Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 22, Ayat: 25-29)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قال الإِمام الرازى اعلم أنه - تعالى - بعد أن فصل بين الكفار والمؤمنين ذكر عظم حرمة البيت ، وعظم كفر هؤلاء الكافرين فقال { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } . قال ابن عباس الآية نزلت فى أبى سفيان بن حرب وأصحابه حين صدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية عن المسجد الحرام ، عن أن يحجوا ويعتمروا ، وينحروا الهدى . فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتالهم ، وكان محرما بعمرة ، ثم صالحوه على أن يعود فى العام القادم … وصح عطف المضارع وهو " يصدون " على الماضى وهو " كفروا " لأن المضارع هنا لم يقصد به زمن معين من حال أو استقبال ، وإنما المراد به مجرد الاستمرار ، كما فى قولهم فلان يحسن إلى الفقراء ، فإن المراد به استمرار وجود إحسانه . ويجوز أن يكون قوله { وَيَصُدُّونَ } خبرا لمبتدأ محذوف ، أى وهم يصدون عن المسجد الحرام . وخبر إن فى قوله - سبحانه - { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ … } محذوف لدلالة آخر الآية عليه . والمعنى إن الذين أصروا على كفرهم بما أنزله الله - تعالى - على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - ، واستمروا على منع أهل الحق من أداء شعائر دين الله - تعالى - ، ومن زيارة المسجد الحرام … هؤلاء الكافرون سوف نذيقهم عذابا أليما . ويصح أن يكون الخبر محذوفا للتهويل والإِرهاب . وكأن وصفهم بالكفر والصد كاف فى معرفة مصيرهم المهين . قال القرطبى قوله - تعالى - { وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } قيل إنه المسجد نفسه وهو ظاهر القرآن ، لأنه لم يذكر غيره ، وقيل الحرم كله ، لأن المشركين صدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه عنه عام الحديبية ، فنزل خارجا عنه … وهذا صحيح لكنه قصد هنا بالذكر المهم المقصود من ذلك . وقوله - سبحانه - { ٱلَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَآءً ٱلْعَاكِفُ فِيهِ وَٱلْبَادِ … } تشريف لهذا المكان حيث جعل الله - تعالى - الناس تحت سقفه سواء ، وتشنيع على الكافرين الذين صدوا المؤمنين عنه . ولفظ " سواء " قرأه جمهور القراء بالرفع على أنه خبر مقدم ، والعاكف مبتدأ ، والباد معطوفة عليه أى العاكف والباد سواء فيه . أى مستويان فيه . وقرأه حفص عن عاصم بالنصب على أنه المفعول الثانى لقوله " جعلناه " بمعنى صيرناه . أى جعلناه مستويا فيه العاكف والباد . ويصح أن يكون حالا من الهاء فى { جَعَلْنَاهُ } أى وضعناه للناس حال كونه سواء العاكف فيه والباد . والمراد بالعاكف فيه المقيم فيه . يقال عكف فلان على الشىء ، إذا لازمه ولم يفارقه . والباد الطارىء عليه من مكان آخر . وأصله من يكون من أهل البوادى الذين يسكنون المضارب والخيام ، ويتنقلون من مكان إلى آخر . أى جعلناه للناس على العموم ، يصلون فيه ، ويطوفون به ، ويحترمونه ويستوى تحت سقفه من كان مقيما فى جواره ، وملازما للتردد عليه ، ومن كان زائرا له وطارئا عليه من أهل البوادى أو من أهل البلاد الأخرى سوى مكة . فهذا المسجد الحرام يتساوى فيه عباد الله ، فلا يملكه أحد منهم ، ولا يمتاز فيه أحد منهم ، بل الكل فوق أرضه وتحت سقفه سواء . وقوله - تعالى - { وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } تهديد لكل من يحاول ارتكاب شىء نهى الله عنه فى هذا المسجد الحرام . والإِلحاد الميل . يقال ألحد فلان فى دين الله ، أى مال وحاد عنه . و " من " شرطية وجوابها " نذقه " ومفعول " يرد " محذوف لقصد التعميم . أى ومن يرد فيه مرادا بإلحاد ، ويصح أن يكون المفعول قوله { بِإِلْحَادٍ } على أن الباء زائدة . أى ومن يرد فى هذا المسجد الحرام إلحادا ، أى ميلا وحيدة عن أحكام الشريعة وآدابها بسبب طلمه وخروجه عن طاعتنا ، نذقه من عذاب أليم لا يقادر قدره ، ولا يكتنه كنهه . وقد جاء هذا التهديد فى أقصى درجاته لأن القرآن توعد بالعذاب الأليم كل من ينوى ويريد الميل فيه عن دين الله ، وإذا كان الأمر كذلك ، فمن ينوى ويفعل يكون عقابه أشد ، ومصيره أقبح . ويدخل تحت هذا التهديد كل ميل عن الحق إلى الباطل ، أو عن الخير إلى الشر كالاحتقار ، والغش . ولذا قال ابن جرير بعد أن ساق الأقوال فى ذلك وأولى الأقوال التى ذكرناها فى تأويل ذلك بالصواب القول الذى ذكرناه من أن المراد بالظلم فى هذا الموضع ، كل معصية لله ، وذلك لأن الله عم بقوله { وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ } ولم يخصص به ظلما دون ظلم فى خبر ولا عقل ، فهو على عمومه ، فإذا كان ذلك كذلك فتأويل الكلام ومن يرد فى المسجد الحرام بأن يميل بظلم فيعصى الله فيه ، نذقه يوم القيامة من عذاب موجع له . ثم تحدثت السورة بعد ذلك عن بناء البيت وتطهيره فقال - تعالى - { وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ ٱلْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً … } . وبوانا من التبوؤ بمعنى النزول فى المكان . يقال بوأته منزلا أى أنزلته فيه ، وهيأته له ، ومكنته منه . والمعنى واذكر أيها العاقل لتعتبر وتتعظ وقت أن هيأنا لنبينا إبراهيم مكان بيتنا الحرام ، وأرشدناه إليه ، لكى يبنيه بأمرنا ، ليكون مثابة للناس وأمنا . قال بعض العلماء والمفسرون يقولون بوأه له ، واراه إياه ، بسبب ريح تسمى الخجوج ، كنست ما فوق الأساس حتى ظهر الأساس الأول الذى كان مندرسا ، فبناه إبراهيم وإسماعيل عليه … وأن محل البيت كان مربض غنم لرجل من جرهم . وغاية ما دل عليه القرآن أن الله بوأ مكانه لإِبراهيم ، فهيأه له ، وعرفه إياه ليبنيه فى محله ، وذهبت جماعة من أهل العلم إلى أن أول من بناه إبراهيم ولم يبن قبله . وظاهر قوله - تعالى - على لسان إبراهيم { رَّبَّنَآ إِنَّيۤ أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ ٱلْمُحَرَّمِ … } يدل على أنه كان مبنيا واندرس كما يدل عليه - أيضا - قوله هنا { مَكَانَ ٱلْبَيْتِ } لأنه يدل على أن له مكانا سابقا كان معروفا . و " أن " فى قوله - تعالى - { أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً } مفسرة ، والتفسير - كما يقول الآلوسى - باعتبار أن التبوئة من أجل العبادة ، فكأنه قيل أمرنا إبراهيم بالعبادة ، وذلك فيه معنى القول دون حروفه ، أو لأن بوأناه بمعنى قلنا له تبوأ . والمعنى واذكر - أيها المخاطب - وقت أن هيأنا لإِبراهيم - عليه السلام - مكان بيتنا الحرام ، وأوصيناه بعدم الإِشراك بنا ، وبإخلاص العبادة لنا ، كما أوصيناه - أيضا - بأن يطهر هذا البيت من الأرجاس الحسية والمعنوية الشاملة للكفر والبدع والضلالات والنجاسات ، وأن يجعله مهيأ للطائفين به ، وللقائمين فيه لأداء فريضة الصلاة . قال الشوكانى والمراد بالقائمين فى قوله { وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَٱلْقَآئِمِينَ } المصلون … وذكر { ٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ } بعده ، لبيان أركان الصلاة دلالة على عظم شأن هذه العبادة ، وقرن الطواف بالصلاة ، لأنهما لا يشرعان إلى فى البيت ، فالطواف عنده والصلاة إليه . وقد أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة ، أنه لا يجوز أن يترك عند بيت الله الحرام ، قذر من الأقذار ولا نجس من الأنجاس المعنوية ولا الحسية ، فلا يترك فيه أحد يرتكب ما لا يرضى الله ، ولا أحد يلوثه بقذر من النجاسات . ثم ذكر - سبحانه - ما أمر به نبيه إبراهيم بعد أن بوأه مكان البيت فقال { وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ } . والآذان الإِعلام . و " رجالا " أى مشاة على أرجلهم ، جمع راجل . يقال رَجِل بزنة فرح فلان يَرْجَل فهو راجل إذا لم يكن معه ما يركبه . والضامر البعير المهزول من طول السفر ، وهو اسم فاعل من ضمر - بزنة قعد - يضمر ضمورا فهو ضامر ، إذا أصابه الهزال والتعب . وجملة " يأتين من كل فج عميق " صفة لقوله " كل " ، والجمع باعتبار المعنى . كأنه قيل وركبانا على ضوامر من كل طريق بعيد … والفج فى الأص الفجوة بين جبلين ويستعمل فى الطريق المتسع . والمراد به هنا مطلق الطريق وجمعه فجاج . والعميق البعيد ، مأخوذ من العمق بمعنى البعد ، ومنه قولهم بئر عميقة ، أى بعيدة الغور . والمعنى وأَعْلِمْ يا إبراهيم الناس بفريضة الحج يأتوك مسرعين مشاة على أقدامهم ، ويأتوك راكبين على دوابهم المهزولة ، من كل مكان بعيد . قال ابن كثير أى ناد - يا إبراهيم - فى الناس داعيا إياهم إلى الحج إلى هذا البيت الذى آمرناك ببنائه ، فذكر أنه قال يارب ، وكيف أبلغ الناس وصوتى لا يصل إليهم ؟ فقيل ناد وعلينا البلاغ ، فقام على مقامه ، وقيل على الحجر ، وقيل على الصفا ، وقيل على أبى قبيس ، وقال يا أيها الناس ، إن ربكم قد اتخذ بيتا فحجوه فيقال إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض ، وأجابه كل شىء سمعه من حجر ومدر وشجر ، ومن كتب الله أنه يحج إلى يوم القيامة " لبيك اللهم لبيك " . وقيل إن الخطاب فى قوله - تعالى - { وَأَذِّن … } للرسول - صلى الله عليه وسلم - وأن الكلام عن إبراهيم - عليه السلام - قد انتهى عند قوله - تعالى - { وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ } . وجمهور المفسرين على أن الخطاب لإِبراهيم - عليه السلام - لأن سياق الآيات يدل عليه ، ولأن التوافد على هذا البيت موجود منذ عهد إبراهيم . وما يزال وعد الله يتحقق منذ هذا العهد إلى اليوم وإلى الغد ، وما تزال أفئدة ملايين الناس تهوى إليه ، وقلوبهم تنشرح لرؤيته ، وتسعد بالطواف من حوهل … وقوله - سبحانه - { لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ } متعلق بقوله { يَأْتُوكَ } . أى يأتيك الناس راجلين وراكبين من كل مكان بعيد ، ليشهدوا وليحصلوا منافع عظيمة فهم فى دينهم وفى دنياهم . ومن مظاهر منافعهم الدينية غفران ذنوبهم ، وإجابة دعائهم ، ورضا الله - تعالى - عنهم . ومن مظاهر منافعهم الدنيوية اجتماعهم فى هذا المكان الطاهر ، وتعارفهم وتعاونهم على البر والتقوى ، وتبادلهم المنافع فيما بينهم عن طريق البيع والشراء وغير ذلك من أنواع المعاملات التى أحلها الله - تعالى - . وجاء لفظ " منافع " بصيغة التنكير ، للتعميم والتعظيم والتكثير . أى منافع عظيمة وشاملة لأمور الدين والدنيا ، وليس فى الإِمكان تحديدها لكثرتها ، وقوله { وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِيۤ أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ ٱلأَنْعَامِ } معطوف على قوله { لِّيَشْهَدُواْ } . والمراد بالأيام المعلومات الأيام العشر الأولى من شهر ذى الحجة ، أو هى أيام النحر ، أو يوم العيد وأيام التشريق . والمراد ببهمية الأنعام الإِبل والبقر والغنم . أى ليشهدوا منافع لهم ، وليكثروا من ذكر الله ومن طاعته فى تلك الأيام المباركة . وليشكروه على ما رزقهم من بهيمة الأنعام التى يتقربون إليه - سبحانه - عن طريق ذبحها وإراقة دمائها ، واستجابة لأمره - عز وجل - . وقوله - سبحانه - { فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ٱلْبَآئِسَ ٱلْفَقِيرَ } إرشاد منه - تعالى - إلى كيفية التصرف فيها بعد ذبحها . أى فكلوا من هذه البهيمة بعد ذبحها ، وأطعموا منها الإِنسان البائس ، أى الذى أصابه بؤس ومكروه بجانب فقره واحتياجه . قال الآلوسى والأمر فى قوله { فَكُلُواْ مِنْهَا … } للإِباحة بناء على أن الأكل كان منهيا عنه شرعا ، وقد قالوا إن الأمر بعد المنع يقتضى الإِباحة ويدل على سبق النهى قوله - صلى الله عليه وسلم - " كنت نهيتكم عن أكل لحوم الأضاحى فكلوا منها وادخروا " . وقيل لأن أهل الجاهلية كانوا يتحرجون فيه ، أو للندب على مواساة الفقراء ومساواتهم فى الأكل منها . ثم بين - سبحانه - ما يفعلونه بعد حلهم وخروجهم من الإِحرام فقال { ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُواْ بِٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ } . والمراد بالقضاء هنا الإِزالة ، وأصله القطع والفصل ، فأريد به الإِزالة على سبيل المجاز . والتفث الوسخ والقذر ، كطول الشعر والأظفار يقال تَفِث فلان - كفرح - يتفَث تفثا فهو تفث ، إذا ترك الاغتسال والتطيب والتنظيف فأصابته الأوساخ . والمراد بالطواف هنا طواف الإِفاضة ، الذى هو أحد أركان الحج ، وبه يتم التحلل . والعتيق القديم حيث إنه أول بيت وضع لعبادة الله فى الأرض ، وقيل سمى بالعتيق لأن الله - تعالى - أعتقه من أ ، يتسلط عليه جبار فيهدمه أو يخربه . والمعنى ثم بعد حلهم وبعد الإِتيان بما عليهم من مناسك . فليزيلوا عنهم أدرانهم وأوساخهم ، وليوفوا نذورهم التى نذروها لله - تعالى - فى حجهم ، وليطوفوا طواف الإِفاضة ، بهذا البيت القديم الذى جعله الله - تعال - أول بيت لعبادته ، وصانه من اعتداء كل جبار أثيم . وبذلك نرى الآيات الكريمة قد توعدت كل من يصد الناس عن هذا البيت بأشد ألوان الوعيد ، وبينت أن الناس فيه سواء ، وتحدثت عن جانب من فضله - سبحانه - على نبيه إبراهيم - عليه السلام - حيث أرشده إلى مكان هذا البناء ، وشرفه بتهيئته ليكون أول مكان لعبادته - تعالى - ، وأمره بأن ينادى فى الناس بالحج إليه ، ليشهدوا منافع عظيمة لهم . ثم انتقلت السورة الكريمة بعد ذلك إلى الحديث عن الذين يعظمون حرمات الله ، وعما أحله الله لعباده من الأنعام ، وعن سوء عاقبة من يشرك بالله ، فقال - تعالى - { ذٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ … } .