Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 26, Ayat: 18-33)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

أى قال فرعون لموسى بعد أن عرفه ، وبعد أن طلب منه موسى أن يرسل معه بنو إسرائيل . قال له يا موسى { أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً } أى ألم يسبق لك أنك عشت فى منزلنا ، ورعيناك وأنت طفل صغير عندما قالت امرأتى { لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَىٰ أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً … } { وَلَبِثْتَ فِينَا } أى فى كنفنا وتحت سقف بيتنا { مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ } عددا . { وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ ٱلَّتِي فَعَلْتَ } وهى قتلك لرجل من شيعتى { وَأَنتَ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ } . أى وأنت من الجاحدين بعد ذلك لنعمتى التى أنعمتها عليك ، فى حال طفولتك ، وفى حال صباك ، وفى حال شبابك . لأنك جئتنى أنت وأخوك بما يخالف ديننا ، وطلبتما منا أن نرسل معكما بنى إسرائيل . فهل هذا جزاء إحسانى إليك ؟ وهكذا نرى فرعون يوجه إلى موسى - عليه السلام - تلك الأسئلة على سبيل الإِنكار عليه لما جاء به ، متوهما أنه قد قطع عليه طريق الإِجابة . ولكن موسى - عليه السلام - وقد استجاب الله - تعالى - دعاءه ، وأزال عقدة لسانه ، رد عليه ردا حكيما ، فقال - كما حكى القرآن عنه { قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ ٱلضَّالِّينَ } . أى قال موسى فى جوابه على فرعون أنا لا أنكر أنى قد فعلت هذه الفعلة التى تذكرنى بها ، ولكنى فعلتها وأنا فى ذلك الوقت من الضالين ، أى فعلت ذلك قبل أن يشرفنى الله بوحيه ، ويكلفنى بحمل رسالته ، وفضلا عن ذلك فأنا كنت أجهل أن هذه الوكزة تؤدى إلى قتل ذلك الرجل من شيعتك ، لأنى ما قصدت قتله ، وإنما قصدت تأديبه ومنعه من الظلم لغيره . فالمراد بالضلال هنا الجهل بالشىء ، والذهاب عن معرفة حقيقيته . وقوله { فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ } بيان لما ترتب على فعلته التى فعلها . أى وبعد هذه الفعلة التى فعلتها وأنا من الضالين ، توقعت الشر منكم ، ففرت من وجوهكم حين خشيت منكم على نفسى فكانت النتيجة أن وهبنى { رَبِّي حُكْماً } أى علما نافعا { وَجَعَلَنِي مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ } الذين اصطفاهم الله - تعالى - لحمل رسالته والتشرف بنبوته . ثم أضاف موسى - عليه السلام - إلى هذا الرد الملزم فرعون ، ردا آخر أشد إلزاما وتوبيخا فقال { وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ } . واسم الإِشارة { تِلْكَ } يعود إلى التربية المفهومة من قوله - تعالى - قبل ذلك { أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً … الخ } . وقوله { تَمُنُّهَا } من المن بمعنى الإِنعام يقال منّ فلان على فلان منة إذا أنعم عليه بنعمة . وعبدت أى اتخذتهم عبيدا لك تسخرهم لخدمتك . قال الجمل و { تِلْكَ } مبتدأ ، و { نِعْمَةٌ } خبر . و { تَمُنُّهَا } صفة للخير و { أَنْ عَبَّدتَّ } عطف بيان للمبتدأ موضح له . وهذا الكلام من موسى - عليه السلام - يرى بعضهم أنه قال على وجهة الاعتراف له بالنعمة ، فكأنه يقول له تلك التربية التى ربيتها لى نعمة منك على ، ولكن ذلك لا يمنع من أن أكون رسولا من الله - تعالى - إليك ، لكى تقلع عن كفرك ، ولكى ترسل معنا بنى إسرائيل . ويرى آخرون أن هذا الكلام من موسى لفرعون ، إنما قاله على سبيل التهكم به ، والإِنكار عليه فيما امتن به عليه ، فكأنه يقول له إن ما تمنّ به على هو فى الحقيقة نقمة ، وإلا فأية منة لك علىّ فى استعبادك لقومى وأنا واحد منهم ، إن خوف أمى من قتلك لى هو الذى حملها على أن تلقى بى فى البحر ، وتربيتى فى بيتك كانت لأسباب خارجة عن قدرتك … ويبدو لنا أن هذا الرأى أقرب إلى الصواب ، لأنه هو المناسب لسياق القصة ، ولذا قال صاحب الكشاف عند تفسيره لهذه الآية " ثم كر موسى على امتنان فرعون عليه بالتربية فأبطله من أصله ، واستأصله من سِنْخِه - أى من أساسه - ، وأبى أن يسمى نعمته إلا نقمة . حيث بين أن حقيقة إنعامه عليه تعبيد بنى إسرائيل ، لأن تعبيدهم وقصدهم بالذبح لأبنائهم هو السبب فى حصوله عنده وتربيته ، فكأنه امتن عليه بتعبيد قومه ، وتذليلهم واتخاذهم خدما له … " . وبهذا الجواب التوبيخى أفحم موسى - عليه السلام - فرعون . وجعله يحول الحديث عن هذه المسألة التى تتعلق بتربيته لموسى إلى الحديث عن شىء آخر حكاه القرآن فى قوله { قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ } أى قال فرعون لموسى أى شىء رب العالمين الذى أنت وأخوك جئتما لتبلغا رسالته لى ، وما صفته ؟ وهذا السؤال يدل على طغيان فرعون - قبحه الله - وتجاوزه كل حد فى الفجور ، فإن هذا السؤال يحمل فى طياته استنكار أن يكون هناك إله سواه ، كما حكى عنه القرآن فى آية أخرى قوله { وَقَالَ فِرْعَوْنُ يٰأَيُّهَا ٱلْملأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرِي … } فهو ينكر رسالة موسى - عليه السلام - من أساسها . وهنا يرد موسى . بقوله { قَالَ رَبُّ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ } . أى قال موسى ربنا - يا فرعون - هو رب السموات ورب الأرض ، ورب ما بينهما من أجرام وهواء . وإن كنتم موقنين بشىء من الأشياء ، فإيمانكم بهذا الخالق العظيم وإخلاصكم العبادة له أولى من كل يقين سواه . وفى هذا الجواب استصغار لشأن فرعون . وتحقير لمزاعمه ، فكأنه يقول له إن ربنا هو رب هذا الكون الهائل العظيم ، أما ربوبيتك أنت - فمع بطلانها - هى ربوبية لقوم معينين خدعتهم بدعواك الألوهية ، فأطاعوك لسفاهتهم وفسقهم … وهنا يلتفت فرعون إلى من حوله ليشاركوه التعجيب مما قاله موسى وليصرفهم عن التأثر بما سمعوه منه ، فيقول لهم { أَلاَ تَسْتَمِعُونَ } أى ألا تستمعون إلى هذا القول الغريب الذى يقوله موسى . والذى لا عهد لنا به ، ولا قبول عندنا له ولا صبر لنا عليه … ولكن موسى - عليه السلام - لم يمهلهم حتى يردوا على فرعون بل أكد لهم وحدانية الله - تعالى - وهيمنته على هذا الكون { قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ ٱلأَوَّلِينَ } . أى ربنا الذى هو رب السموات والأرض وما بينهما ، هو ربكم أنتم - أيضا - وهو رب آبائكم الأولين ، فكيف تتركون عبادته ، وتعبدون عبدا من عباده ومخلوقا من مخلوقاته هو فرعون ؟ وهنا لم يملك فرعون إلا الرد الدال على إفلاسه وعجزه ، فقال ملتفتا إلى من حوله { إِنَّ رَسُولَكُمُ ٱلَّذِيۤ أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } . أى قال فرعون - على سبيل السخرية بموسى - مخاطبا أشراف قومه إن رسولكم الذى أرسل إليكم بما سمعتم { لَمَجْنُونٌ } لأنه يتكلم بكلام لا تقبله عقولنا ، ولا تصدقه آذاننا وسماه رسولا على سبيل الاستهزاء ، وجعل رسالته إليهم لا إليه ، لأنه - فى زعم نفسه - أكبر من أن يرسل إليه رسول ، ولكى يهيجهم حتى ينكروا على موسى قوله … ولكن موسى - عليه السلام - لم يؤثر ما قاله فرعون فى نفسه ، بل رد عليه وعليهم بكل شجاعة وحزم فقال { رَبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ } . أى قال موسى ربنا رب السموات والأرض وما بينهما . وربكم ورب آبائكم الأولين . ورب المشرق الذى هو جهة طلوع الشمس وطلوع النهار . ورب المغرب الذى هو غروب الشمس وغروب النهار . وخصهما بالذكر . لأنهما من أوضح الأدلة على وحدانية الله - تعالى - وقدرته ولأن فرعون أو غيره من الطغاة لا يجرؤ ولا يملك ادعاء تصريفهما أو التحكم فيهما على تلك الصورة البديعة المطردة . والتى لا اختلال فيها ولا اضطراب … كما قال إبراهيم للذى حاجه فى ربه { إِنَّ ٱللَّهَ يَأْتِي بِٱلشَّمْسِ مِنَ ٱلْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ ٱلْمَغْرِبِ فَبُهِتَ ٱلَّذِي كَفَرَ … } وجملة { إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ } حض لهم على التعقل والتدبر ، وتحذير لهم من التمادى فى الجحود والعناد . أى ربنا وربكم هو رب هذه الكائنات كلها ، فأخلصوا العبادة له ، إن كانت لكم عقول تعقل ما قلته لكم ، وتفهم ما أرشدتكم إليه . وهكذا انتقل بهم موسى من دليل إلى دليل على وحدانية الله وقدرته ، ومن حجة إلى حجة ، ومن أسلوب إلى أسلوب لكى لا يترك مجالا فى عقولهم للتردد فى قبول دعوته . ولكن فرعون - وقد شعر بأن حجة موسى قد ألقمته حجرا انتقل من أسلوب المحاورة فى شأن رسالة موسى إلى التهديد والوعيد - شأن الطغاة عندما يعجزون عن دفع الحجة بالحجة - فقال لموسى عليه السلام - { لَئِنِ ٱتَّخَذْتَ إِلَـٰهَاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ ٱلْمَسْجُونِينَ } . أى قال فرعون لموسى بثورة وغضب لئن اتخذت إلها غيرى يا موسى ليكون معبودا لك من دونى ، لأجعلنك واحدا من جملة المسجونين فى سجنى فهذا شأنى مع كل من يتمرد على عبادتى ، ويخالف أمرى . … قال صاحب الكشاف فإن قلت ألم يكن لأسجننك أخصر من { لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ ٱلْمَسْجُونِينَ } ومؤديا مؤداه ؟ قلت أما كونه أخصر فنعم . وأما كونه مؤديا مؤداه فلا ، لأن معناه " لأجعلنك واحدا ممن عرفت حالهم فى سجونى وكان من عادته أن يأخذ من يريد سجنه فيطرحه فى هوة ذاهبة فى الأرض ، بعيدة العمق . لا يبصر فيها ولا يسمع فكان ذلك أشد من القتل " . ولكن موسى - عليه السلام - لم يخفه هذا التهديد والوعيد . بل رد عليه ردا حكيما فقال له { أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مُّبِينٍ } . والاستفهام للإِنكار ، والواو للعطف على كلام مقدر يستدعيه المقام ، والمعنى . أتفعل ذلك بى بأن تجعلنى من المسجونين ، ولو جئتك بشىء مبين ، يدل دلالة واضحة على صدقى فى رسالتى وعلى أنى رسول من رب العالمين ؟ وعبر عن المعجزة التى أيده الله بها بأنها { شَيءٍ مُّبِينٍ } للتهويل من شأنها ، والتفخيم من أمرها ، ولعل مقصد موسى - عليه السلام - بهذا الكلام ، أن يجر فرعون مرة أخرى إلى الحديث فى شأن الرسالة التى جاءه من أجلها بعد أن رآه يريد أن يحول مجرى الحديث عنها إلى التهديد والوعيد ، وأن يسد منافذ الهروب عليه أمام قومه . ولذا نجد فرعون لا يملك أمام موسى إلى أن يقول له { فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ } . أى فأت بهذا الشىء المبين ، إن كنت - يا موسى - من الصادقين فى كلامك السابق … وهنا كشف موسى - عليه السلام - عما أيده الله - تعالى - به من معجزات حسية خارقة { فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ } على الأرض أمام فرعون وقومه { فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ } . أى فإذا هى حية عظيمة فى غاية الجلاء والوضوح على أنها حية حقيقة ، لا شائبة معها للتخييل أو التمويه كما يفعل السحرة . ولم يكتف موسى بذلك فى الدلالة على صدقه . { وَنَزَعَ يَدَهُ } أى من جيبه { فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ } أى فإذا هى بيضاء بياضا يخالف لون جسمه - عليه السلام - ، فهى تتلألأ كأنها قطعة من القمر ، ولها شعاع يكاد يغشى الأبصار ، وليس فيها ما يشير إلى أن بها سوءاً أو مرضا . وهنا أحس فرعون بالرعب يسرى فى أوصاله ، وبأن ألوهيته المزعومة قد أوشكت على الانشكاف . وبأن معجزة موسى توشك أن تجعل الناس يؤمنون به ، فالتفت إليهم وكأنه يحاول جذبهم إليه ، واستطلاع رأيهم فيما شاهدوه ، ويحكى القرآن ذلك بأسلوبه البليغ فيقول { قَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ … } .