Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 20, Ayat: 115-123)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
واللام فى قوله - تعالى - { وَلَقَدْ عَهِدْنَآ … } هى الموطئة للقسم ، والمعهود محذوف ، وهو النهى عن الأكل من شجرة معينة ، كما وضحه فى آيات أخرى منها قوله - تعالى - { وَلاَ تَقْرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ٱلْظَّالِمِينَ } أى والله لقد عهدنا إلى آدم - عليه السلام - وأوصيناه ألا يقرب تلك الشجرة { مِن قَبْلُ } أن يخالف أمرنا فيقربها ويأكل منها ، أو من قبل أن نخبرك بذلك - أيها الرسول الكريم - . والفاء فى قوله { فَنَسِيَ } للتعقيب ، والمفعول محذوف . أى فنسى العهد الذى أخذناه عليه بعدم الأكل منها . والنسيان هنا يرى بعضهم أنه بمعنى الترك ، وقد ورد النسيان بمعنى الترك فى كثير من آيات القرآن الكريم . ومن ذلك قوله - تعالى - { وَقِيلَ ٱلْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـٰذَا } أى نترككم كما تركتم لقاء يومكم هذا وهو يوم القيامة . وعليه يكون المعنى ولقد عهدنا إلى آدم من قبل بعدم الأكل من الشجرة فترك الوفاء بعهدنا وخالف ما أمرناه به . وعلى هذا التفسير فلا إشكال فى وصف الله - تعالى - له بقوله { وَعَصَىٰ ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ } لأن آدم بمخالفته لما نهاه الله - تعالى - عنه وهو الأكل من الشجرة - صار عاصيا لأمر ربه . ومن العلماء من يرى أن النسيان هنا على حقيقته ، أى أنه ضد التذكر فيكون المعنى ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسى ما عاهدناه عليه ، وغاب عن ذهنه ما نهيناه عنه ، وهو الأكل من الشجرة . فإن قيل إن الناسى معذور . فكيف قال الله - تعالى - فى حقه { وَعَصَىٰ ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ } ؟ . فالجواب أن آدم - عليه السلام - لم يكن معذورا بالنسيان ، لأن العذر بسبب الخطأ والنسيان والإِكراه . من خصائص هذه الأمة الإسلامية ، بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم - " إن الله تجاوز لى عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " . قال القرطبى ما ملخصه قوله - تعالى - { وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَىٰ ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ … } . للنسيان معنيان أحدهما الترك ، أى ترك الأمر والعهد ، وهذا قول مجاهد وأكثر المفسرين ، ومنه { نَسُواْ ٱللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } وثانيهما قال ابن عباس " نسى " هنا من السهو والنسيان ، وإنما أخذ الإِنسان من أنه عهد إليه فنسى … وعلى هذا القول يحتمل أن يكون آدم فى ذلك الوقت مؤاخذا بالنسيان ، وإن كان النسيان عنا اليوم مرفوعا . والمراد تسلية النبى - صلى الله عليه وسلم - أى أن طاعة بنى آدم للشيطان أمر قديم أى إن نقَض هؤلاء - المشركون - العهد ، فإن آدم - أيضا - عهدنا إليه فنسى . … " . وقوله { وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } مقرر لما قبله من غفلة آدم عن الوفاء بالعهد . قال الجمل وقوله { نَجِدْ } يحتمل أنه من الوجدان بمعنى العلم ، فينصب مفعولين ، وهما " له " و " عزما " ويحتمل أنه من الوجود الذى هو ضد العدم فينصب مفعولا وهو { عَزْماً } والجار والمجرور متعلق بنجد . والعزم توطين النفس على الفعل ، والتصميم عليه ، والمضى فى التنفيذ للشىء … أى فنسى آدم عهدنا ، ولم نجد له ثبات قدم فى الأمور ، يجعله يصبر على عدم الأكل من الشجرة بل لانت عريكته وفترت همته بسبب خديعة الشيطان له . ثم ذكر - سبحانه - بعد ذلك بشىء من التفصيل ، الأسباب التى أدت إلى نسيان آدم وضعف عزيمته فقال { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمََ فَسَجَدُوۤاْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَىٰ } . أى وأذكر - أيها المخاطب - وقت أن قلنا للملائكة اسجدوا لآدم سجود تكريم لا سجود عبادة ، فامتثلوا لأمرنا ، إلا إبليس فإنه أبى السجود لآدم تكبرا وغرورا وحسدا له على هذا التكريم . ثم حكى - سبحانه - ما قاله لآدم بعد إباء إبليس عن السجود له فقال { يآءَادَمُ إِنَّ هَـٰذَا } أى إبليس { عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ } بسبب حسده لكما وحقده عليكما { فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ ٱلْجَنَّةِ فَتَشْقَىٰ } أى فاحذرا أن تطيعاه ، فإن طاعتكما له ستؤدى بكما إلى الخروج من الجنة ، فيترتب على ذلك شقاؤك ، أى تعبك فى الحصول على مطالب حياتك . وأسند سبحانه إلى إبليس الإِخراج لهما من الجنة ، لأنه هو المتسبب فى ذلك ، عن طريق الوسوسة لهما ، وطاعتهما له فيما حرضهما عليه وهو الأكل من الشجرة ، وعبر عن التعب فى طلب المعيشة بالشقاء ، لأنه بعد خروجه من الجنة سيقوم بحراثة الأرض وفلاحتها وزرعها وريها … ثم حصدها … ثم إعداد نتاجها للأكل ، وفى كل ذلك ما فيه من شقاء وكد وتعب . وقال - سبحانه - { فَتَشْقَىٰ } ولم يقل فتشقيا كما قال { فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا } لأن الكلام من أول القصة مع آدم وحده أو لأن شقاء الرجل يدخل فيه شقاء أهله ، كما أن سعادته سعادتهم ، أو لأنه هو الذى يعود عليه التعب إذ هو المكلف بأن يقدم لها ما تحتاجه من مطالب الحياة . كالمسكن والملبس والمطعم والمشرب . قال القرطبى ما ملخصه قوله { فَتَشْقَىٰ } يعنى أنت وزوجك لأنهما فى استواء العلة واحد ، ولم يقل فتشقيا لأن المعنى معروف ، وآدم - عليه السلام - هو المخاطب ، وهو المقصود . وأيضا لما كان هو الكاد عليها والكاسب لها كان بالشقاء أخص . وفى ذلك تعليم لنا أن نفقة الزوجة على الزوج . فمن يومئذ جرت نفقة النساء على الأزواج ، فلما كانت نفقة حواء على آدم ، كانت كذلك نفقات بناتها على بنى آدم بحق الزوجية … وقوله - تعالى - { إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَىٰ وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَىٰ } تعليل لما يوجبه النهى عن طاعة إبليس التى ستؤدى بهما إلى الإخراج من الجنة وإلى الشقاء فى الدنيا . والجوع ضد الشبع . وقوله { تَعْرَىٰ } من العرى الذى هو خلاف الملبس . يقال عرى فلان من ثيابه يعرى عريا ، إذا تجرد منها . وقوله { تَضْحَىٰ } أى لا يصيبك حر الشمس فى الضحى . يقال ضحا فلان يضحى ضحوا - كسعى - إذا كان بارزا لحر الشمس فى الضحى . أى احذر يا آدم أن تطيع إبليس فيحل لك الشقاء ، وتخرج من الجنة التى لا يصيبك فيها شىء من الجوع ، ولا شىء من العرى أو الظمأ ، ولا شىء من حر الشمس فى الضحى … وإنما أنت فيها متمتع بكل مطالب الحياة الهنيئة الناعمة الدائمة . قال صاحب الكشاف الشبع والرى والكسوة والسكن - هذه الأربعة - هى الأقطاب التى يدور فيها كفاح الإنسان ، فذكرّه استجماعها له فى الجنة وأنه مكفى لا يحتاج إلى كفاية كاف ، ولا إلى كسب كاسب كما يحتاج إلى ذلك أهل الدنيا . وذكرها بلفظ النفى لنقائضها التى هى الجوع والعرى والظمأ والضحو ، ليطرق سمعه بأسامى أصناف الشقوة التى حذره منها ، حتى يتحامى السبب الموقع فيها كراهة لها . ثم بين - سبحانه - أن آدم - عليه السلام - مع هذه النصائح والتحذيرات لم يستطيع أن يستمر على الاستجابة لنهى ربه إياه عن الأكل من الشجرة ، بل تغلب عليه ضعفه فاستمع إلى مكر الشيطان ، قال - تعالى - { فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ ٱلشَّيْطَانُ قَالَ يٰآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ ٱلْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَىٰ } . والوسوسة الخطرة الرديئة ، وأصلها من الوسواس ، وهو صوت الحلى ، والهمس الخفى . والوسواس - بكسر الواو الأولى - مصدر وبفتحها الاسم وهو من أسماء الشيطان ، كما قال - تعالى - { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلنَّاسِ مَلِكِ ٱلنَّاسِ إِلَـٰهِ ٱلنَّاسِ مِن شَرِّ ٱلْوَسْوَاسِ ٱلْخَنَّاسِ ٱلَّذِى يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ ٱلنَّاسِ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ } ويقال وسوس فلان إلى فلان ، أى أوصلها إليه ، ووسوس له ، أى من أجله . أى فأوصل الشيطان وسوسته إلى آدم ، وأنهاها إليه ، بأن قال له يا آدم ، هل أدلك على الشجرة التى من أكل منها عاش مخلدا لا يدركه الموت وصار صاحب ملك لا يفنى ، ولا يصبح باليا ابدا . وناداه باسمه ، ليكون أكثر إقبالا عليه ، وأمكن فى الاستماع إليه . وعرض عليه ما عرض فى صورة الاستفهام الذى بمعنى الحث والحض ، ليشعره بأنه ناصح له وحريص على مصلحته ومنفعته . ثم أكد كل هذا التحريض بالقسم كما فى قوله - تعالى - { وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ ٱلنَّاصِحِينَ } فكانت نتيجة مكره بآدم وخداعه له ، أن أطاعه فى الأكل من الشجرة كما قال - تعالى - { فَأَكَلاَ مِنْهَا } أى فأكل آدم وزوجه من الشجرة التى نهاه ربه عن الأكل منها . { فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا } أى عوراتهما ، وسميت العورة سوءة ، لأن انكشافها يسوء صاحبها وبحزنه ، ويجعل الناس تنفر منه . { وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ ٱلْجَنَّةِ … } أى وشرعا وأخذا يلزقان على أجسادهما من ورق الجنة ليسترا عوراتهما . وكثير من المفسرين يقولون إن ورق الجنة الذى أخذ آدم وحواء فى لزقه على أجسادهما هو ورق شجر التين لكبر حجمه . وقد أخذ العلماء من ذلك وجوب ستر العورة ، لأن قوله - تعالى - { وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ ٱلْجَنَّةِ } يدل على قبح انكشافها ، وأنه يجب بذل أقصى الجهد فى سترها . وقوله { وَعَصَىٰ ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ } أى وخالف آدم أمر ربه فى اجتناب الأكل من الشجرة { فَغَوَىٰ } أى فأخطأ طريق الصواب ، بسبب عدم طاعته ربه . قالوا ولكن آدم فى عصيانه لربه كان متأولا ، لأنه اعتقد أن النهى عن شجرة معينة لا عن النوع كله ، وقالوا وتسمية ذلك عصيانا لعلو منصبه ، وقد قيل حسنات الأبرار سيئات المقربين . كما قالوا إن الأسباب التى حملت آدم على الأكل من الشجرة ، أن إبليس أقسم له بالله إنه له ناصح ، فصدقه آدم - عليه السلام - لاعتقاده أنه لا يمكن لأحد أن يقسم بالله كاذبا ، والمؤمن غر كريم ، والفاجر خب لئيم كما جاء فى الحديث الشريف . وقوله - سبحانه - { ثُمَّ ٱجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ } بيان لفضل الله - تعالى - على آدم ، حيث قبل توبته ، ورزقه المداومة عليها . والاجتباء الاصطفاء والاختيار ، أى ثم بعد أن أكل آدم من الشجرة ، وندم على ما فعل هو وزوجه ، اجتباه ربه أى اصطفاه وقربه واختاره { فَتَابَ عَلَيْهِ } أى قبل توبته { وَهَدَىٰ } أى وهداه الى الثبات عليها ، وإلى المداومة على طاعة الله - تعالى - فقد اعترف هو وزوجه بخطئهما ، كما فى قوله - تعالى - { قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ } وقد أوحى الله - تعالى - إليه بكلمات كانت السبب فى قبول توبته ، كما قال - سبحانه - { فَتَلَقَّىٰ ءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ } ثم ختم - سبحانه - هذه الآيات ببيان ما آل إليه أمر آدم فقال - تعالى - { قَالَ ٱهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً … } . أى انزلا من الجنة إلى الإرض مجتمعين ، فألف الاثنين هنا تعود إلى آدم وحواء . أما الآيات الأخرى التى جاءت بضمير الجمع ، والتى منها قوله - تعالى - { قَالَ ٱهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ … } فالضمير فيها يعود إلى آدم وزوجته وذريتهما . وقوله { بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } أى بعض ذريتكما لبعض عدو ، بسبب التخاصم والتنازع والتدافع على حطام هذه الدنيا . { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى } يا بنى آدم عن طريق إرسال الرسل وإنزال الكتب فعليكم أن تتبعوا رسلى ، وتعملوا بما اشتملت عليه كتبى . { فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَايَ } بأن آمن برسلى وصدق بكتبى . { فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَىٰ } لا فى الدنيا ولا فى الآخرة ، بسبب استمساكه بالعروة الوثقى التى لا انفصام لها . وشبيه هذه الآية قوله - تعالى - { قُلْنَا ٱهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } وبعد أن بين - سبحانه - حسن عاقبة من اتبع هداه ، أتبع ذلك ببيان سوء عاقبة من أعرض عن ذكره وطاعته فقال - تعالى - { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي … } .