Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 20, Ayat: 124-129)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وقوله { ضَنكاً } أى شديدة الضيق . وكل شىء ضاق فهو ضنك . وهو مصدر يستوى فيه المذكر والمؤنث ، والواحد والجمع يقال ضنك - ككرم - عيش فلان ضنكا وضناكة إذا ضاق . والمعنى أن من اتبع هداى الذى جاءت به رسلى فلن يضل ولن يشقى ، أما من أعرض عن { ذِكْرِي } أى عن هداى الذى جاءت به رسلى ، واشتملت عليه كتبى { فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً } . أى فإن لهذا المعرض معيشة ضيقة مليئة بالهم والغم والأحزان وسوء العاقبة ، حتى ولو ملك المال الوفير ، والحطام الكثير … فإن المعيشة الطيبة لا تكون إلا مع طاعة الله ، وامتثال أمره ، واجتناب نهيه … قال - تعالى - { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } قال الإمام ابن كثير قوله - تعالى - { فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً } أى فى الدنيا فلا طمأنينة له ، ولا انشراح لصدره ، بل صدره ضيق لضلاله ، وإن تنعم ظاهره ولبس ما شاء ، وأكل ما شاء ، وسكن حيث شاء ، فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى . فهو فى قلق وحيرة وشك ، فلا يزال فى ريبة يتردد فهذا من ضنك المعيشة … وقال سفيان بن عيينة ، عن أبى حازم ، عن أبى سلمة ، عن ابى سعيد فى قوله { مَعِيشَةً ضَنكاً } قال يضيق عليه قبره . حتى تختلف أضلاعه . والمراد بالعمى فى قوله - سبحانه - { وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ٱلْقِيامَةِ أَعْمَىٰ } عمى البصر ، بدليل قوله - تعالى - بعد ذلك { قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِيۤ أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً } . وقوله - سبحانه - فى آية أخرى { وَمَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً } وقيل المراد بالعمى هنا أنه لا حجة له يدافع بها عن نفسه ، وقيل المراد به العمى عن كل شىء سوى جهنم . والذى يبدو لنا أن الرأى الأول أقرب إلى الحق ، لأنه هو الظاهر من الآية الكريمة ، ولا قرينة تمنع من إرادة هذا الظاهر . ويجمع بين هذه الآية وما يشبهها وبين الآيات الأخرى التى تدل على أن الكفار يبصرون ويسمعون ويتكلمون يوم القيامة ، والتى منها قوله - تعالى - { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا … } أقول يجمع بين هذه الآية وما يشبهها ، وبين الآيات الأخرى بوجوه منها أن عماهم وصممهم فى أول حشرهم ، ثم يرد الله - تعالى - عليهم بعد ذلك أبصارهم وسمعهم ، فيرون النار ، ويسمعون ما يحزنهم . قال الجمل قوله { أَعْمَىٰ } حال من الهاء فى نحشره ، والمراد عمى البصر وذلك فى المحشر ، فإذا دخل النار زال عنه عماه ليرى محله وحاله ، فهو أعمى فى حال وبصير فى حال أخرى . ومنها تنزيل سمعهم وبصرهم وكلامهم منزلة العدم لعدم انتفاعهم بذلك فقد قال - تعالى - فى شأن المنافقين { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ } بتنزيل سماعهم وكلامهم وإبصارهم منزلة العدم ، حيث إنهم لم ينتفعوا بهذه الحواس . وقوله - سبحانه - { قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِيۤ أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً } استئناف مسوق لبيان ما يقوله ذلك المعرض عن طاعة الله يوم القيامة . أى قال ذلك الكافر الذى حشره الله - تعالى - يوم القيامة أعمى يا رب لماذا حشرتنى على هذه الحال مع أنى كنت فى الدنيا بصيرا ؟ . وهنا يأتيه الجواب الذى يخرسه ، والذى حكاه الله - تعالى - فى قوله { قَالَ كَذٰلِكَ } أى قال الله - تعالى - فى الرد عليه الأمر كذلك ، فإنك { أَتَتْكَ آيَاتُنَا } الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا { فَنَسِيتَهَا } أى فتركتها وأعرضت عنها { وَكَذٰلِكَ ٱلْيَوْمَ تُنْسَىٰ } أى كما تركت آياتنا فى الدنيا وأعرضت عنها ، نتركك اليوم فى النار وفى العمى جزاء وفاقا . ثم ساق - سبحانه - سنة من سننه التى لا تختلف فقال { وَكَذٰلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَىٰ } . أى ومثل ذلك الجزاء الأليم الذى أنزلناه بهؤلاء المعرضين عن ذكرنا نجازى كل من أسرف فى ارتكاب السيئات والموبقات ، وكل من لم يؤمن بآيات ربه بل كذب بها وأعرض عنها ، لعذاب الآخرة اشد من عذاب الدنيا ، و { وَأَبْقَىٰ } منه أى وأكثر بقاء ، وأطول زمانا من عذاب الدنيا . ثم وبخ - سبحانه - أولئك الذين لم ينتفعوا بآياته فقال { أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ ٱلْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ … } . والهمزة للاستفهام الإِنكارى التوبيخى ، والفاء للعطف على مقدر … والمعنى أبلغت الغفلة والجهالة بهؤلاء المشركين ، أنهم لم يتبين لهم ، أننا أهلكنا كثيرا من أهل القرون الماضية ، الذين كانوا يمشون آمنين لاهين فى مساكنهم … وكان إهلاكنا لهم بسبب إيثارهم الكفر على الإيمان ، والغى على الرشد ، والعمى على الهدى … فالآية الكريمة تقريع وتوبيخ لكفار مكة الذين لم يعتبروا بما أصاب أمثالهم من الأمم السابقة ، كقوم نوح وعاد وثمود … قال الآلوسى وقوله { يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ } حال من { ٱلْقُرُونِ } أو من مفعول { أَهْلَكْنَا } أى أهلكناهم وهم فى حال آمن وتقلب فى ديارهم . واختار بعضهم كونه حالا من الضمير فى { لَهُمْ } مؤكدا للإِنكار والعامل فيه { يَهْدِ } . أى أفلم يهد للمشركين حال كونهم ماشين فى مساكنهم من أهلكنا من القرون السالفة من أصحاب الحجر ، وثمود ، وقوم لوط ، مشاهدين لآثار هلاكهم إذا سافروا إلى بلاد الشام وغيرها … وقوله - سبحانه - { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي ٱلنُّهَىٰ } تذييل قصد به تعليل الإِنكار ، أى إن فى ذلك الذى أخبرناهم به ، وأطلعناهم عليه من إهلاك المكذبين السابقين ، { لآيَاتٍ } عظيمة ، وعبر كثيرة ، ودلائل واضحة لأصحاب العقول السليمة ، التى تنهى أصحابها عن القبائح والآثام . والنهى جمع نُهية - بضم النون وإسكان الهاء - سمى العقل بها لنهيه عن القبائح . ثم بين - سبحانه - بعض مظاهر فضله على هؤلاء المشركين الذين أرسل الرسول - صلى الله عليه وسلم - لإنقاذهم من الكفر والضلالة فقال - تعالى - { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى } . والمراد بالكلمة السابقة ، ما تفضل الله - تعالى - به من تأخير عذاب الاستئصال عن هذه الأمة التى بعث فيها الرسول - صلى الله عليه وسلم - تكريما له كما قال - تعالى - { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ … } أو لأن من نسلهم من يؤمن بالله حق الإِيمان ، أو لحكم أخرى يعلمها - سبحانه - ولزاما مصدر بمعنى اسم الفاعل ، وفعله لازم كقاتل . وقوله { وَأَجَلٌ مُّسَمًّى } معطوف على { كَلِمَةٌ } . والمعنى ولولا الوعد السابق منا بتأخير العذاب عن هؤلاء المشركين إلى يوم القيامة . ولولا الأجل المسمى المحدد فى علمنا لانتهاء أعمارهم ، لما تأخر عذابهم أصلا ، بل لكان العذاب لازما لهم فى الدنيا ، ونازلا بهم كما نزل بالسابقين من أمثالهم فى الكفر والضلال . ثم أمر الله - تعالى - رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالمداومة على الصبر ، وعلى الإِكثار من ذكره - تعالى - ونهاه عن التطلع إلى زينة الحياة الدنيا . فقال - تعالى - { فَٱصْبِرْ … } .