Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 23, Ayat: 57-62)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - سبحانه - { إِنَّ ٱلَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيةِ رَبِّهِمْ مُّشْفِقُونَ } بيان للصفة الأولى من صفات هؤلاء المؤمنين الصادقين . والإشفاق هو الخوف من الله - تعالى - والخشية منه - سبحانه - مع شدة الرقة فى القلب وكثرة الخوف من عقابه . أى أنهم من خشية عقابه - عز وجل - حذرون خائفون ، وهذا شأن المؤمنين الصادقين ، كما قال الحسن البصرى إن المؤمن جمع إحساناً وشفقة ، وإن المنافق جمع إساءة وأمنا . وقوله - تعالى - { وَٱلَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ } بيان للصفة الثانية أى أنهم يؤمنون إيماناً راسخاً بجميع آيات الله - سبحانه - الدالة على وحدانيته وقدرته ، سواء أكانت تلك الآيات تنزيلية أم كونية . وقوله - عز وجل - { وَٱلَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ } صفة ثالثة لهم . أى أنهم يخلصون العبادة لله - تعالى - وحده ، ويقصدون بأقوالهم وأعمالهم وجهه الكريم ، فهم بعيدون عن الرياء والمباهاة بطاعاتهم . ثم بين - سبحانه - صفتهم الرابعة فقال { وَٱلَّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ } . قرأ القراء السبعة { يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ } بالمد ، على أنه من الإتيان بمعنى الإِعطاء ، والوجل استشعار الخوف . يقال وَجِل فلان وَجَلاً فهو واجل ، إذا خاف ، أى يعطون ما يعطون من الصدقات وغيرها من ألوان البر ، ومع ذلك فإن قلوبهم خائفة أن لا يقبل منهم هذا العطاء ، لأى سبب من الأسباب فهم كما قال بعض الصالحين لقد أدركنا أقواماً كانوا من حسناتهم أن ترد عليهم ، أشفق منكم على سيئاتكم أن تعذبوا عليها . قال الإمام ابن كثير ما ملخصه أى يعطون العطاء وهم خائفون أن لا يتقبل منهم ، لخوفهم أن يكونوا قد قصروا فى القيام بشروط الإعطاء ، وهذا من باب الإشفاق والاحتياط . كما روى الإمام أحمد عن عائشة أنها قالت " يا رسول الله { وَٱلَّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ } هو الذى يسرق ويزنى ويشرب الخمر ، وهو يخاف الله - عز وجل - ؟ قال " لا يا بنت الصديق ، ولكنه الذى يصلى ويصوم ويتصدق وهو يخاف الله - تعالى - " . ثم قال - رحمه الله - وقد قرأ آخرون { وَٱلَّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ … } من الإتيان . أى يفعلون ما فعلوا وهم خائفون … والمعنى على القراءة الأولى - وهى قراءة الجمهور السبعة وغيرهم - أظهر لأنه قال - بعد ذلك - { أُوْلَـٰئِكَ يُسَارِعُونَ فِي ٱلْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ } فجعلهم من السابقين ، ولو كان المعنى على القراءة الأخرى ، لأوشك أن لا يكونوا من السابقين ، بل من المقتصدين أو المقتصرين . وجملة { وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ } حال من الفاعل فى قوله - تعالى - { يُؤْتُونَ } . وجملة { أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ } تعليلية بتقدير اللام ، وهى متعلقة بقوله { وَجِلَةٌ } . أى وقلوبهم خائفة من عدم القبول لأنهم إلى ربهم راجعون ، فيحاسبهم على بواعث أقوالهم وأعمالهم ، وهم - لقوة إيمانهم - يخشون التقصير فى أى جانب من جوانب طاعتهم له - عز وجل - . وقد جاءت هذه الصفات الكريمة - كما يقول الإمام الرازى - فى نهاية الحسن ، لأن الصفة الأولى دلت على حصول الخوف الشديد الموجب للاحتراز عما لا ينبغى ، والثانية دلت على قوة إيمانهم بآيات ربهم ، والثالثة دلت على شدة إخلاصهم ، والرابعة دلت على أن المستجمع لتلك الصفات يأتى بالطاعات مع الوجل والخوف من التقصير ، وذلك هو نهاية مقامات الصديقين ، رزقنا الله - سبحانه - الوصول إليها . واسم الإشارة فى قوله - تعالى - { أُوْلَـٰئِكَ يُسَارِعُونَ فِي ٱلْخَيْرَاتِ } يعود إلى هؤلاء المؤمنين الموصوفين بتلك الصفات الجليلة . وهذه الجملة خبر عن قوله - تعالى - { إِنَّ ٱلَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيةِ رَبِّهِمْ مُّشْفِقُونَ } وما عطف عليه ، فاسم " إن " أربع موصولات ، وخبرها جملة { أُوْلَـٰئِكَ يُسَارِعُونَ فِي ٱلْخَيْرَاتِ … } . أى أولئك الموصوفون بتلك الصفات ، يبادرون برغبة وسرعة إلى فعل الخيرات ، وإلى الوصول إلى ما يرضى الله - تعالى - { وَهُمْ لَهَا } أى لهذه الخيرات وما يترتب عليها من فوز وفلاح { سَابِقُونَ } لغيرهم . ثم ختم - سبحانه - هذه الآيات الكريمة المشتملة على صفات المؤمنين الصادقين ، ببيان أن هذه الصفات الجليلة لم تكلف أصحابها فوق طاقتهم ، لأن الإيمان الحق إذا خالطت بشاشته القلوب يجعلها لا تحس بالمشقة عند فعل الطاعات ، وإنما يجعلها تحس بالرضا والسعادة والإقدام على فعل الخير بدون تردد ، فقال - تعالى - { وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا … } . أى وقد جرت سنتنا فيما شرعناه لعبادنا من تشريعات ، أننا لا نكلف نفساً من النفوس إلا فى حدود طاقتها وقدرتها . كما قال - تعالى - { لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } والمراد بالكتاب فى قوله - تعالى - { وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِٱلْحَقِّ … } كتاب الأعمال الذى يحصيها الله - تعالى - فيه ويشهد لذلك قوله - سبحانه - { هَـٰذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِٱلْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } وقوله - تعالى - { وَوُضِعَ ٱلْكِتَابُ فَتَرَى ٱلْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ … } والمراد بنطق الكتاب بالحق أن كل ما فيه حق وصدق . أى ولدينا صحائف أعمالكم ، التى سجلها عليكم الكرام الكاتبون ، وفيها جميع أقوالكم وأفعالكم فى الدنيا ، بدون زيادة أو نقصان ، بل هى مشتملة على كل حق وصدق فقد اقتضت حكمتنا وعدالتنا أننا لا نظلم أحداً وإنما نعطى كل إنسان ما يستحقه من خير ، ونعفو عن كثير من الهفوات . وبذلك نرى الآيات الكريمة ، قد مدحت المؤمنين الصادقين ، ووصفتهم بما هم أهله من صفات كريمة . ثم تعود السورة مرة أخرى إلى الحديث عن أحوال الكافرين ، فتوبخهم على استمرارهم فى غفلتهم ، وتصور جزعهم وجؤارهم عند ما ينزل بهم العذاب فتقول { بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي … } .