم . وقال القرآن { يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا } . ولم يذكر مخادعتهم للرسول صلى الله عليه وسلم ، ولعل الحكمة فى ذلك أن القرآن يعتبر مخادعة لرسوله ، لأنه هو الذى بعثه إليهم ، وهو المبلغ عن الله أحكامه وشرائعه . قال - تعالى - { إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } وقال - تعالى - { مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ } ثم بين - سبحانه - غفلتهم وغباءهم فقال { وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ } . الأنفس جمع نفس بمعنى ذات الشىء وحقيقته . وتطلق على الجوهر اللطيف الذى يكون به الحس والحركة والإدراك . ويشعرون مضارع شعر بالشىء - كنصر وكرم - يقال شعر بالشىء أى فطن له ، ومنه الشاعر لفطنته ، لأنه يفطن لما لا يفطن له غيره من غريب المعانى ودقائقها . والشعور العلم الحاصل بالحواس ، ومنه مشاعر الإِنسان أى حواسه . والمعنى أن هؤلاء المنافقين لم يخادعوا الله لعلمه بما يسرون ، ولم يخادعوا المؤمنين لأن الله يدفع عنهم ضرر خداع المنافقين ، وإنما يخدعون أنفسهم لأن ضرر المخادعة عائد عليهم ، ولكنهم لا يشعرون بذلك . لأن ظلام الغى خالط قلوبهم ، فجعلهم عديمى الشعور ، فاقدى الحس . وأتى بجملة { وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم } ، بأسلوب القصر مع أن خداعهم للمؤمنين قد ينالهم بسببه ضرر ، لأن أولئك المنافقين سيصيبهم عذاب شديد بسبب ذلك ، أما المؤمنون فحتى لو نالهم ضرر فلهم عند الله ثوابه . ونفى عنهم الشعور مع سلامة مشاعرهم ، لأنهم لم ينتفعوا من نعمتها ، ولم يستعملوها فيما خلقت له ، فكانوا كالفاقدين لها . ثم بين - سبحانه - العلة فى خداعهم لله وللمؤمنين فقال { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } . والمرض العلة فى البدن ونقيضه الصحة ، وقد يستعمل على وجه الاستعارة فيما يعرض للمرء فيخل بكمال نفسه ، كسوء العقيدة والحسد ، والبغضاء والنفاق ، وهو المراد هنا . وسمى ما هم فيه من نفاق وكفر مرضا ، لكونه مانعا لهم من إدراك الفضائل . كما أن مرض الأبدان يمنعها من التصرف الكامل . وجعل القرآن قلوبهم ظرفا للمرض ، للإٍشعار بأنه تمكن منها تمكناً شديدا كما يتمكن الظرف من المظروف فيه . ثم أخبر - سبحانه - بأنهم بسبب سوء أعمالهم قد زادهم الله ضلالا وخسراً فقال { فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً } . لأنهم استمروا فى نفاقهم وشكهم ، ومن سنة الله أن المريض إذا لم يعالج مرضه زاد لا محالة مرضه ، إذ المرض ينشئ المرض ، والانحراف يبدأ يسيراً ثم تنفرج الزاوية فى كل خطوة وتزداد . والمعنى أن هؤلاء المنافقين قد زادهم رجساً على رجسهم ، ومرضا على مرضهم ، وحسدا على حسدهم ، لأنهم عموا وصموا عن الحق ، ولأنهم كانوا يحزنون لأى نعمة تنزل بالمؤمنين . كما قال - تعالى { إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا } ثم بين - سبحانه - سوء عاقبتهم فقال { وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } . { أَلِيمٌ } أى مؤلم وموجع وجعاً شديداً . من ألم - كفرح - فهو ألم ، وآلمه يؤلمه إيلاما ، أى أوجعه إيجاعاً شديدا . والكذب الإِخبار عن الشىء بخلاف الواقع . ولقد كان المنافقون كاذبين فى قولهم { آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } وهم غير مؤمنين . وجعلت الآية الكريمة العذاب الأليم مرتبا على كذبهم مع أنهم كفرة ، والكفر أكبر معصية من الكذب ، للإِشعار بقبح الكذب ، وللتنفير منه بأبلغ وجه ، فهؤلاء المنافقون قد جمعوا الخستين ، الكفر الذى توعد الله مرتكبه بالعذاب العظيم ، والكذب الذى توعد الله مقترفه بالعقاب الأليم . وعبر بقوله { كَانُوا يَكْذِبُون } لإِفادة تجدد الكذب وحدوثه منهم حيناً بعد حين ، وأن هذه الصفة هى أخص صفاتهم ، وأبرز جرائمهم . ثم وصفهم الله - تعالى - بعد ذلك بجملة من الرذائل والقبائح مضافة إلى قبائحهم السابقة فقال { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فى ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ … وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ } .