Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 23, Ayat: 42-52)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

أى { ثُمَّ أَنشَأْنَا } من بعد قوم نوح وقوم هود { قُرُوناً آخَرِينَ } أى أقواماً آخرين من الناس ، كل قوم كانوا مجتمعين فى زمان واحد ، كقوم صالح ، وقوم لوط ، وقوم شعيب وغيرهم . وقوله عز وجل - { مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ } بيان لمظهر من مظاهر قدرة الله - تعالى - وإحكامه لشئون خلقه … أى ما تسبق أمة من الأمم أجلها الذى قدرناه لها ساعة من الزمان ، ولا تستأخر عنه ساعة ، بل الكل نهلكه ونميته فى الوقت الذى حددناه بقدرتنا وحكمتنا . و " من " فى قوله { مِنْ أُمَّةٍ } مزيدة للتأكيد وفى هذا المعنى قوله - تعالى - { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } ثم بين - سبحانه - على سبيل الإِجمال ، أن حكمته قد اقتضت أن يرسل رسلاً آخرين ، متتابعين فى إرسالهم . كل واحد يأتى فى أعقاب أخيه . ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور . فقال - تعالى - { ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى … } . ولفظ { تَتْرَى } مصدر كدعوى ، وألفه للتأنيث وأصله وَتْرى فقلبت الواو تاء ، وهو منصوب على الحال من رسلنا . أى ثم أرسلنا بعد ذلك رسلنا متواترين متتابعين واحداً بعد الآخر ، مع فترة ومهلة من الزمان بينهما . قال القرطبى ومعنى " تترى " تتواتر ، ويتبع بعضهم بعضاً ترغيباً وترهيباً … قال الأصمعى واترت كتبى عليه ، أتبعت بعضها بعضاً إلى أن بين كل واحد منها وبين الآخر مهلة … وقرأ ابن كثير وأبو عمرو { تَتْرًى } بالتنوين على أنه مصدر أدخل فيه التنوين على فتح الراء ، كقولك حمدًا وشكرًا … ثم بين - سبحانه - موقف كل أمة من رسولها فقال { كُلَّ مَا جَآءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ … } . أى كلما جاء رسول كل أمة إليها ليبلغها رسالة الله - تعالى - وليدعوها إلى عبادته وحده - سبحانه - كذب أهله هذه الأمة هذا الرسول المرسل إليهم . وأعرضوا عنه وآذوه … قال ابن كثير " وقوله { كُلَّ مَا جَآءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ } يعنى جمهورهم وأكثرهم ، كقوله - تعالى - { يٰحَسْرَةً عَلَى ٱلْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } وأضاف - سبحانه - الرسول إلى الأمة ، للإشارة إلى أن كل رسول قد جاء إلى الأمة المرسل إليها . وفى التعبير بقوله { كُلَّ مَا جَآءَ … } إشعار بأنهم قابلوه بالتكذيب . بمجرد مجيئه إليهم ، أى إنهم بادروه بذلك بدون تريث أو تفكر . فماذا كانت عاقبتهم ؟ كانت عاقبتهم كما بينها - سبحانه - فى قوله { فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ } . أى فأتبعنا بعضهم بعضاً فى الهلاك والتدمير ، وجعلناهم بسبب تكذيبهم لرسلهم أحاديث يتحدث الناس بها على سبيل التعجب والتلهى ، ولم يبق بين الناس إلا أخبارهم السيئة . وذكرهم القبيح { فَبُعْداً } وهلاكاً لقوم لا يؤمنون بالحق ، ولا يستجيبون للهدى . قال صاحب الكشاف " وقوله { وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ } أى أخباراً يسمر بها ، ويتعجب منها . والأحاديث تكون اسم جمع للحديث ، ومنه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وتكون جمعاً للأحدوثة التى هى مثل الأضحوكة والألعوبة والأعجوبة . وهى مما يتحدث به الناس تلهياً وتعجباً ، وهو المراد هنا " . ثم ساق - سبحانه - بعد ذلك جانباً من قصة موسى وهارون - عليهما السلام - فقال { ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَٱسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً عَالِينَ } . أى ثم أرسلنا من بعد أولئك الأقوام المهلكين الذين جعلناهم أحاديث { مُوسَىٰ وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا } الدالة على قدرتنا ، وهى الآيات التسع وهى العصا ، واليد ، والسنون ، والبحر ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم . وزودناه مع هذه الآيات العظيمة بسلطان مبين ، أى بحجة قوية واضحة ، تحمل كل عاقل على الإيمان به ، وعلى الاستجابة له . وكان هذا الإرسال منا لموسى وهارون إلى فرعون وملئه ، أى وجهاء قومه وزعمائهم الذين يتبعهم غيرهم . { فَٱسْتَكْبَرُواْ } جميعاً عن الاستماع إلى دعوة موسى وهارون - عليهما السلام - ، { وَكَانُواْ قَوْماً عَالِينَ } أى مغرورين متكبرين ، مسرفين فى البغى والعدوان . ثم بين - سبحانه - مظاهر هذا الغرور والتكبر من فرعون وملئه فقال { فَقَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا } وهما موسى وهارون { وَقَوْمُهُمَا } أى بنو إسرائيل الذين منهم موسى وهارون { لَنَا عَابِدُونَ } أى مسخرون خاضعون منقادون لنا كما ينقاد الخادم لمخدومه . فأنت ترى أن فرعون وملأه ، قد أعرضوا عن دعوة موسى وهارون ، لأنهما - أولاً - بشر مثلهم ، والبشرية - فى زعمهم الفاسد - تتنافى مع الرسالة والنبوة ، ولأنهما - ثانياً - من قوم بمنزلة الخدم لفرعون وحاشيته ، ولا يليق - فى طبعهم المغرور - أن يتبع فرعون وحاشيته من كان من هؤلاء القوم المستضعفين . قال الآلوسى " وقوله { فَقَالُوۤاْ } عطف على { ٱسْتَكْبَرُواْ } وما بينهما اعتراض مقرر للاستكبار ، والمراد فقالوا فيما بينهم … وثنى البشر لأنه يطلق على الواحد كقوله - تعالى - { بَشَراً سَوِيّاً } وعلى الجمع ، كما فى قوله - تعالى - { فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ ٱلبَشَرِ أَحَداً … } ولم يثن { مِثْل } نظرا إلى كونه فى حكم المصدر ، ولو أفرد البشر لصح ، لأنه اسم جنس يطلق على الواحد وغيره ، وكذا لو ثنى المثل ، فإنه جاء مثنى فى قوله { يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ ٱلْعَيْنِ } ومجموعاً كما فى قوله { … ثُمَّ لاَ يَكُونُوۤاْ أَمْثَالَكُم } وهذه القصص - كما ترى - تدل على أن مدار شبه المنكرين للنبوة ، قياس حال الأنبياء على أحوالهم ، بناء على جهلهم بتفاصيل شئون الحقيقة البشرية ، وتباين طبقات أفرادها فى مراقى الكمال … ومن عجب أنهم لم يرضوا للنبوة ببشر ، وقد رضى أكثرهم للإلهية بحجر . … " . ثم بين - سبحانه - سوء عاقبة فرعون وملئه فقال { فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُواْ مِنَ ٱلْمُهْلَكِينَ } . أى فكذب فرعون وأتباعه موسى وهارون - عليهما السلام - فيما جاءا به من عند ربهما - عز وجل - فكانت نتيجة هذا التكذيب أن أغرقنا فرعون ومن معه جميعاً . ثم بين - سبحانه - ما أعطاه لموسى بعد هلاك فرعون وقومه فقال { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ ٱلْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } . والضمير فى قوله - تعالى - { لَعَلَّهُمْ } يعود إلى قوم موسى من بنى إسرائيل . لأنه من المعروف أن التوراة أنزلت على موسى بعد هلاك فرعون وملئه … أى ولقد آتينا موسى - بفضلنا وكرمنا - الكتاب المشتمل على الهداية والإِرشاد ، وهو التوراة ، { لَعَلَّهُمْ } أى بنى إسرائيل { يَهْتَدُونَ } إلى الصراط المستقيم ، بسبب اتباعهم لتعاليمه ، وتمسكهم بأحكامه . فالترجى فى قوله { لَعَلَّهُمْ } إنما هو بالنسبة لهم . وقريب من هذه الآية قوله - تعالى - { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا ٱلْقُرُونَ ٱلأُولَىٰ بَصَآئِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } ثم ساق - سبحانه - ما يدل على كمال قدرته ، حيث أوجد عيسى من غير أب وجعل أمه مريم تلده من غير أن يمسها بشر . فقال - تعالى - { وَجَعَلْنَا ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً … } . أى وجعلنا نبينا عيسى - عليه السلام - ، كما جعلنا أمه مريم ، آية واضحة وحجة عظيمة ، فى الدلالة على قدرتنا النافذة التى لا يعجزها شىء . قال أبو حيان " قوله { وَجَعَلْنَا ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً } أى جعلنا قصتهما ، وهى آية عظمى بمجموعها ، وهى آيات مع التفصيل ، ويحتمل أن يكون حذف من الأول " آية " لدلالة الثانى ، أى وجعلنا ابن مريم آية ، وأمة آية " . وقوله - تعالى - { وَآوَيْنَاهُمَآ إِلَىٰ رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ } بيان لجانب مما أنعم به سبحانه - على عيسى وأمه . والربوة المكان المرتفع من الأرض . وأصلها من قولهم ربا الشىء يربو ، إذا ازداد وارتفع ، ومنه الربا لأنه زيادة أخذت على أصل المال . ومعين اسم مفعول من عانه إذا أدركه وأبصره بعينه ، فالميم زائدة ، وأصله معيون كمبيوع ثم دخله الإعلال . والكلام على حذف مضاف . أى وماء معين . أى ومن مظاهر رعايتنا وإحساننا إلى عيسى وأمه أننا آويناهما وأسكناهما ، وأنزلناهما فى جهة مرتفعة من الأرض ، وهذه الجهة ذات قرار ، أى ذات استقرار لاستوائها وصلاحيتها للسكن لما فيها من الزروع والثمار ، وهى فى الوقت ذاته ينساب الماء الظاهر للعيون فى ربوعها . قالوا والمراد بهذه الربوة بيت المقدس بفلسطين ، أو دمشق ، أو مصر . والمقصود من الآية الكريمة الإشارة إلى إيواء الله - تعالى - لهما ، فى مكان طيب ، ينضر فيه الزرع ، وتطيب فيه الثمار ، ويسيل فيه الماء ويجدان خلال عيشهما به الأمان والراحة . ثم ختم - سبحانه - الحديث عن هؤلاء الأنبياء ، بتوجيه خطاب إلى الرسل جميعاً ، أمرهم فيه بالأكل من الطيبات ، وبالتزود من العمل الصالح ، فقال - تعالى - { يٰأَيُّهَا ٱلرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ ٱلطَّيِّبَاتِ وَٱعْمَلُواْ صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } . ووجه - سبحانه - الخطاب إلى الرسل جميعاً ، مع أن الموجود منهم عند نزول الآية واحد فقط ، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم للدلالة على أن كل رسول أمر فى زمنه بالأكل من الطيبات التى أحلها - تعالى - وبالعمل الصالح . وفى الآية إشارة إلى أن المداومة على الأكل من الطيبات التى أحلها الله ، والتى لا شبهة فيها ، له أثره فى مواظبة الإنسان على العمل الصالح . قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية يأمر الله - تعالى - عباده المرسلين بالأكل من الحلال ، والقيام بالصالح من الأعمال ، فدل هذا على أن الحلال عون على العمل الصالح ، فقام الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - بهذا أتم قيام ، وجمعوا بين كل خير . قولاً وعملاً . ودلالة ونصحاً . ثم ساق - رحمه الله - عدداً من الأحاديث فى هذا المعنى منها أن أم عبد الله - بنت شداد بن أوس - " بعثت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدح لبن عند فطره وهو صائم ، وذلك مع طول النهار وشدة الحر . فرد إليها رسولها أنّى كانت لك الشاة ؟ - أى على أية حال تملكينها - فقالت اشتريتها من مالى ، فشرب منه ، فلما كان من الغد أتته أم عبد الله فقالت له يا رسول الله . بعثتُ إليك بلبن مرثية لك من طول النهار وشدة الحر ، فرددت إلىّ الرسول فيه ؟ فقال لها " بذلك أمرت الرسل . أن لا تأكل إلا طيبًا ولا تعمل إلا صالحاً " . ومنها ما ثبت فى صحيح مسلم ، عن أبى هريرة - رضى الله عنه - قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا أيها الناس ، إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً ، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال { يٰأَيُّهَا ٱلرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ ٱلطَّيِّبَاتِ وَٱعْمَلُواْ صَالِحاً } وقال { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر ، ومطعمه من حرام . ومشربه من حرام ، وملبسه من حرام ، وغذى بالحرام . يمد يديه إلى السماء يارب يا رب فأنى يستحاب لذلك " . وقوله - سبحانه - { إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } تحذير من مخالفة ما أمر به - تعالى . أى إنى بما تعملون - أيها الرسل وأيها الناس - عليم فأجازيكم على هذا العمل بما تستحقون . وقوله - سبحانه - { وَإِنَّ هَـٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً . … } جملة مستأنفة . والمراد بالأمة هنا الشريعة والدين الذى أنزله الله - تعالى - على أنبيائه ورسله ، أى وإن شريعتكم - أيها الرسل - جميعاً هى شريعة واحدة لا تختلف فى أصولها التى تتعلق بالعقائد والعبادات والمعاملات ، وإن اختلفت فى الأحكام الفرعية . وقرأ بعض القراء السبعة { وَأَنَّ هَـٰذِهِ أُمَّتُكُمْ … } بفتح الهمزة ، على أن الآية من جملة ما خوطب به الرسل . والتقدير واعلموا - أيها الرسل - أن ملتكم وشريعتكم ، ملة واحدة ، وشريعة واحدة فى عقائدها وأصول أحكامها . { وَأَنَاْ رَبُّكُمْ } لا شريك لى فى الربوبية { فَٱتَّقُونِ } أى فخافوا عقابى ، واحذروا مخالفة أمرى ، وصونوا أنفسكم من كل ما نهيتكم عنه . ثم بين - سبحانه - بعد ذلك حال المصرين على كفرهم وضلالهم من دعوة الرسل عليهم - الصلاة والسلام - فقال { فَتَقَطَّعُوۤاْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ … } .