Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 22, Ayat: 5-7)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قال أبو حيان فى البحر لما ذكر - سبحانه - من يجادل فى قدرة الله بغير علم ، وكان جدالهم فى الحشر والمعاد ، ذكر دليلين واضحين على ذلك . أحدهما فى نفس الإِنسان وابتداء خلقه . وتطوره فى أطوار سبعة ، وهى التراب ، والنطفة ، والعلقة ، والمضغة ، والإِخراج طفلا ، وبلوغ الأشد ، والتوفى أو الرد إلى أرذل العمر . والدليل الثانى فى الأرض التى يشاهد تنقلها من حال إلى حال فإذا اعتبر العاقل ذلك ثبت عنده جوازه عقلا ، فإذا ورد الشرع بوقوعه ، وجب التصديق به ، وأنه واقع لا محالة . والمراد بالناس هنا المشركون وكل من كان على شاكلتهم فى إنكار أمر البعث واستبعاده ، لأن المؤمنين يعترفون بأن البعث حق ، وأنه واقع بلا أدنى شك أو ريب . والمعنى يأيها الناس إن كنتم فى شك من أمر إعادتكم إلى الحياة مرة أخرى للحساب يوم القيامة ، فانظروا وتفكروا فى مبدأ خلقكم ، فإن هذا التفكر من شأنه أن يزيل هذا الشك ، لأن الذى أوجدكم الإِيجاد الأول . وخلقكم من التراب ، قادر على إعادتكم إلى الحياة مرة أخرى ، إذ الإِعادة - كما يعرف كل عاقل - أيسر من ابتداء الفعل . وقد قرب - سبحانه - هذا المعنى فى أذهانكم فى آيات كثيرة ، منها قوله - تعالى - { وَهُوَ ٱلَّذِي يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ ٱلْمَثَلُ ٱلأَعْلَىٰ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } وأتى - سبحانه - بأن المفيدة للشك فقال { إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ ٱلْبَعْثِ } مع أن كونهم فى ريب أمر محقق تنزيلاً للمحقق منزلة المشكوك فيه ، وتنزيهاً لموضوع البعث عن أن يتحقق الشك فيه من أى عاقل ، وتوبيخا لهم لوضعهم الأمور فى غير مواضعها . ووجه الإِتيان بفى الدالة على الظرفية ، للإِشارة إلى أنهم قد امتلكهم الريب وأحاط بهم إحاطة الظرف بالمظروف . قال الآلوسى " وقوله { فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ } دليل جواب الشرط ، أو هو الجواب بتأويل ، أى إن كنتم فى ريب من البعث ، فانظروا إلى مبدأ خلقكم ليزول ريبكم ، فإنا خلقناكم من تراب ، وخلقهم من تراب فى ضمن خلق أبيهم آدم منه … " . وقال بعض العلماء ما ملخص والتحقيق فى معنى قوله - تعالى { فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ } أنه - سبحانه - خلق أباهم آدم منه ، ثم خلق من آدم زوجه حواء ، ثم خلق الناس منهما عن طريق التناسل . فلما كان أصلهم الأول من تراب ، أطلق عليهم أنه خلقهم من تراب لأن الفروع تتبع الأصل . وعلى ذلك يكون خلقهم من تراب هو الطور الأول … " . ثم بين - سبحانه - الطور الثانى من أطوار خلق الإِنسان فقال { ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ } وهذا اللفظ مأخوذ من النطف - بفتح النون مع التشديد وإسكان الطاء - بمعنى السيلان والتقاطر . يقال نطفت القربة ، إذا تقاطر الماء منها بقلة . والنطفة تطلق فى اللغة على الماء القليل ، والمراد بها هنا الماء المختلط من الرجل والمرأة عند الجماع ، والمعبر عنه بالمنى . وقوله { ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ } هو الطور الثالث . والعلقة جمعها علق ، وهى قطعة من الدم جامدة ، تتحول إليها النطفة . وقوله { ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ } هو الطور الرابع ، والمضغة قطعة صغيرة من اللحم تحول إليها العلقة . وقوله - سبحانه - { مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ } صفة للمضغة . والمراد بالمخلقة التامة الخلقة ، السالمة من العيوب ، والمراد بغير المخلقة ما ليست كذلك كأن تكون ناقصة الخلقة . وقد اكتفى بهذا المعنى صاحب الكشاف فقال " والمخلقة " المستواة الملساء من النقصان والعيب يقال خلق السواك والعود ، إذا سواه وملسه ، من قولهم صخرة خلقاء ، إذا كانت ملساء . كأن الله - تعالى - يخلق المضغ متفاوتة . منها . ما هو كامل الخلقة أملس من العيوب ، ومنها ما هو على عكس ذلك ، فيتبع ذلك التفاوت ، تفاوت الناس فى خلقهم وصورهم وطولهم وقصرهم وتمامهم ونقصانهم … " . وقيل " مخلقة " أى مستبينة الخلق ، ظاهرة التصوير . " وغير مخلقة " أى لم يستبن خلقها ولا ظهر تصويرها كالسقط الذى هو مضغة ولم تظهر صورته الإِنسانية بعد . وقيل " مخلقة " أى نفخ فيها الروح . " وغير مخلقة " أى لم ينفخ فيها الروح . ويبدو لنا أن ما ذهب إليه صاحب الكشاف واكتفى به أولى بالقبول ، لأنه هو المشهور من كلام العرب . فهم يقولون حجر أخلق أى أملس مصمت لا يؤثر فيه شىء ، وصخرة خلقاء ، أى ليس بها تشويه أو كسر . وقوله - تعالى - { لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ } متعلق بقوله { خَلَقْنَاكُمْ } أى خلقناكم على هذا النحو العجيب ، وفى تلك الأطوار البديعة . لنبين لكم كمال قدرتنا ، وبليغ حكمتنا . وأننا لا يعجزنا إعادة كل حى إلى الحياة بعد موته . وحذف مفعول " نبين " للإِشعار بأن أفعاله - تعالى - الدالة على كمال قدرته ، لا يحيط بها وصف ، ولا تمدها عبارة … أى لنبين لكم عن طريق المشاهدة ، ما يدل على كمال قدرتنا دلالة يعجز الوصف عن الإِحاطة بها . وقوله - تعالى - { وَنُقِرُّ فِي ٱلأَرْحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى } كلام مستأنف مسوق لبيان أحوال الناس بعد تمام خلقهم ، وتوارد تلك الأطوار عليهم . أى ونقر ونثبت فى أرحام الأمهات ما نشاء إقراره وثبوته فيها من الأجنة والأحمال ، إلى أجل معلوم عندنا . وهو الوقت المحدد للولادة والوضع ، وما لم نشأ إقراره من الحمل لفظته الأرحام وأسقطته ، إذ كل شىء بمشيئتنا وإرادتنا . وقوله - تعالى - { ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً } بيان للطور الخامس من أطوار خلق الإِنسان . أى ثم نخرجكم من أرحام أمهاتكم بعد استقراركم فيها إلى الوقت الذى حددناه ، طفلاً صغيراً . أى أطفالاً صغاراً ، وإنما جاء مفرداً باعتبار إرادة الجنس الشامل للواحد والمتعدد ، او باعتبار كل واحد منهم ، وهو حال من ضمير المخاطبين . ومن الأساليب العربية المعهودة ، أن الاسم المفرد إذا كان اسم جنس . يكثر إطلاقه على الجمع ، ومن ذلك قوله - تعالى - { وَٱجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً } أى أئمة . وقوله - سبحانه - { فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً … } أى أنفسا ، ومن هذا القبيل قول الشاعر @ وكان بنو فزارة شَرَّ عمِّ فكنت لهم كشر بنى الأخينا @@ أى شر أعمام . وقوله تعالى - { ثُمَّ لِتَبْلُغُوۤاْ أَشُدَّكُمْ } بيان للطور السادس ، والأشد قوة الإِنسان وشدته واشتعال حرارته ، من الشدة بمعنى الارتفاع والقوة ، يقال شد النهار إذا ارتفع ، وهو مفرد جاء بصيغة الجمع ، أو جمع لا واحد له ، أو جمع شدة - كأنعم ونعمة - . قال الآلوسى " والجملة علة لنخرجكم ، وهى معطوفة على علة أخرى مناسبة لها . كأنه قيل ثم نخرجكم لتكبروا شيئاً فشيئاً ثم لتبلغوا أشدكم ، أى كمالكم فى القوة والعقل والتمييز … وقيل علة لمحذوف . والتقدير ثم نمهلكم لتبلغوا أشدكم … وتقديم التبيين " لنبين لكم " على ما بعده ، مع أن حصوله بالفعل بعد الكل ، للإِيذان بأنه غاية الغايات ومقصود بالذات . وإعادة اللام فى " لتبلغوا " مع تجريد " نقر ، ونخرج " عنها ، للإِشعار بأصالة البلوغ بالنسبة إلى الإِقرار والإِخراج إذ عليه يدور التكليف المؤدى إلى السعادة والشقاوة " . وقوله - سبحانه - { وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ ٱلْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً } بيان للطور السابع والأخير . أى منكم - أيها الناس - من يبلغ أشده فى هذه الحياة ، ومنكم من يموت قبل ذلك ، ومنكم من يعيش إلى أرذل العمر أى أخسه وأدونه ، فيصير من بعد علمه بالأشياء وفهمه لها ، لا علم له ولا فهم ، شأنه فى ذلك شأن الأطفال . قال - تعالى - { لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ فِيۤ أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ } فالآية الكريمة تصور أطوار خلق الإِنسان ومراحل حياته أكمل تصوير ، للتنبيه على مظاهر قدرة الله - تعالى - وعلى أن البعث حق وصدق . وبعد إقامة هذا الدليل من نفس الإِنسان وتطور خلقه على صحة البعث ، ساق - سبحانه - الدليل الثانى عن طريق مشاهدة الأرض وتنقلها من حال إلى حال ، فقال - تعالى - { وَتَرَى ٱلأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا ٱلْمَآءَ ٱهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } . وقوله { هَامِدَةً } أى يابسة ، يقال همدت الأرض تهمد - بضم الميم - هموداً ، إذا يبست . ومعنى " اهتزت " تحركت ، يقال هز فلان الشىء فاهتز ، إذا حركه فتحرك . ومعنى " ربت " زادت بسبب تداخل الماء والنبات فيها ، يقال ربا الشىء يربو ربوا ، إذا زاد ونما ، ومنه الربا والربوة . أى وترى - أيها العاقل - ببصرك الأرض يابسة لا نبات فيها ، فإذا ما أنزلنا عليها بقدرتنا الماء ، تحركت بسبب خروج النبات منها ، وانتفخت بسبب ما يتخللها من الماء والنبات ، وأنبتت بعد ذلك من كل صنف بهيج نضر حسن المنظر . وشبيه بهذه الآية فى أن إحياء الأرض بعد موتها دليل على إحياء الناس بعد موتهم ، بقدرة الله - تعالى - وإرادته ، قوله - عز وجل - { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى ٱلأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا ٱلْمَآءَ ٱهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ ٱلَّذِيۤ أَحْيَاهَا لَمُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ثم بين - سبحانه - بعد ذلك ما يدل على وحدانيته وقدرته فقال { ذٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ وَأَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } . واسم الإِشارة يعود إلى المذكور من خلق الإِنسان وإحياء الأرض بعد موتها … أى ذلك الذى ذكرناه لكم دليل واضح ، وبرهان قاطع ، على أن الله - تعالى - هو الإله الحق ، الذى يجب أن تخلصوا له العبادة والطاعة ، لأنه هو وحده الخالق لكل شىء ، ولأنه هو وحده الذى يعيد الموتى إلى الحياة ، ولأنه هو وحده الذى لا يعجزه شىء . وخص - سبحانه - إحياء الموتى بالذكر ، مع أن من جملة الأشياء المقدور عليها . للتصريح بما هو محل النزاع وهو البعث ، ولدحض شبه المنكرين له . ثم أكد - سبحانه - ذلك تأكيداً دامغاً فقال { وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ } وما تشتمل عليه من حساب وثواب وعقاب { آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا } أى لا ريب ولا شك فى إتيانها فى الوقت الذى يريده الله - تعالى - . { وَأَنَّ ٱللَّهَ } - تعالى - وحده { يَبْعَثُ مَن فِي ٱلْقُبُورِ } ليحاسبهم على أعمالهم . وبذلك نرى الآيات الكريمة قد أقامت أعظم الأدلة وأوضحها على وحدانية الله - تعالى - وقدرته ، وعلى أن البعث حق وصدق وأنه آت لا ريب فيه . ثم ساقت السورة الكريمة بعد ذلك نموذجين لصنفين من الناس ، أحدهما متكبر مغرور ، والآخر مذبذب لا ثبات له فى عقيدة فقال - تعالى - { ومِنَ ٱلنَّاسِ … } .