Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 21, Ayat: 104-112)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وقوله - سبحانه - { يَوْمَ نَطْوِي ٱلسَّمَآءَ كَطَيِّ ٱلسِّجِلِّ لِلْكُتُبِ … } الظرف فيه منصوب بقوله - تعالى - قبل ذلك { لاَ يَحْزُنُهُمُ ٱلْفَزَعُ ٱلأَكْبَرُ } أو بقوله - سبحانه - { وَتَتَلَقَّاهُمُ ٱلْمَلاَئِكَةُ } وقوله { نَطْوِي } من الطى وهو ضد النشر . والسجل الصحيفة التى يكتب فيها . والمراد بالكتب ما كتب فيها من الألفاظ والمعانى ، فالكتب بمعنى المكتوبات . واللام بمعنى على . والمعنى إن الملائكة تتلقى هؤلاء الأخيار الذين سبقت لهم من الله - تعالى - الحسنى بالفرح والسرور ، يوم يطوى - سبحانه - السماء طيا مثل طى الصحيفة على ما فيها من كتابات . وفى هذا التشبيه إشعار بأن هذا الطى بالنسبة لقدرته - تعالى - فى منتهى السهولة واليسر ، حيث شبه طيه السماء بطى الصحيفة على ما فيها . وقيل إن لفظ { ٱلسِّجِلِّ } اسم لملك من الملائكة ، وهو الذى يطوى كتب أعمال الناس بعد موتهم . والإِضافة فى قوله { كَطَيِّ ٱلسِّجِلِّ } من إضافة المصدر إلى مفعوله ، والجار والمجرور صفة لمصدر مقدر . أى نطوى السماء طيا كطى الرجل أو الملك الصحيفة على ما كتب فيها . وقرأ أكثر القراء السبعة للكتاب بالإِفراد . ومعنى القراءتين واحد لأن المراد به الجنس فيشمل كل الكتب . وقوله - تعالى - { كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ } بيان لصحة الإِعادة قياسا على البدء ، إذ الكل داخل تحت قدرته - عز وجل - . أى نعيد أول خلق إعادة مثل بدئنا إياه ، دون أن ينالنا تعب أو يمسنا لغوب ، لأن قدرتنا لا يعجزها شىء قال - تعالى - { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ … } قال صاحب الكشاف " وما أول الخلق حتى يعيده كما بدأه ؟ قلت أوله إيجاده من العدم ، فكما أوجده أولا عن عدم . يعيده ثانيا عن عدم " . وقوله - تالى - { وَعْداً عَلَيْنَآ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ } تأكيد للإِعادة . ولفظ " وعدا " منصوب بفعل محذوف . و " علينا " فى موضع الصفة له . أى هذه الإِعادة وعدنا بها وعدا كائنا علينا باختيارنا وإرادتنا ، إنا كنا محققين هذا الوعد ، وقادرين عليه ، والعاقل من يقدم فى دنياه العمل الصالح الذى ينفعه عند بعثه للحساب . ثم ساق - سبحانه - سنة من سننه التى لا تتخلف فقال { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي ٱلزَّبُورِ مِن بَعْدِ ٱلذِّكْرِ أَنَّ ٱلأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ ٱلصَّالِحُونَ } . والمراد بالزبور الكتاب المزبور أى المكتوب ، مأخوذ من قولهم زبرت الكتاب إذا كتبته . ويشمل هنا جميع الكتب السماوية كالتوراة والإِنجيل والزبور . والمراد بالذكر اللوح المحفوظ الذى هو أم الكتاب . وقيل المراد بالزبور كتاب داود خاصة . وبالذكر التوارة ، أو العلم ، والمقصود بالأرض هنا أرض الجنة . فيكون المعنى ولقد كتبنا فى الكتب السماوية ، من بعد كتابتنا فى اللوح المحفوظ أن أرض الجنة نورثها يوم القيامة لعبادنا الصالحين . وهذا القول يؤيده قوله - تعالى - فى شأن المؤمنين { وَقَـالُواْ ٱلْحَـمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا ٱلأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ ٱلْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَآءُ فَنِعْمَ أَجْرُ ٱلْعَامِلِينَ } ومن المفسرين من يرى أن المراد بالأرض هنا أرض الدنيا فيكون المعنى ولقد كتبنا فى الزبور من بعد الذكر أن هذه الأرض التى يعيش عليها الناس مؤمنهم وكافرهم ، ستكون فى النهاية لعبادنا الصالحين . قال الآلوسى ما ملخصه أخرج ابن جرير عن ابن عباس أن المراد بالأرض فى الآية أرض الجنة ، وإنها الأرض التى يختص بها الصالحون . لأنها لهم خلقت ، وغيرهم إذا حصلوا فيها فعلى وجه التبع ، وأن الآية ذكرت عقب ذكر الإِعادة وليس بعدها أرض يستقر عليها الصالحون . ويمتن الله بها عليهم سوى أرض الجنة . وفى رواية أخرى عن ابن عباس أن المراد بها أرض الدنيا يرثها المؤمنون ، ويستولون عليها . أخرج مسلم وأبو داود والترمذى عن ثوبان قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أن الله - تعالى - زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها ، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها … " . ويبدو لنا أنه لا مانع من أن يكون المراد بالأرض التى يرثها العباد الصالحون ، ما يشمل أرض الجنة وأرض الدنيا ، لأنه لم يرد نص يخصص أحد المعنيين . وقد سار على هذا التعميم الإِمام ابن كثير فقال عند تفسيره لهذه الآية " يقول الله - تعالى - مخبرا عما قضاه لعباده الصالحين ، من السعادة فى الدنيا والآخرة ووراثة الأرض فى الدنيا والآخرة كقوله - تعالى - { إِنَّ ٱلأَرْضَ للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَٱلْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } وقال - سبحانه - { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ ٱلأَشْهَادُ } وأخبر - تعالى - أن هذا مكتوب مسطور فى الكتب الشرعية ، فهو كائن لا محالة ، ولهذا قال { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي ٱلزَّبُورِ مِن بَعْدِ ٱلذِّكْرِ أَنَّ ٱلأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ ٱلصَّالِحُونَ … } . واسم الإِشارة فى قوله - تعالى - { إِنَّ فِي هَـٰذَا لَبَلاَغاً لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ } يعود على القرآن الكريم الذى منه هذه السورة . والبلاغ الشىء الذى يكفى الإِنسان للوصول إلى غايته . يقال فى هذا الشىء بلاغ أى كفاية أو سبب لبلوغ المقصد . أى إن فى هذا القرآن ، وفيما ذكر فى هذه السورة من آداب وهدايات ، وعقائد وتشريعات ، لبلاغا وكفاية فى الوصول إلى الحق ، لقوم عابدين . وخص العابدين بالذكر ، لأنهم هم المنتفعون بتوجيهات القرآن الكريم ، إذ العابد لله - تعالى - بإخلاص ، يكون خاشع القلب ، نقى النفس ، مستعدا للتلقى والتدبر والانتفاع . ثم بين - سبحانه - أن من مظاهر فضله على الناس أن أرسل إليهم نبيه - صلى الله عليه وسلم - ليكون رحمة لهم فقال { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } . أى وما أرسلناك - أيها الرسول الكريم - بهذا الدين الحنيف وهو دين الإِسلام ، إلا من أجل أن تكون رحمة للعالمين من الإِنس والجن . وذلك لأننا قد أرسلناك بما يسعدهم فى دينهم وفى دنياهم وفى آخرتهم متى اتبعوك ، واستجابوا لما جئتهم به ، وأطاعوك فيما تأمرهم به أو تنهاهم عنه . وفى الحديث الشريف " إنما أنا رحمة مهداة " فرسالته - صلى الله عليه وسلم - رحمة فى ذاتها ، ولكن هذه الرحمة انتفع بها من استجاب لدعوتها ، أما من أعرض عنها فهو الذى ضيع على نفسه فرصة الانتفاع . ورحم الله صاحب الكشاف فقد وضح هذا المعنى فقال أرسل - صلى الله عليه وسلم - " رحمة للعالمين " لأنه جاء بما يسعدهم إن اتبعوه ، ومن خالف ولم يتبع ، فإنما أتى من عند نفسه ، حيث ضيع نصيبه منها . ومثاله أن يفجر الله عينا عذيقة - أى كبيرة عذبه - ، فيسقى ناس زرعهم ، ومواشيهم بمائها فيفلحوا ، ويبقى ناس مفرطون فيضيعوا . فالعين المفجرة فى نفسها نعمة من الله - تعالى - ورحمة للفريقين . ولكن الكسلان محنة على نفسه ، حيث حرمها ما ينفعها " . ثم أمر الله - تعالى - نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يخبر الناس بأن رسالته لحمتها وسداها الدعوة إلى عبادة الله - تعالى - وحده فقال { قُلْ إِنَّمَآ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ … } . أى قل - يا محمد - للناس إن الذى أوحاه الله - تعالى - إلىّ من تكاليف وهدايات وعبادات وتشريعات … تدور كلها حول إثبات وحدانيته - سبحانه - ووجوب إخلاص العبادة له وحده . قال الآلوسى - رحمه الله - " ذهب جماعة إلى أن فى الآية حصرين الأولى لقصر الصفة على الموصوف . والثانى لقصر الموصوف على الصفة . فالأول قصر فيه الوحى على الوحدانية . والثانى قصر فيه الله - تالى - على الوحدانية ، والمعنى ما يوحى إلىّ إلا اختصاص الله بالوحدانية ، ومعنى هذا القصر أنه الأصل الأصيل وما عداه راجع إليه ، أو غير منظور إليه فى جانبه … " . والاستفهام فى قوله - سبحانه - { فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ } للتحضيض أى ما دام الأمر كما ذكر لكم فأسلموا لتسلموا . ثم أرشد - سبحانه - النبى - صلى الله عليه وسلم - إلى ما يقوله للناس فى حال إعراضهم عن دعوته ، فقال { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَىٰ سَوَآءٍ … } . وآذنتكم من الإِيذان بمعنى الإِعلام والإِخبار . ومنه الأذان للصلاة بمعنى الإِعلام بدخول وقتها . قال بعضهم آذن منقول من أذن إذا علم ، ولكنه كثر استعماله فى إجرائه مجرى الإِنذار والتحذير . أى فإن أعرضوا عن دعوتك - أيها الرسول الكريم - فقل لهم لقد أعلمتكم وأخبرتكم بما أمرنى ربى أن أعلمكم وأخبركم به ، ولم أخص أحدا منكم بهذا الإِعلام دون غيره ، وإنما أخبرتكم جميعا " على سواء " أى حال كونكم جميعا مستوين فى العلم . فقوله { عَلَىٰ سَوَآءٍ } فى موضع الحال من المفعول الأول لآذنتكم . أى فقد أعلمتكم ما أمرنى ربى به حالة كونهم مستوين فى هذا العلم . ويجوز أن يكون الجار والمجرور فى موضع الصفة لمصدر مقدر . أى فقد آذنتكم إيذانا على سواء . وقوله - تعالى - { وَإِنْ أَدْرِيۤ أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ } إرشاد منه - سبحانه - لنبيه - صلى الله عليه وسلم - إلى ما يقوله لهم - أيضا - فى حال إعراضهم عن دعوته . و " إن " نافية . أى فإن أعرضوا عن دعوتك يا محمد ، فقل لهم لقد أعلمتكم جميعا بما أمرنى الله بتبليغه إليكم ، وإنى بعد هذا التبليغ والتحذير ما أدرى وما أعرف ، أقريب أم بعيد ما توعدون به من العذاب ، أو من غلبة المسلمين عليكم ، أو من قيام الساعة . فإن علم ذلك وغيره إلى الله - تعالى - وحده ، وما أنا إلا مبلغ عنه . وقوله تعالى { إِنَّهُ يَعْلَمُ ٱلْجَهْرَ مِنَ ٱلْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ } . فهو - سبحانه - الذى يعلم ما تجهرون به وما تسرونه من أقوال وأعمال . ويعلم - أيضا - ما تكتمونه فى نفوسكم من كفر وجحود وكراهية لى ولأتباعى ، وسيعاقبكم - سبحانه - على ذلك العقاب الذى تستحقونه . وقوله - سبحانه - { وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ } زيادة فى تأكيد أن علم ما سينزل بهم من عقاب مرده إلى الله - تعالى - وحده . أى وإنى - أيضا - ما أدرى ، لعل تأخير عقابكم - بعد أن أعرضتم عن دعوتى - من باب الامتحان والاختبار لكم ، أو من باب الاستدراج لكم إلى حين مقدر عنده - سبحانه - ، ثم يأخذكم بعد ذلك أخذ عزيز مقتدر . وفى إسناد علم ما سينزل بهم إلى الله - تعالى - وحده ، تخويف لهم أى تخويف ، وأدب ليس بعده أدب من النبى - صلى الله عليه وسلم - مع الله - عز وجل - . ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بقوله { قَالَ رَبِّ ٱحْكُم بِٱلْحَقِّ وَرَبُّنَا ٱلرَّحْمَـٰنُ ٱلْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ } أى قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد أن بلغ الرسالة وأدى الأمانة وهو يتضرع إلى ربه رب احكم بينى وبين هؤلاء الذين آذنتهم على سواء بالحق { وَرَبُّنَا ٱلرَّحْمَـٰنُ } أى الكثير الرحمة على عباده { ٱلْمُسْتَعَانُ } أى المطلوب منه العون { عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ } أى على ما تصفونه بألسنتكم من أنواع الكذب والزور والبهتان . وقرأ أكثر القراء السبعة { قُلْ رَبِّ ٱحْكُم بِٱلْحَقِّ … } بصيغة الأمر . وهذه القراءة تدل على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد أمره الله - تعالى - أن يقول ذلك . وصيغة " قال … " تدل على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد امتثل أمر ربه ، فقال ما أمره بقوله . وبعد فهذا تفسير لسورة الأنبياء ، عليهم الصلاة والسلام - نسأل الله تعالى - أن يجعله خالصا لوجهه ، ونافعا لعباده . وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .