Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 23, Ayat: 99-111)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - تعالى - { حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ … } بيان لحال الكافرين عندما يدركهم الموت . و " حتى " حرف ابتداء … والمراد بمجىء الموت مجىء علاماته . أى أن هؤلاء الكافرين يستمرون فى لجاجهم وطغيانهم ، حتى إذا فاجأهم الموت ، ونزلت بهم سكراته ، ورأوا مقاعدهم فى النار ، قال كل واحد منهم يا رب ارجعنى إلى الدنيا ، { لَعَلِّيۤ أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ } أى لكى أعمل عملا صالحا فيما تركت خلفى من عمرى فى أيام الدنيا ، بأن أخلص لك العبادة والطاعة وأتبع كل ما جاء به نبيك من أقوال وأفعال . وجاء لفظ { ٱرْجِعُونِ } بصيغة الجمع . لتعظيم شأن المخاطب ، وهو الله - تعالى - واستدرار عطفه - عز وجل - . أو أن هذا الكافر استغاث بالله - تعالى - فقال " رب " ثم وجه خطابه بعد ذلك إلى خزنة النار من الملائكة فقال " ارجعون " . و " لعل " فى قوله تعالى { لَعَلِّيۤ أَعْمَلُ صَالِحاً } للتعليل . أى ارجعون لكى أعمل عملا صالحا . وفى معنى هذه الآية وردت آيات كثيرة ، منها قوله - تعالى - { … وَتَرَى ٱلظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَىٰ مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ } وقوله - سبحانه - { وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ ٱلْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَٱرْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ } ثم بين - سبحانه - الجواب عليهم فقال { كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ } . و " كلا " حرف زجر وردع . والبرزخ الحاجز والحاجب بين الشيئين لكى لا يصل أحدهما إلى الآخر . والمراد بالكلمة ما قاله هذا الكافر . أى رب ارجعون . أى يقال لهذا الكافر النادم كلا ، لا رجوع إلى الدنيا { إِنَّهَا } أى قوله رب ارجعون ، { كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا } ولن تجديه شيئا ، لأنه قالها بعد فوات الأوان لنفعها ، { وَمِن وَرَآئِهِمْ } أى ومن أمام هذا الكافر وأمثاله ، حاجز يحول بينهم وبين الرجوع إلى الدنيا ، وهذا الحاجز مستمر إلى يوم البعث والنشور . فالمراد بالبرزخ تلك المدة التى يقضيها هؤلاء الكافرون منذ موتهم إلى يوم يبعثون . وفى هذه الجملة الكريمة . زجر شديد لهم عن طلب العودة إلى الدنيا . وتيئيس وإقناط لهم من التفكير فى المطالبة بالرجعة ، وتهديد لهم بعذاب القبر إلى يوم القيامة . ثم بين - سبحانه - بعد ذلك أن ما ينفع الناس يوم القيامة إنما هو إيمانهم وعملهم ، لا أحسابهم ولا أنسابهم . فقال - تعالى - { فَإِذَا نُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ } . والأنساب جمع نسب . والمراد به القرابة ، والمراد بالنفخ فى الصور النفخة الثانية التى يقع عندها البعث والنشور . وقيل النفخة الأولى التى عندها يُحِيى الله الموتى . والمراد بنفى الأنساب انقطاع آثارها التى كانت مترتبة عليها فى الدنيا ، من التفاخر بها ، والانتفاع بهذه القرابة فى قضاء الحوائج . أى فإذا نفخ إسرافيل - عليه السلام - فى الصور - وهو آلة نُفَوض هيئتها إلى الله - تعالى - ، فلا أنساب ولا أحساب بين الناس نافعة لهم فى هذا الوقت ، إذ النافع فى ذلك الوقت هو الإِيمان والعمل الصالح . ولا هم يستاءلون فيما بينهم لشدة الهول ، واستيلاء الفزع على النفوس ولا تنافى بين هذه الآية ، وبين قوله - تعالى - { فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ } فإن كل آية تحكى حالة من الحالات ، ويوم القيامة له مواقف متعددة ، فهم لا يتساءلون من شدة الهول فى موقف . ويتساءلون فى آخر عندما يأذن الله - تعالى - لهم بذلك . وقوله - سبحانه - { فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ … } بيان لما يكون بعد النفخ فى الصور من ثواب أو عقاب . أى وجاء وقت الحساب بعد النفخ فى الصور ، { فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ } أى موازين أعماله الصالحة ، { فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } فلاحا ليس بعده فلاح . { وَمَنْ خَفَّتْ } موازين أعماله الصالحة { فأُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنفُسَهُمْ } بأن ضيعوها وألقوا بها إلى التهلكة ، فهم ، { فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ } فيها خلودا أبديا . { تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ ٱلنَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ } واللفح الإحراق الشديد يقال فلان لفحته النار تلفحه لفحا ولفحانا إذا أحرقته . والكلوح ، هو أن تتقلص الشفتان ، وتتكشف الأسنان ، لأن النار قد أحرقت الشفتين ، كما يشاهد - والعياذ بالله - رأس الشاة بعد شويها . أى تحرق النار وجوه هؤلاء الأشقياء ، وهم فيها متقلصو الشفاه عن الأسنان ، من أثر ذلك الإحراق واللفح . ثم يقال لهم بعد كل هذا العذاب المهين على سبيل التقريع والتوبيخ { أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي } الدالة على وحدانيتى وقدرتى وصدق رسلى { تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ } فى الدنيا على ألسنة هؤلاء الرسل الكرام { فَكُنْتُمْ بِهَا } أى بهذه الآيات { تُكَذِّبُونَ } هؤلاء الرسل فيما جاؤوكم به من عندى من هدايات وإرشادات . وكأنهم قد خيل إليهم - بعد هذا السؤال التوبيخى ، أنهم قد أذن لهم فى الكلام ، وأن اعترافهم بذنوبهم قد ينفعهم فيقولون - كما حكى القرآن عنهم - { قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا … } أى يا ربنا تغلبت علينا أنفسنا الأمارة بالسوء ، فصرفتنا عن الحق ، وتغلبت علينا ملذاتنا وشهواتنا وسيئاتنا التى أفضت بنا إلى هذا المصير المؤلم { وَكُنَّا قَوْماً ضَآلِّينَ } عن الهدى والرشاد ، بسبب شقائنا وتعاستنا . { رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا } أى من هذه النار التى تلفح وجوهنا { فَإِنْ عُدْنَا } إلى ما نحن عليه من الكفر وارتكاب السيئات { فَإِنَّا ظَالِمُونَ } أى فإنا متجاوزون لكل حد فى الظلم ، ونستحق بسبب ذلك عذابا اشد مما نحن فيه . وهكذا يصور القرآن بأسلوبه البديع المؤثر ، أحوال الكافرين يوم القيامة ، تصويرا ترتجف له القلوب ، وتهتز منه النفوس ، وتقشعر من هوله الأبدان . وقوله - سبحانه - { قَالَ ٱخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ } جواب على طلبهم الخروج من النار ، والعودة إلى الدنيا . أى قال الله - تعالى - لهم على سبيل الزجر والتيئيس { ٱخْسَئُواْ فِيهَا } اسكتوا وانزجروا انزجار الكلاب ، وامكثوا فى تلك النار { وَلاَ تُكَلِّمُونِ } فى شأن خروجكم منها ، أو فى شأن عودتكم إلى الدنيا . وقوله - تعالى - { إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ … } تعليل لزجرهم عن طلب الخروج أى اخسأوا فى النار ولا تكلمون ، لأنه كان فى الدنيا فريق كبير من عبادى المؤمنين يقولون بإخلاص ورجاء { رَبَّنَآ آمَنَّا } بك واتبعنا رسلك { فَٱغْفِرْ لَنَا } ذنوبنا { وَٱرْحَمْنَا } برحمتك التى وسعت كل شىء { وَأَنتَ خَيْرُ ٱلرَّاحِمِينَ } . وقوله - سبحانه - { فَٱتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً … } هو محط التعليل ، أى فكان حالكم معهم أنكم سخرتم واستهزأتم بهم . { حَتَّىٰ أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي } أى فاتخذتموهم سخريا ، وداومتم على ذلك ، وشغلكم هذا الاستهزاء . حتى أنسوكم - لكثرة انهماككم فى السخرية بهم - تذكر عقابى لكم فى هذا اليوم ، { وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ } فى الدنيا ، وتتغامزون عندما ترونهم استخفافا بهم . فلهذه الأسباب ، اخسأوا فى النار ولا تكلمون ، أما هؤلاء المؤمنون الذين كنتم تستهزئون بهم فى الدنيا . فإنى { جَزَيْتُهُمُ ٱلْيَوْمَ } الجزاء الحسن { بِمَا صَبَرُوۤاْ أَنَّهُمْ هُمُ ٱلْفَآئِزُونَ } فوزا ليس هناك ما هو أكبر منه . وبعد هذا الرد الذى فيه ما فيه من الزجر للكافرين ، وبعد بيان أسبابه ، وما اشتمل عليه من تبكيت وتقريع ، يوجه إليهم - سبحانه - سؤالا يزيدهم حسرة على حسرتهم ، فيقول { قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ … } .