Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 22, Ayat: 42-51)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

والمعنى لا تحزن - أيها الرسول الكريم - لأن هؤلاء المشركين قد كذبوك فيما جئتهم به من عند ربك ، وأعرضوا عنه ، فإن قوم نوح ، وقوم هود ، وقوم صالح ، وقوم إبراهيم ، وقوم لوط ، وقوم شعيب ، وقوم موسى ، قد كذبوا هؤلاء الأنبياء الكرام ، وما يقال لك من هؤلاء المشركين ، قد قيل للرسل من قبلك . قال - تعالى - { كَذَلِكَ مَآ أَتَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْاْ بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٍ وَذَكِّرْ فَإِنَّ ٱلذِّكْرَىٰ تَنفَعُ ٱلْمُؤْمِنِينَ } واستغنى فى عاد وثمود عن ذكر القوم ، لاشتهارهم بهذا الاسم الذى يدل دلالة واضحة على هؤلاء الظالمين . وقال - سبحانه - { وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ } ولم يقل وقوم شعيب ، لأنهم هم الأسبق فى التكذيب له - عليه السلام - على أصحاب الآيكة ، ولأنهم هم أهله أما أصحاب الأيكة فكانوا غرباء عنه . وقال - سبحانه - { وَكُذِّبَ مُوسَىٰ } لأنه لم يكذَّب من جميع قومه وهم بنو إسرائيل . وإنما كان المكذب له هو فرعون وملأه ، وللإِشارة إلى أن موسى - عليه السلام - قد جاء إلى الناس بآيات واضحات تدل على صدقه ، ومع ذلك فقد قوبل بالتكذيب من فرعون وملئه . ثم بين - سبحانه - ما حل بهؤلاء من عقوبات فقال { فَأمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } . والإِملاء الإِمهال وفى الصحيحين عن أبى موسى الأشعرى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " إن الله ليملى للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته " . والنكير اسم مصدر بمعنى الإِنكار ، يقال أنكرت على فلان فعله ، إذا ردعته وزجرته عنه . أى هؤلاء الأقوام الذين كذبوا أنبياءهم ، لم أعاجلهم بالعقوبة ، بل أملهتهم وأمليت لهم ، ثم أخذتهم أخذ عزيز مقتدر ، فانظر - أيها العاقل - كيف كان إنكارى عليهم ؟ لقد كان إنكارا مخيفا مهلكا { فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ ٱلصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ ٱلأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } وقال - سبحانه - { فَأمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ } بالإِظهار دون الإِضمار ، لزيادة التشنيع عليهم والاستفهام فى قوله - تعالى - { فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } للتهويل والتعجيب . أى لقد كان إنكارا فظيعا حول حياتهم إلى موت ، وعمرانهم إلى خراب ، وغرورهم إلى ذلة وهوان … فعلى مشركى قريش أن يعتبروا بذلك ويتعظوا … وإلا فالعاقبة معروفة لهم . وبعد هذا البيان المشتمل على سوء عاقبة هذه الأمم التى كذبت رسلها … أتبع ذلك - سبحانه - ببيان مصير كثير من الأمم الظالمة فقال { فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ } . وكلمة " كأين " مركبة من كاف التشبيه ، ومن أى الاستفهامية المنونة ، ثم هجر معنى جزأيها وصارت كلمة واحدة بمعنى كم الخبرية المفيدة للتكثير ، ويكنى بها عن عدد مبهم فتفتقر إلى تمييز بعدها . ومميزها غالبا ما يجر بمن كما فى الآية وفى غيرها . قال - تعالى - { وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ … } { وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ } قال الآلوسى وقوله { فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ } منصوب بمضمر يفسره قوله - تعالى - { أَهْلَكْنَاهَا } أى فأهلكنا كثيرا من القرى أهلكناها … أو مرفوع على الابتداء ، وجملة { أَهْلَكْنَاهَا } خبره . أى فكثير من القرى أهلكناها … وقوله { وَهِيَ ظَالِمَةٌ } جملة حالية من مفعول أهلكنا … ولفظ { خَاوِيَةٌ } بمعنى ساقطة أو خالية . يقال خوى البيت يخوى إذا سقط أو خلا ممن يسكنه . والعروش جمع عرش وهو سقف البيت ، ويسمى العريش وكل ما يُهيأ ليُسْتَظَلَ به فهو عريش . وبئر معطلة أى مهجورة لهلاك أهلها ، يقال بأر فلان الأرض إذا حفرها ليستخرج منها الماء . والمَشِيد المجصص بالشِّيد وهو الجِصّ . يقال شاد فلان بيته يَشِيده ، إذا طلاه بالشِّيد . والمعنى وكثير من القوى أهلكناها بسبب ظلمهم وكفرهم ، فإذا ما نظرت إليها وجدتها خالية من أهلها ، وقد سقطت سقوفها على جدرانها . وكثير من الآبار التى كانت تتفجر بالماء عطلناها وصارت مهجورة ، وكثير - أيضا - من القصور المشدة الفخمة أخليناها من أهلها . وذلك لأنهم كذبوا رسلنا ، وجحدوا نعمنا ، فدمرناهم تدميرا . وجعلنا مساكنهم من بعدهم اثرا بعد عين . فأنت ترى أن هذه الآية الكريمة قد اشتملت على أشد ألوان الوعيد والتهديد لكفار قريش الذين كذبوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأعرضوا عن دعوته . وشبيه بهذه الاية قوله - تعالى - { وَكَأِيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً } ثم ينتقل القرآن الكريم من هذا التهديد الشديد ، إلى التوبيخ والتقريع لهؤلاء المشركين ، الذين لا يعتبرون ولا يتعظون فيقول { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا … } . والاستفهام للتوبيخ والإِنكار ، والفاء للعطف على مقدر يستدعيه المقام . والمعنى إن مصارع الغابرين وديارهم ، يمر بها كفار قريش ، ويعرفونها ، فهم يرون فى طريقهم إلى الشام قرى صالح وقرى لوط … قال - تعالى - { وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ وَبِٱلَّيلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } والشأن فى هذه الرؤية أن تجعل صاحبها يعتبر ويتعظ ، متى كان عنده قلب يعقل ما يجب فهمه ، أو أذن تسمع ما يجب سماعه وتنفيذه ، ولكن هؤلاء الجاهلين يرون مصارع الغابرين فلا يعقلون ، ولا يعتبرون ، ويسمعون الأحاديث عن تلك الآبار المعطلة ، والقصور الخالية من سكانها ، والمنازل المهدمة ، فلا يتعظون . وقوله - تعالى - { فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى ٱلأَبْصَارُ وَلَـٰكِن تَعْمَىٰ ٱلْقُلُوبُ ٱلَّتِي فِي ٱلصُّدُورِ } بيان لسبب انطماس بصائرهم ، وقسوة قلوبهم . والضمير فى قوله { فَإِنَّهَا } للقصة أى فإن الحال أنه لا يعتد بعمى الأبصار ، ولكن الذى يعتد به عمى القلوب التى فى الصدور ، وهؤلاء المشركون قد أصيبوا بالعمى الذى هو أشنع عمى وأقبحه ، وهو عمى القلوب عن الفهم وقبول الحق . وذكر - سبحانه - أن مواضع القلوب فى الصدور ، لزيادة التأكيد ، ولزيادة إثبات العمى لتلك القلوب التى حدد - سبحانه - موضعها تحديدا دقيقا . قال الآلوسى فالكلام تذييل لتهويل ما نزل بهم من عدم فقه القلب ، وأنه العمى الذى لا عمى بعده ، بل لا عمى إلا هو ، أو المعنى إن أبصارهم صحيحة سالمة لا عمى بها . وإن العمى بقلوبهم ، فكأنه قيل أفلم يسيروا فى الأرض فتكون لهم قلوب ذات بصائر ، فإن الآفة ببصائر قلوبهم لا بأبصار عيونهم ، وهى الآفة التى كل آفة دونها . كأنه يحثهم على إزالة المرض وينعى عليهم تقاعدهم عنها . ثم أكد - سبحانه - انطماس بصائرهم ، حيث بين أنهم بدل أن يتوبوا إلى الله ويستغفروه ، استعجلوا العذاب فقال { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ ٱللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } . أى أن هؤلاء الطغاة بدل أن يسيروا فى الأرض فيعتبروا ويتعظوا ، أخذوا يطلبون منك - ايها الرسول الكريم - نزول العذاب عاجلا ، على سبيل الاستهزاء بك والاستخفاف بما هددناهم به ، ويقولون لك متى هو ؟ . فالجملة الكريمة { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلْعَذَابِ } خبرية فى اللفظ ، استفهامية فى المعنى . وقوله - سبحانه - { وَلَن يُخْلِفَ ٱللَّهُ وَعْدَهُ } جملة حالية جىء بها لتهديدهم على استعجالهم العذاب ، أى والحال أن الله - تعالى - لن يخلف ما وعدهم به من العذاب ، بل هو منجزه فى الوقت الذى يريده هو وليس الذى يريدونه هم . وقوله - سبحانه - { وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } جملى مستأنفة سيقت لبيان أن حساب الأزمان فى تقدير الله - تعالى - يخالف ما يقدره البشر . أى دعهم - أيها الرسول الكريم - يستعجلون العذاب ، فذلك دأب الظالمين فى كل حين ، وسبيل الجاهلين فى كل زمان ، وأعلمهم أن الله - تعالى - لن يخلف وعده إياهم به فى الوقت المحدد لذلك ، وإن يوما عنده - تعالى - كألف سنة مما يعده هؤلاء فى دنياهم ، وسيأتيهم هذا اليوم الذى يطول عليهم طولا شديدا ، لمايرون فيه من عذاب مهين . قال القرطبى قوله - تعالى - { وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } قال ابن عباس ومجاهد يعنى من الأيام التى خلق فيها السماوات والأرض . وقال عكرمة يعنى من أيام الآخرة ، أعلمهم الله إذ استعجلوه بالعذاب فى أيام قصيرة أنه يأتيهم به فى أيام طويلة . وقال الفراء هذا وعيد لهم بامتداد عذابهم فى الآخرة . وقيل المعنى وإن يوما فى الخوف والشدة فى الآخرة كألف سنة من سنىّ الدنيا فيها خوف وشدة … ثم أكد - سبحانه - أن إملاءه للظالمين ، سيعقبه العذاب الأليم ، فقال { وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ ٱلْمَصِيرُ } . أى وكثير من القرى الظالمة أملهت عقوبة أهلها إلى أجل مسمى ، ثم أخذتها بعد ذلك أخذا شديدا ، جعلهم فى قراهم جاثمين كأن لم يغنوا فيها ، وسيرجعون إلينا فيجدون عذابا أشد وأبقى ، إذ أن مصيرهم إلىَّ لا إلى غيرى . وبعد هذا العرض لمصارع الغابرين وبيان سنة الله - تعالى - فى المكذبين ، يأمر - سبحانه - نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يرشد الناس إلى مصيرهم فيقول { قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّمَآ أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } . أى قل - أيها الرسول الكريم - للناس ، إن وظيفتى أن أنذركم وأخوفكم من عذاب الله ، بدون التباس أو غموض . { فَٱلَّذِينَ آمَنُواْ } وعملوا الأعمال الصالحات لهم من ربهم مغفرة واسعة ، ورزق كريم ، لا انقطاع معه ولا امتناع . { وَٱلَّذِينَ سَعَوْاْ فِيۤ آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ } أى والذين بذلوا كل جهودهم فى إبطال آياتنا الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا وصدق رسلنا ، وأسرعوا فى تكذيبها وغالبوا المؤمنين وعارضوهم ليظهروهم بمظهر العاجز عن الدفاع عن دينهم وعن عقيدتهم . { أُوْلَـٰئِكَ } الموصوفون بهذا السعى الأثيم { أَصْحَابُ ٱلْجَحِيمِ } أى الملازمون للنار المتأججة ملازمة المالك لما يملكه . ثم انتقلت السورة الكريمة بعد ذلك إلى الحديث عن فضل الله - تعالى - على أنبيائه ورسله حيث عصمهم من كيد الشيطان ووسوسته وحفظ دعوتهم من تكذيب المكذبين ، وعبث العابثين … فقال - تعالى - { وَمَآ أَرْسَلْنَا … } .