Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 20, Ayat: 9-16)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قال ابن كثير - رحمه الله - " من ها هنا شرع - تبارك وتعالى - فى ذكر قصة موسى ، وكيف كان ابتداء الوحى إليه وتكليمه إياه ، وذلك بعد ما قضى موسى الأجل الذى كان بينه وبين صهره فى رعاية الغنم وسار بأهله ، قاصدا بلاد مصر بعد ما طالت الغيبة عنها أكثر من عشر سنين ، ومعه زوجته فاضل الطريق ، وكانت ليلة شاتية ، ونزل منزلا بين شعاب وجبال ، فى برد وشتاء ، وسحاب وظلال وضباب ، وجعل يقدح بزند معه ليُورِى نارا ، كما جرت العادة به ، فجعل لا يقدح شيئا ، ولا يخرج منه شرر ولا شىء ، فبينما هو كذلك ، إذ آنس من جانب الطور نارا . أى ظهرت له نار من جانب الجبل الذى هناك عن يمينه ، فقال لأهله يبشرهم { … ٱمْكُثُوۤاْ إِنِّيۤ آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّيۤ آتِيكُمْ مِّنْهَا بِقَبَسٍ } أى شهاب من نار … والاستفهام فى قوله - سبحانه - { وَهَلْ أَتَاكَ … } لتقرير الخبر وتثبيته ، وهذا أبلغ عن مجيئه بصورة الخبر المجرد . لأن فى الاستفهام التقريرى تطلع واشتياق لمعرفة الخبر . والجملة الكريمة مستأنفة لتأكيد ما سبق الحديث عنه من وحدانية الله - تعالى - ولتسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - عما اصابه من قومه . ببيان جانب من جهاد أخيه موسى - عليه السلام - . والمعنى لقد أتاك - أيها الرسول الكريم - خبر أخيك موسى ، وقت أن رآى نارا وهو عائد ليلا من مدين إلى مصر { فَقَالَ لأَهْلِهِ } أى لامرأته ومن معها { ٱمْكُثُوۤاْ } أى أقيموا فى مكانكم ولا تبرحوه حتى أعود إليكم . وجملة { إِنِّيۤ آنَسْتُ نَاراً } تعليل الأمر بالمكوث ، وآنست من الإيناس بمعنى الإبصار الواضح الجلى . أى إنى أبصرت إبصارا بينا لا شبهة فيه نارا على مقربة منى ، فامكثوا فى أماكنكم { لَّعَلِّيۤ آتِيكُمْ مِّنْهَا بِقَبَسٍ } . والقبس الشعلة التى تؤخذ من النار فى طرف عود أو نحوه . ووزنه فعل - بفتح العين - بمعنى مفعول أى لعلى آتيكم من هذه النار بشعلة مقتبسة منها ، ومأخوذة عنها . وقوله { أَوْ أَجِدُ عَلَى ٱلنَّارِ هُدًى } معطوف على ما قبله . أى امكثوا فى مكانكم حتى أذهب إلى النار التى شاهدتها ، لعلى آتيكم منها بشعلة ، أو أجد عندها هاديا يهدينى إلى الطريق الذى أسلكه لكى أصل إلى المكان الذى أريده . فقوله { هُدًى } مصدر بمعنى اسم الفاعل أى هاديا . وقد دلت آية أخرى على أن موسى قد ذهب إلى النار ليأتى منها بما يدفىء أهله من البرد . وهذه الآية هى قوله - تعالى - { فَلَمَّا قَضَىٰ مُوسَى ٱلأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ ٱلطُّورِ نَاراً قَالَ لأَهْلِهِ ٱمْكُثُوۤاْ إِنِّيۤ آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّيۤ آتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ ٱلنَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ } ثم بين - سبحانه - ما حدث لموسى بعد أن اقترب من النار فقال { فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ يٰمُوسَىٰ إِنِّيۤ أَنَاْ رَبُّكَ فَٱخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِٱلْوَادِ ٱلْمُقَدَّسِ طُوًى } . أى فلما أتى موسى - عليه السلام - إلى النار ، واقترب منها … { نُودِيَ } من قبل الله - عز وجل - { يٰمُوسَىٰ إِنِّيۤ أَنَاْ رَبُّكَ } الذى خلقك فسواك فعدلك … { فَٱخْلَعْ نَعْلَيْكَ } تعظيما لأمرنا . وتأدبا فى حضرتنا . وقوله { إِنَّكَ بِٱلْوَادِ ٱلْمُقَدَّسِ طُوًى } تعليل للأمر بخلع النعل ، أى أزل نعليك من رجليك لأنك الآن موجود بالوادى { ٱلْمُقَدَّسِ } أى المظهر المبارك ، المسمى طوى فهو عطف بيان من الوادى . { وَأَنَا ٱخْتَرْتُكَ } أى اصطفيتك من بين أفراد قومك لحمل رسالتى ، وتبليغ دعوتى { فَٱسْتَمِعْ لِمَا يُوحَىۤ } إليك منى ، ونفذ ما آمرك به . { إِنَّنِيۤ أَنَا ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاۤ أَنَاْ } مستحق للعبادة والطاعة والخضوع { فَٱعْبُدْنِي } عبادة خالصة لوجهى . { وَأَقِمِ ٱلصَّلاَةَ } التى هى من أشرف العبادات ، وأفضل الطاعات { لِذِكْرِيۤ } أى وأدم إقامة الصلاة بخشوع وإخلاص ، ليشتد تذكرك لى ، واتصالك بى ، وذلك لأن الصلاة مشتملة على الكثير من الأذكار التى فيها الثناء على ذاتى وصفاتى . أو المعنى وأدم الصلاة لذكرى خاصة ، بحيث تكون خالصة لوجهى ، ولا رياء فيها لأحد . قال الآلوسى ما ملخصه قوله { لِذِكْرِيۤ } الظاهر أنه متعلق بأقم ، أى أقم الصلاة لذكرى فيها لاشتمالها على الأذكار . وقيل المراد أقم الصلاة لذكرى خاصة لا ترائى بها ولا تشوبها بذكر غيرى … أو لكى أذكرك بالثناء وأثيبك بها . أو لذكرى إياها فى الكتب السماوية وأمرى بها . أو لأوقات ذكرى وهى مواقيت الصلاة . فاللام وقتية بمعنى عند مثلها فى قوله - تعالى - { يٰلَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي } ومن الناس من حمل الذكر على ذكر الصلاة بعد نسيانها . والمراد أقم الصلاة عند تذكرها … ففى الحديث الصحيح " من نام عن صلاة أو نسيها . فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها ، لا كفارة لها إلا ذلك … " . وخص - سبحانه - الصلاة بالذكر مع أنها داخلة فى العبادة المأمور بها فى قوله { فَٱعْبُدْنِي } على سبيل التشريف والتكريم ، إذ الصلاة أكمل وسيلة توصل الإنسان إلى مداومة ذكر الله - تعالى - وخشيته ، لاشتمالها على ألوان متعددة من صور العبادة والطاعة ، إذ فيها قراءة للقرآن الكريم ، وفيها الصلاة على النبى - صلى الله عليه وسلم - وفيها تسبيح الله وتمجيده . ثم بين - سبحانه - أن الساعة آتية لا ريب فيها فقال { إِنَّ ٱلسَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَىٰ فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَىٰ } . أى إن الساعة التى هى وقت البعث والحساب والثواب والعقاب ، آتية أى كائنة وحاصلة لا شك فيها . وقوله { أَكَادُ أُخْفِيهَا } أى أقرب أن أخفى وقتها ولا أظهره لا إجمالا ولا تفصيلا ، ولولا أن فى إطلاع أصفيائى على بعض علاماتها فائدة ، لما تحدثت عنها . قالوا " والحكمة فى إخفاء الساعة وإخفاء وقت الموت ، أن الله - تعالى - وعد بعدم قبول التوبة عند قربهما ، فلو عرف وقت الموت لاشتغل بالمعصية إلى قرب ذلك الوقت ثم يتوب ، فيتخلص من عقاب المعصية فتعريف الموت كالإغراء بفعل المعصية ، وهو لا يجوز . قال الآلوسى ما ملخصه وقوله { أَكَادُ أُخْفِيهَا } أقرب أن أخفى الساعة ولا أظهرها ، بأن أقول إنها آتية … أو أريد إخفاء وقتها المعين وعدم إظهاره … فكاد بمعنى أراد ، وإلى هذا ذهب الأخفش وغيره … وروى عن ابن عباس أن المعنى أكاد أخفيها من نفسى ، فكيف أظهركم عليها … وهذا محمول على ما جرت به عادة العرب من أن أحدهم إذا أراد المبالغة فى كتمان الشىء قال كدت أخفيه عن نفسى . وقال أبو على المعنى أكاد أظهرها بأن أوقعها ، وهذا بناء على أن أخفيها من ألفاظ السلب بمعنى أزيل خفاءها … ويبدو لنا أن الإخفاء هنا على حقيقته ، وأن المقصود من الآية الكريمة إخفاء وقت مجىء الساعة عن الناس ، حتى يكونوا على استعداد لمجيئها عن طريق العمل الصالح الذى ينفعهم يوم القيامة . فحكمة الله - تعالى - اقتضت إخفاء وقت الساعة ، وعدم إطلاع أحد عليها إلا بالمقدار الذى يأذن الله - تعالى - به لرسله . قال الإمام ابن جرير ما ملخصه " والذى هو أولى بتأويل الآية من القول قول من قال معناه أكاد أخفيها من نفسى … لأن المعروف من معنى الإخفاء فى كلام العرب التسر . يقال قد أخفيت الشىء إذا سترته … وإنما اخترنا هذا القول على غيره لموافقته أقوال أهل العلم من الصحابة والتابعين … وقوله { لِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَىٰ } متعلق بآتية ، وجملة { أَكَادُ أُخْفِيهَا } معترضة بينهما . أى إن الساعة آتية لا ريب فيها ، لكى تجزى كل نفس على حسب سعيها وعملها فى الدنيا . قال - تعالى - { وَمَنْ أَرَادَ ٱلآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً } وقال - سبحانه - { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } ثم حذر - سبحانه - من عدم الاستعداد للساعة . ومن الشك فى إتيانها فقال { فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا } أى فلا يصرفنك عن الإيمان بها ، وعن العمل الصالح الذى ينفعك عند مجيئها { مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا } من الكافرين والفاسقين { وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ } فى إنكارها وفى تكذيب ما يكون فيها من ثواب أو عقاب { فَتَرْدَىٰ } أى فتهلك ، إن أنت أطعت هذا الذى لا يؤمن بها . يقال ردى فلان - كرضى - إذا هلك ، وأرداه غيره إذا أهلكه . فالآية الكريمة تحذير شديد من اتباع المنكرين لقيام الساعة والمعرضين عن الاستعداد لها ، بعد أن أكد - سبحانه - فى آيات كثيرة أن الساعة آية لا ريب فيها . قال - تعالى - { ذٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ وَأَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ ٱللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي ٱلْقُبُورِ } وبذلك نرى هذه الآيات الكريمة قد أثبتت وحدانية الله - تعالى - كما فى قوله { إِنَّنِيۤ أَنَا ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاۤ أَنَاْ } كما أثبتت وجوب التوجه إليه وحده بالعبادة كما فى قوله - سبحانه - { فَٱعْبُدْنِي وَأَقِمِ ٱلصَّلاَةَ لِذِكْرِيۤ } . كما أثبتت أن يوم القيامة لا شك فى إتيانه فى الوقت الذى يريده الله - تعالى - . كما قال - عز وجل - { إِنَّ ٱلسَّاعَةَ آتِيَةٌ … } . ثم بين - سبحانه - بعض التوجيهات والأوامر التى وجهها - عز وجل - إلى نبيه موسى - عليه السلام - كما حكى ما التمسه موسى من خالقه - تعالى - فقال { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ … } .