Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 22, Ayat: 8-13)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قال ابن كثير - رحمه الله - " لما ذكر - تعالى - حال الضلال الجهال المقلدين لغيرهم فى الآية الثالثة من هذه السورة وهى قوله - سبحانه - { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ } ذكر فى هذه حال الدعاة إلى الضلال من رءوس الكفر والبدع ، فقال { ومِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ } أى بلا عقل صحيح . ولا نقل صحيح صريح بل بمجرد الرأى والهوى " . ولعل مما يؤيد ما ذهب إليه ابن كثير من أن الآية الثالثة من هذه السورة فى شأن المقلدين لغيرهم ، أنه - سبحانه - قال فيها فى شأنهم { وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ } أما فى هذه الآية فقد قال فى شأن هذا النوع من الناس { ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ … } أى ليضل غيره ويصرفه عن طاعة الله - تعالى - واتباع طريقه الحق . وقد نفت الآية الكريمة عن هذا المجادل ، استناده إلى أى دليل أو ما يشبه الدليل ، فهو يجادل فى ذات الله - تعالى - وفى صفاته " بغير علم " يستند إليه وبغير " هدى " يهديه ويرشده إلى الحق وبغير " كتاب منير " أى وبغير وحى ينير عقله وقلبه ، ويوضح له سبيل الرشاد . فأنت ترى أن الآية قد جردت هذا المجادل من أى مستند إليه فى جداله سواء كان عقلياً أم نقلياً ، بل أثبتت له الجهالة من جميع الجهات . ثم صورته السورة الكريمة بعد ذلك بتلك الصورة المزرية ، صورة الجاهل المغرور المتعجرف ، فقال - تعالى - { ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } . وقوله { ثَانِيَ } من الثَّنْى بمعنى اللَّىِّ والميل عن الاستقامة . يقال فلان ثنى الشىء إذا رد بعضه على بعض فانثنى أى مال والتوى . والعِطْف - بكسر العين - الجانب ، وهذا التعبير كناية عن غرروه وصلفه مع جهله . أى أنه مع جداله بدون علم ، متكبر معجب بنفسه ، معرض عن الحق ، مجتهد فى إضلال غيره عن سبيل الله - تعالى - وعن الطريق الذى يوصل إلى الرشاد . ثم بين - سبحانه - سوء عاقبة هذا الجاهل المغرور المضل لغيره فقال و { لَهُ فِي ٱلدُّنْيَا خِزْيٌ } أى هوان وذله وصغار . { وَنُذِيقُهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ } أى ونجعله يوم القيامة يدرك طعم العذاب المحرق . ويصطلى به جزاء غروره وشموخه فى الدنيا بغير حق . وتقول له ملائكتنا وهى تصب عليه ألوان العذاب { ذٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ } أى ذلك الذى تتذوقه من عذاب محرق سببه جهلك وغرورك وإصرارك على الكفر ، وحرصك على إضلالك لغيرك . وأسند - سبحانه - سبب ما نزل بهذا الكافر من خزى وعذاب إلى يديه ، لأنهما الجارحتان اللتان يزاول بهما أكثر الأعمال . وقوله - سبحانه - { وَأَنَّ ٱللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلعَبِيدِ } بيان لعدله - تعالى - مع عباده ، أى وأن الله - تعالى - ليس بذى ظلم لعباده أصلاً ، حتى يعذبهم بدون ذنب ، بل هو عادل رحيم بهم ، ومن مظاهر عدله ورحمته أنه يضاعف الحسنات ، ويعاقب على السيئات ، ويعفو عن كثير من ذنوب عباده . ثم بين - سبحانه - نوعاً آخر من الناس ، لا يقل جرماً عن سابقه فقال - تعالى - { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَعْبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ ٱطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ ٱنْقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ … } . قال صاحب الكشاف " على حرف " أى على طرف من الدين لا فى وسطه وقلبه . وهذا مثل لكونهم على قلق واضطراب فى دينهم لا على سكون وطمأنينة ، كالذى يكون على طرف من العسكر ، فإن أحس بظفر وغنيمة قر واطمأن ، وإلا فر وطار على وجهه … " . وقد ذكر المفسرون فى سبب نزول هذه الآية روايات منها ما أخرجه البخارى عن ابن عباس قال كان الرجل يقدم المدينة ، فإذا ولدت أمرأته غلاماً ، ونتجت خيله . قال هذا دين صالح ، وإن لم تلد امرأته ، ولم تنتج خيله قال هذا دين سوء … " . والمتأمل فى هذه الآية الكريمة يراها قد صورت المذبذبين فى عقيدتهم أكمل تصوير ، فهم يقيسون العقيدة بميزان الصفقات التجارية ، إن ربحوا من ورائها فرحوا ، وإن خسروا فيها أصابهم الغم والحزن . وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - فى شأن المنافقين { وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي ٱلصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ } والتعبير بقوله - سبحانه - { عَلَىٰ حَرْفٍ } يصور هذا النوع من الناس ، وكأنه يتأرجح فى عبادته كما يتأرجح من يكون على طرف الشىء . فهو معرض للسقوط فى أية لحظة . والمراد من الخير فى قوله - تعالى - { فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ ٱطْمَأَنَّ بِهِ } الخير الدنيوى من صحة وغنى ومنافع دنيوية . أى فإن نزل بهذا المذبذب فى عبادته خير دنيوى { ٱطْمَأَنَّ بِهِ } أى ثبت على ما هو عليه من عبادة ثباتاً ظاهرياً ، وليس ثباتاً قلبياً حقيقياً كما هو شأن المؤمنين الصادقين الذين لا يزحزحهم عن إيمانهم وعد أو وعيد . { وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ } أى مصيبة أو شر { ٱنْقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ } أى ارتد ورجع عن عبادته ودينه إلى الكفر والمعاصى . وقوله - تعالى - { خَسِرَ ٱلدُّنْيَا وَٱلآُخِرَةَ ذٰلِكَ هُوَ ٱلْخُسْرَانُ ٱلْمُبِينُ } بيان لسوء عاقبة صنيعه . أى هذا الذى يعبد الله على حرف ، جمع على نفسه خسارتين ، خسارة الدنيا بسبب عدم حصوله على ما يريده منها ، وخسارة الآخرة بسبب ارتداده إلى الكفر وغشيان السيئات ، وذلك الذى جمعه على نفسه هو الخسران الواضح ، الذى لا ينازع فى شأنه عاقلان ، إذ لا خسران أشد وأظهر ، من الخسران الذى ضيع دنياه وآخرته . ثم بين - سبحانه - مظاهر خسران هذا المذبذب ، وأحواله القبيحة فقال { يَدْعُو مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُ وَمَا لاَ يَنفَعُهُ … } . أى يعبد سوى الله - تعالى - أوثاناً وأصناماً ، إن ترك عبادتها لا تستطيع أن تضره ، وإن عبدها فلن تستطيع أن تنفعه . و { ذٰلِكَ } الذى يفعله هذا الشقى من عبادته لما لا يضر ولا ينفع { هُوَ ٱلضَّلاَلُ ٱلْبَعِيدُ } بعداً شاسعاً عن كل صواب ورشاد . ثم أضاف - سبحانه - إلى تبكيت هذا المذبذب وتقريعه تقريعاً آخر فقال { يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ ٱلْمَوْلَىٰ وَلَبِئْسَ ٱلْعَشِيرُ } . والمولى هو كل من انعقد بينك وبينه سبب ، يجعلك تواليه ويواليك ، وتناصره ويناصرك . والعشير هو من يعاشرك ويخالطك فى حياتك . أى يعبد هذا الإِنسان الجاهل المضطرب ، معبوداً ضرره أقرب من منفعته ، لبئس الناصر ولبئس الصاحب هذا المعبود . فإن قيل كيف نجمع بين هذه الآية التى جعلت المعبود الباطل ضرره أقرب من نفعه ، وبين الآية السابقة عليها والتى نفت الضر والنفع نفياً تاماً . وقد أجاب العلماء عن هذا التساؤل بإجابات منها أن لفظ " يدعو " فى الآية الثانية بمعنى يقول . وقد صدر الألوسى تفسيره للآية بهذا الرأى فقال ما ملخصه " قوله - تعالى - { يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ } . استئناف يبين مآل دعائه وعبادته غير الله - تعالى - ويقرر كون ذلك ضلالاً بعيداً . فالدعاء هنا بمعنى القول . ِأى يقول الكافر يوم القيامة برفع صوت ، وصراخ حين يرى تضرره بمعبوده ودخوله النار بسببه ، ولا يرى منه أثراً مما كان يتوقعه منه من نفع أو دفع ضر والله لبئس الذى يتخذ ناصراً - من دون الله - ولبئس الذى يعاشر ويخالط ، فكيف بما هو ضرر محض ، عار من النفع بالكلية ، وفى هذا من المبالغة فى تقبيح حال الصنم والإِمعان فى ذمه ما لا يخفى … " . ومنها ما ذكره الإِمام القرطبى فقال قوله - تعالى - { يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ } أى هذا الذى انقلب على وجهه يدعو من ضره أدنى من نفعه ، أى فى الآخرة ، لأنه بعبادته دخل النار . ولم يرد منه نفعاً أصلاً ، ولكنه قال ضره أقرب من نفعه ، ترفيعاً للكلام ، كقوله - تعالى - { وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } ومنها ما ذكره بعض العلماء من أن الآية الأولى فى شأن الذين يعبدون الأصنام ، إذ الأصنام لا تنفع من عبدها ، ولا تضر من كفر بها ، ولذا قال فيها ما لا يضره وما لا ينفعه ، والقرينة على أن المراد بذلك الأصنام ، التعبير بلفظة " ما " فى قوله { مَا لاَ يَضُرُّهُ وَمَا لاَ يَنفَعُهُ } لأن لفظ " ما " يأتى - غالباً - لما لا يعقل . والأصنام لا تعقل . أما الآية الثانية فهى فى شأن من عبد بعض الطغاة من دون الله ، كفرعون القائل لقومه " ما علمت لكم من إله غيرى " فإن فرعون وأمثاله من الطغاة المعبودين ، قد يغدقون نعم الدنيا على عابديهم . وهذا النفع الدنيوى بالنسبة لما سيلاقونه من عذاب لا شىء . فضر هذا المعبود بخلود عابده فى النار . أقرب من نفعه بعرض قليل زائل من حطام الدنيا . والقرينة على أن المراد بالمعبود الباطل فى الآية الثانية بعض الطغاة الذين هم من جنس العقلاء هى التعبير " بمن " التى تأتى - غالباً - لمن يعقل ، كما قال - تعالى - { يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ … } . ويبدو لنا أن هذا القول الأخير له وجه من القبول . وبذلك نرى السورة الكريمة قد ساقت لنا نماذج من أحوال الناس فى هذه الحياة . لكى يحذرهم المؤمنون ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حى عن بينة . ثم بينت السورة الكريمة ما أعده الله - تعالى - للمؤمنين الصادقين من حسن الثواب ، بعد أن صرحت بما توعد به - سبحانه - المجادلين فيه بغير علم بسوء العقاب ، فقال - تعالى - { إِنَّ ٱللَّهَ يُدْخِلُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ … } .