Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 20, Ayat: 17-35)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

الاستفهام فى قوله - تعالى - { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يٰمُوسَىٰ } للتقرير ، لأن الله - تعالى - عالم بما فى يمين موسى ، فالمقصود من هذا السؤال اعتراف موسى وإقراره بأن ما في يده إنما هى عصا فيزداد بعد ذلك يقينه بقدرة الله - تعالى - عندما يرى العصا التى بيمينه قد انقلبت حية تسعى . قال صاحب الكشاف إنما سأله - سبحانه - ليريه عظم ما يخترعه - عز وعلا - فى الخشبة اليابسة من قلبها حية نضاضة - أى تحرك لسانه فى فمها - ، وليقرر فى نفسه المباينة البعيدة بين المقلوب عنه ، والمقلوب إليه ، وينبهه على قدرته الباهرة . ونظيره أن يريك الزراد زبرة من حديد - أى قطعة من حديد - ويقول لك ما هى ؟ فتقول زبرة حديد . ثم يريك بعد أيام لبوسا مسردا فيقول لك هى تلك الزبرة صيرتها إلى ما ترى من عجيب الصنعة ، وأنيق السرد … والآية الكريمة شروع فى بيان ما كلف الله - تعالى - به عبده موسى - عليه السلام - من الأمور المتعلقة بالخلق ، إثر حكاية ما أمر - سبحانه - به موسى من إخلاص العبادة له ، والإيمان بالساعة وما فيها من حساب وثواب وعقاب . والمعنى وأى شىء بيدك اليمنى يا موسى ؟ فأجاب موسى بقوله - كما حكى القرآن عنه { قَالَ هِيَ عَصَايَ } أى الشىء الذى بيمينى هو عصاى … ونسبها إلى نفسه لزيادة التحقق والتثبت من أنها خاصة به وكائنة بيده اليمنى . ثم بين وظيفتها فقال { أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا } أى أعتمد عليها لتساعدنى فى حال السير { وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي } أى وأضرب بها الشجر اليابس ليسقط ، ورقة فترعاه أغنامى . يقال هش فلان الشجرة بالعصا - من باب رد - فهو يهشها هشا ، إذا ضربها بعصاه أو بما يشبهها ليتساقط ورقها . ومفعول أهش محذوف . أى وأهش بها الشجر والورق . { وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ } والمآرب جمع مأربة - بتثليث الراء - بمعنى حاجة . تقول لا أرَب لى في هذا الشىء ، أى لا حاجة لى فيه . أى ولى فى هذه العصا حاجات أخرى ، ومنافع غير التى ذكرتها . وقد كان يكفى موسى - عليه السلام - فى الجواب أن يقول هى عصاى ، ولكنه أضاف إلى ذلك أتوكأ عليها وأهش بها على غنمى … لأن المقام يستدعى البسط والإطالة فى الكلام ، إذ هو مقام حديث العبد مع خالقه ، والحبيب مع حبيبه . وأجمل فى قوله { وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ } إما حياء من الله - تعالى - لطول الكلام فى الجواب ، وإما رجاء أن يسأل عن هذه المآرب المجملة ، فيجيب عنها بالتفصيل تلذذا فى الخطاب . قال القرطبى وفى هذه الآية دليل على جواب السؤال بأكثر مما سئل ، لأنه لما قال { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يٰمُوسَىٰ } ذكر معانى أربعة وهى إضافة العصا إليه ، وكان حقه أن يقول عصا ، والتوكؤ ، والهش ، والمآرب المطلقة . فذكر موسى من منافع عصاه معظمها . وفى الحديث سئل النبى - صلى الله عليه وسلم - عن ماء البحر فقال " هو الطهور ماؤه الحل ميتته " وسألته امرأة عن الصغير حين رفعته إليه فقالت " ألهذا حج ؟ قال " نعم ولك أجر " . وقال الإمام ابن كثير عند تفسيره لقوله { وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ } وقد تكلف بعضهم لذكر شىء من تلك المآرب التى أبهمت ، فقيل كانت تضىء له بالليل ، وتحرس له الغنم إذا نام ، ويغرسها فتصير شجرة تظلله ، وغير ذلك من الأمور الخارقة للعادة . والظاهر أنها لم تكن كذلك ، ولو كانت كذلك لما استنكر موسى صيرورتها ثعبانا ، ولما فر منها هاربا ، ولكن كل ذلك من الأخبار الإسرائيلية . وقوله - سبحانه - { قَالَ أَلْقِهَا يٰمُوسَىٰ } جملة مستأنفة جواب عن سؤال مقدر ، كأنه قيل فماذا قال الله - تعالى - لموسى بعد ذلك ؟ . فكان الجواب قال - سبحانه - لموسى اطرح يا موسى هذه العصا التى بيمينك لترى ما يكون بعد ذلك . { فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَىٰ } . أى فامتثل موسى أمر ربه ، فألقاها على الأرض ، ونظر إليها فإذا هى قد تحولت بقدرة الله - تعالى - إلى " حية " - أى ثعبان عظيم - " تسعى " ، أى تمشى على الأرض بسرعة وخفة حركة ووصفها - سبحانه - هنا بأنها { حَيَّةٌ تَسْعَىٰ } ، ووصفها فى سورة الشعراء بأنها { ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ } ووصفها فى سورة النمل بأنها { تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ } ولا تنافى بين هذه الأوصاف ، لأن الحية اسم جنس يطلق على الصغير والكبير ، والذكر والأنثى ، والثعبان هو العظيم منها ، والجان هو الحية الصغيرة الجسم ، السريعة الحركة . وقد صرحت بعض الآيات أن موسى - عليه السلام - عندما رأى عصاه قد تحولت إلى ذلك ، ولى مدبرا ولم يعقب . قال - تعالى { وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ وَلَّىٰ مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ … } ولكن الله - تعالى - ثبت فؤاده ، وطمأن نفسه { قَالَ خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ } أى خذ هذه الحية التى تحولت عصاك إليها ولا تخف منها ، كما هو شأن فى الطبائع البشرية ، فإنا { سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا ٱلأُولَىٰ } أى سنعيد هذه الحية إلى هيئتها الأولى التى كانت عليها قبل أن تصير حية تسعى ، وهى أن نعيدها بقدرتنا التى لا يعجزها شىء إلى عصا كما كانت من قبل . فالجملة الكريمة مسوقة لتعليل وجوب الامتثال للأمر وعدم الخوف ، أى خذها ولا تخف منها ، فإن هذه الحية سنرجعها عصا كما كانت من قبل . وقوله - تعالى - { سِيَرتَهَا } فِعلة من السَّير ، وهى الحالة والهيئة التى يكون عليها الإنسان ، وهو منصوب بنزع الخافض . أى سنعيدها إلى هيئتها وحالتها الأولى . قالوا ومن الحكم التى من أجلها حول الله - تعالى - العصا إلى حية تسعى توطين قلب موسى - عليه السلام - على ذلك ، حتى لا يضطرب إذا ما تحولت إلى ثعبان عظيم عندما يلقيها أمام فرعون وقومه . فقد جرت عادة الإنسان أن يقل اضطرابه من الشىء العجيب الغريب بعد رؤيته له لأول مرة . ثم وجه - سبحانه - أمرا آخر إلى عبده موسى فقال { وَٱضْمُمْ يَدَكَ إِلَىٰ جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوۤءٍ آيَةً أُخْرَىٰ } . والضم الجمع . يقال ضم فلان أصابعه إذا جمعها . والجناح ، يطلق على العضد وعلى الجنب ، وعلى الإبط . واصله جناح الطائر وسمى بذلك لأنه يجنحه ، أى يميله عند الطيران ، ثم توسع فيه فأطلق على العضد وغيره . والمراد باليد هنا كف يده اليمنى . والسوء الردىء والقبيح من كل شىء ، وكنى به هنا عن البرص لشدة قبحه . والمعنى واضمم - يا موسى - يدك اليمنى إلى عضد يدك اليسرى بأن تجعلها تحته عند الإبط . ثم أخرجها فإنها تخرج { بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوۤءٍ } أى تخرج منيرة مشرقة واضحة البياض دون أن يعلق بها أى سوء من برص أو مرض أو غيرهما ، وإنما يكون بياضها بياضا مشرقا بقدرة الله - تعالى وإرادته . قال الحسن البصرى أخرجها - والله - كأنها مصباح ، فعلم موسى أنه قد لقى ربه - تعالى - . وقوله { تَخْرُجْ بَيْضَآءَ … } جواب الأمر وهو قوله { وَٱضْمُمْ يَدَكَ } . وقوله { مِنْ غَيْرِ سُوۤءٍ } احتراس لدفع توهم أن يكون بياضها بسبب مرض أو أذى ، وهو متعلق بتخرج . وقوله { آيَةً أُخْرَىٰ } أى معجزة أخرى غير معجزة العصا التى سبق أن منحناها لك . كما قال - تعالى - { وَٱضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ ٱلرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ } . وقوله { لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا ٱلْكُبْرَىٰ } ، تعليل لمحذوف ، أى فعلنا ما فعلنا من إعطائك معجزة العصا ومعجزة اليد ، لنريك بهاتين المعجزتين بعض معجزاتنا الكبرى ، الدالة على عظيم قدرتنا ، وانفرادنا بالربوبية والأولهية . ثم صرح - سبحانه - بالمقصود من إعطاء موسى هاتين المعجزتين العظيمتين فقال { ٱذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ } أى اذهب يا موسى ومعك هاتان المعجزتان ، فادعه إلى عبادتى وحدى ، ومره فليحسن إلى بنى إسرائيل ولا يعذبهم ، وانهه عن التجبر والظلم ، فإنه قد طغى وبغى وتجاوز حدود الحق والعدل ، وزعم الناس أنه ربهم الأعلى . وهنا التمس موسى - عليه السلام - العون من خالقه ، لكى يتسنى له أداء ما كلفه به فقال { رَبِّ ٱشْرَحْ لِي صَدْرِي } أى أسألك يا إلهى أن توسع صدرى بنور الإيمان والنبوة ، وأن تجعله يتقبل تكاليفك بسرور وارتياح . { وَيَسِّرْ لِيۤ أَمْرِي } أى وسهل لى ما أمرتنى به ، فإنك إن لم تحطنى بهذا التيسير ، فلا طاقة لى بحمل أعباء هذه الرسالة . قال صاحب الكشاف " لما امره بالذهاب إلى فرعون الطاغى - لعنه الله - عرف أنه كلف أمرا عظيما ، وخطبا جسيما يحتاج معه إلى احتمال مالا يحتمله إلا ذو جأش رابط ، وصدر فسيح ، فاستوهب ربه أن يشرح صدره ، ويفسح قلبه ، ويجعله حليما حمولا يستقبل ما عسى يرد عليه من الشدائد التى يذهب معها صبر الصابر … وأن يسهل عليه فى الجملة أمره الذى هو خلافة الله فى أرضه ، وما يصحبها من مزاولة معاظم الشئون ، ومقاساة جلائل الخطوب … وقوله { وَٱحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي يَفْقَهُواْ قَوْلِي } دعاء ثالث تضرع به إلى خالقه - تعالى - أى وأسألك يا رب أن تحل عقدة من لسانى حتى يفهم الناس قولى لهم ، وحديثى معهم ، فهما يتأتى منه المقصود ، فمن للتبعيض ، أى واحلل عقده كائنة من عقده . وقد روى أنه كان بلسانه حبسة ، والأرجح أن هذا هو الذى عناه ، ويؤيده قوله - تعالى - فى آية أخرى { وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّيۤ أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ } قال ابن كثير " ذلك لما كان أصابه من اللثغ ، حين عرض عليه - فرعون - التمرة والجمرة ، فأخذ الجمرة فوضعها على لسانه … وما سأل أن يزول ذلك بالكلية ، بل حيث يزول العى ، ويحصل لهم فَهْم ما يريد منه وهو قدر الحاجة ولو سأل الجميع لزال ، ولكن الأنبياء لا يسألون إلا بقدر الحاجة ، ولهذا بقيت بقية . قال الحسن البصرى سأل موسى ربه أن يحل عقدة واحدة من لسانه ، ولو سأل أكثر من ذلك لأعطى . وقوله - سبحانه - { وَٱجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي ٱشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِيۤ أَمْرِي } دعاء آخر تضرع به إلى ربه فى أمر خارجى عنه ، بعد أن دعاه فى أمر يتعلق بصدره ولسانه . وقوله { وَزِيراً } من الموازرة وهى المعاونة . يقال وازرت فلانا موازرة ، إذا أعنته على أمره ، أو من الوزر - بفتح الواو والزاى - وهو الملجأ الذى يعتصم به الإنسان لينجو من الهلاك . أى وأسألك - يا إلهى - أن تجعل لى " وزيرا " أى معينا وظهيرا من أهلى فى إبلاغ رسالتك ، وهذا الوزير المعين هو أخى هارون ، الذى أسألك أن تقوى به ظهرى ، وأن تجعله شريكا لى فى تبليغ رسالتك ، حتى نؤديها على الوجه الأكمل ، وكأن موسى - عليه السلام - قد علم من نفسه حدة الطبع ، وسرعة الانفعال ، فالتجأ إلى ربه لكى يعينه بأخيه هارون ، ليقويه ويتشاور معه فى الأمر الجليل الذى هو مقدم عليه ، وهو تبليغ رسالة الله إلى فرعون الذى طغى وبغى وقال لقومه أنا ربكم الأعلى . قال ابن عباس نبىء هارون ساعتئذ حين بنىء موسى . وقوله { كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً } تعليل للدعوات الصالحات التى تضرع بها موسى إلى ربه - تعالى - . أى أجب - يا إلهى - دعائى بأن تشرح صدرى … وتشد بأخى هارون أزرى ، كى نسبحك تسبيحا كثيرا ، ونذكرك ذكرا كثيرا ، إنك - سبحانك - كنت وما زلت بنا بصيرا ، لا يخفى عليك شىء من أمرنا أو من أمر خلقك ، فأنت المطلع على حالنا وعلى ضعفنا ، وأنت العليم بحاجتنا إليك وإلى عونك ورعايتك . بهذه الدعوات الخاشعات ابتهل موسى إلى ربه ، وأطال الابتهال فى بسط حاجته ، وكشف ضعفه … فماذا كانت النتيجة ؟ لقد كانت النتيجة أن أجاب الله له دعاءه ، وحقق له مطالبه ، وذكره ببعض مننه عليه فقال - تعالى - { قَالَ قَدْ أُوتِيتَ … } .