Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 21, Ayat: 51-58)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وقصة إبراهيم - عليه السلام - مع قومه ، قد وردت فى سور متعددة منها سورة البقرة ، والعنكبوت ، والصافات . وهنا تحدثنا سورة الأنبياء عن جانب من قوة إيمانه - عليه السلام - ومن سلامة حجته ومن تصميمه على تنفيذ ما يرضى الله - تعالى - بالقول والعمل . والمراد بالرشد الهداية إلى الحق والبعد عن ارتكاب ما نهى الله - تعالى - عنه . والمراد بقوله - تعالى - { مِن قَبْلُ } أى من قبل أن يكون نبيا . والمعنى ولقد آتينا - بفضلنا وإحساننا - إبراهيم - عليه السلام - الرشد إلى الحق ، والهداية إلى الطريق المستقيم ، " من قبل " أى من قبل النبوة بأن جنبناه ما كان عليه قومه من كفر وضلال . وقد أكتفى الإمام ابن كثير بهذا المعنى فى قوله - تعالى - { مِن قَبْلُ } فقال يخبر - تعالى - عن خليله إبراهيم - عليه السلام - ، أنه آتاه رشده من قبل . أى من صغره ألهمه الحق والحجة على قومه ، كما قال - تعالى - { وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ … } ومن المفسرين من يرى أن المقصود بقوله - تعالى - { مِن قَبْلُ } أى من قبل موسى وهارون ، فقد كان الحديث عنهما قبل ذلك بقليل فى قوله - تعالى - { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ وَهَارُونَ ٱلْفُرْقَانَ وَضِيَآءً وَذِكْراً لَّلْمُتَّقِينَ … } فيكون المعنى ولقد آتينا إبراهيم رشده وهداه ، ووفقناه للنظر والاستدلال على الحق ، من قبل موسى وهارون ، لأنه يسبقهما فى الزمان . وقد رجح هذا المعنى الإِمام الآلوسى فقال " ولقد آتينا إبراهيم رشده " . أى الرشد اللائق به وبأمثاله من الرسل الكبار ، وهو الرشد الكامل ، أعنى الاهتداء إلى وجوه الصلاح فى الدين والدنيا … " من قبل " أى من قبل موسى وهارون ، وقيل من قبل البلوغ … والأول مروى عن ابن عباس وابن عمر ، وهو الوجه الأوفق لفظا ومعنى ، أما لفظا فللقرب ، وأما معنى فلأن ذكر الأنبياء - عليهم السلام - للتأسى ، وكان القياس أن يذكر نوح ثم إبراهيم ثم موسى ، لكن روعى فى ذلك ترشيح التسلى والتأسى ، فقد ذكر موسى ، لأن حاله وما قاساه من قومه … أشبه بحال نبينا - صلى الله عليه وسلم - . ويبدو لنا أن الآية الكريمة تتسع للمعنيين . أى أن الله - تعالى - قد أعطى إبراهيم رشده ، من قبل النبوة ، ومن قبل موسى وهارون لسبقه لهما فى الزمان . وقوله { وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ } بيان لكمال علم الله - تعالى - أى وكنا به وبأحواله وبسائر شئونه عالمين ، بحيث لا يخفى علينا شىء من أحواله أو من أحوال غيره . وقوله { إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَـٰذِهِ ٱلتَّمَاثِيلُ ٱلَّتِيۤ أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ } بيان لما جابَهَ بِه إبراهيم أباه وقومه من قول سديد يدل على شجاعته ورشده . أى وكنا به عالمين . وقت أن قال لأبيه وقومه على سبيل الإِرشاد والتنبيه ما هذه التماثيل الباطلة التى أقبلتم عليها ، وصرتم ملازمين لعبادتها بدون انقطاع . وسؤاله - عليه السلام - لهم بما التى هى لبيان الحقيقة ، من باب تجاهل العارف ، لأنه يعلم أن هذه الأصنام مصنوعة من الأحجار أو ما يشبهها ، وإنما أراد بسؤاله تنبيههم إلى فساد فعلهم . حيث عبدوا ما يصنعونه بأيديهم . وعبر عن الأصنام بالتماثيل ، زيادة فى التحقير من أمرها ، والتوهين من شأنها ، فإن التماثيل هو الشىء المصنوع من الاحجار أو الحديد أو نحو ذلك ، على هيئة مخلوق من مخلوقات الله - تعالى - كالإِنسان والحيوان ، يقال مثلت الشىء بالشىء إذا شبهته به . فهو - عليه السلام - سماها باسمها الحقيقى الذى تستحقه ، دون أن يجاريهم فى تسميتها آلهة . وقوله { عَاكِفُونَ } من العكوف بمعنى المداومة والملازمة . يقال عكف فلان على الشىء إذا لازمه وواظب عليه ، ومنه الاعتكاف لأنه حبس النفس عن التصرفات العادية . وفى التعبير عن عبادتهم لها بالعكوف عليها ، تفظيع لفعلهم وتنفير لهم منه ، حيث انكبوا على تعظيم من لا يستحق التعظيم ، وتعلقوا بعبادة تماثيل هم صنعوها بأيديهم . وقوله - سبحانه - { قَالُواْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا لَهَا عَابِدِينَ } حكاية لما قالوه فى ردهم على إبراهيم - عليه السلام - وهو رد يدل على تحجر عقولهم ، وانطماس بصائرهم حيث قلدوا فعل آبائهم بدون تدبر أو تفكر . أى قالوا فى جوابهم على إبراهيم - عليه السلام - وجدنا آباءنا يعبدون هذه التماثيل فسرنا على طريقتهم . وهنا يرد عليهم إبراهيم بقوله { لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } . أى لقد كنتم أنتم وآباؤكم الذين وجدتموهم يعبدون هذه الأصنام ، فى ضلال عجيب لا يقادر قدره ، وفى فساد ظاهر واضح لا يخفى أمره على عاقل ، لأن كل عاقل يعلم أن هذه الأصنام لا تستحق العبادة أو التقديس أو العكوف عليها ، والباطل لا يصير حقا بفعل الآباء له . وعندما واجههم إبراهيم - عليه السلام - بهذا الحكم البين الصريح ، قالوا له { أَجِئْتَنَا بِٱلْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ ٱللاَّعِبِينَ } . أى أجئتنا يا إبراهيم بالحق الذى يجب علينا اتباعه ، أم أنت من اللاعبين اللاهين الذين يقولون ما يقولون بقصد الهزل والملاعبة . وسؤالهم هذا يدل على تزعزع عقيدتهم . وشكهم فيما هم عليه من باطل ، إلا أن التقليد لآبائهم . جعلهم يعطلون عقولهم " ويستحبون العمى على الهدى " . ويجوز أن يكون سؤالهم هذا من باب الإِنكار عليه . واستبعاد أن يكون آباؤهم على باطل ، وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله " بقوا متعجبين من تضليله إياهم ، وحسبوا أن ما قاله ، إنما قاله على وجه المزاح والمداعبة ، لا على طريق الجد ، فقالوا له هذا الذى جئتنا به ، أهو جد وحق أم لعب وهزل . وقد رد عليهم إبراهيم - عليه السلام - ردا حاسما يدل على قوة يقينه فقال { قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ ٱلَّذِي فطَرَهُنَّ … } . أى قال لهم إبراهيم بلغة الواثق بأنه على الحق أنا لست هازلا فيما أقوله لكم ، وإنما أنا جاد كل الجد فى إخباركم أن الله - تعالى - وحده هو ربكم ورب آبائكم ، ورب السماوات والأرض ، فهو الذى خلقهن وأنشأهن بما فيهن من مخلوقات بقدرته التى لا يعجزها شىء . وقوله { وَأَنَاْ عَلَىٰ ذٰلِكُمْ مِّنَ ٱلشَّاهِدِينَ } تذييل المقصود به تأكيد ما أخبرهم به ، وما دعاهم إليه . أى وأنا على أن الله - تعالى - هو ربكم ورب كل شىء من الشاهدين ، الذين يثقون فى صدق ما يقولون ثقة الشاهد على شىء لا يشك فى صحته . ثم أضاف إلى هذا التأكيد القولى ، تأكيداً آخر فعليا ، فقال لهم { وَتَٱللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ } . أى وحق الله الذى فطركم وفطر كل شىء ، لأجتهدن فى تحطيم أصنامكم ، بعد أن تنصرفوا بعيدا عنها . وتولوها أدباركم . وأصل الكيد الاحتيال فى إيجاد ما يضر مع إظهار خلافه . وقد عبر به إبراهيم عن تكسير الأصنام وتحطيمها ، لأن ذلك يحتاج إلى احتيال وحسن تدبير . وقد نفذ إبراهيم ما توعد به الأصنام ، فقد انتهز فرصة ذهاب قومه بعيدا عنها فحطمها ، قال تعالى - { فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ } . والفاء فى قوله " فجعلهم " فصيحة . والجذاذ القطع الصغيرة جمع جذاذ من الجذ بمعنى القطع والكسر . أى فولوا مدبرين عن الأصنام فجعلها بفأسه قطعا صغيرة ، بأن حطمها عن آخرها - سوى الصنم الأكبر لم يحطمه بل تركه من غير تكسير . لعلهم إليه يرجعون فيسألونه كيف وقعت هذه الواقعة وهو حاضر ، ولم يستطع الدفاع عن إخوته الصغار ؟ ! ! . ولعل إبراهيم - عليه السلام - قد فعل ذلك ليقيم لهم أوضح الأدلة على أن هذه الأصنام لا تصلح أن تكون آلهة ، لأنها لم تستطع الدفاع عن نفسها ، وليحملهم على التفكير فى أن الذى يجب أن يكون معبوداً ، إنما هو الله الخالق لكل شىء ، والقادر على كل شىء . قال الآلوسى ما ملخصه وقوله { لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ } لبيان وجه الكسر واستبقاء الكبير ، وضمير " إليه " عائد إلى إبراهيم ، أى لعلهم يرجعون إلى إبراهيم ، فيحاجهم ويبكتهم . وعن الكلبى أن الضمير للكبير ، أى لعلهم يرجعون إلى الكبير ، كما يرجع إلى العالم فى حل المشكلات فيقولون له ما لهؤلاء مكسورة ، وما لك صحيحا ، والفأس فى عنقك أو فى يدك ؟ وحينئذ يتبين لهم أنه عاجز لا ينفع ولا يضر ، ويظهر أنهم فى عبادته على جهل عظيم … وعاد القوم إلى أصنامهم بعد تركهم إياها لفترة من الوقت ، فوجدوها قد تحطمت إلا ذلك الكبير ، فأصابهم ما أصابهم من الذهول والعجب ، ويصور القرآن الكريم ذلك فيقول { قَالُواْ مَن فَعَلَ … } .