Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 27, Ayat: 15-19)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - سبحانه - { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً } كلام مستأنف مسوق لتقرير قوله - تعالى - { وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى ٱلْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ } إذ القرآن الكريم هو الذى قص الله - تعالى - فيه أخبار السابقين ، بالصدق والحق . وداود هو ابن يسى ، من سبط يهوذا من بنى إسرائيل ، وكانت ولادته فى بيت لحم سنة 1085 ق . م - تقريباً - ، وهو الذى قتل جالوت ، كما قال - تعالى - { فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ ٱللَّهُ ٱلْمُلْكَ وَٱلْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَآءُ … } وكانت وفاته سنة 1000 ق م تقريباً . وسليمان هو ابن داود - عليهما السلام - ولد بأورشليم حوالى سنة 1043 ق م وتوفى سنة 975 ق م . وقد جاء ذكرهما فى سورتى الأنبياء وسبأ وغيرهما . ويعتبر عهدهما أزهى عهود بنى إسرائيل ، فقد أعطاهما الله - تعالى - نعما جليلة . والمعنى والله لقد أعطينا داود وابنه سليمان علما واسعا من عندنا ، ومنحناهما بفضلنا وإحساننا معرفة غزيرة بعلوم الدين والدنيا . أما داود فقد أعطاه - سبحانه - علم الزبور ، فكان يقرؤه بصوت جميل ، كما علمه صناعة الدروع … قال - تعالى - { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يٰجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَٱلطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ ٱلْحَدِيدَ } وأما سليمان فقد آتاه - سبحانه - ملكا لا ينبغى لأحد من بعده ، وعلمه منطق الطير ، ورزق الحكم السديد بين الناس . قال - تعالى - { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً } وقوله - سبحانه - { وَقَالاَ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي فَضَّلَنَا عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } بيان لموقفهما من نعم الله - تعالى - عليهما ، وهو موقف يدل على حسن شكرهما لخالقهما . والواو فى قوله { وَقَالاَ } للعطف على محذوف ، أى آتيناهما علما غزيراً فعملا بمقتضاه وشكرا الله عليه ، وقالا الحمد لله الذى فضلنا بسبب ما آتانا من علم ونعم ، على كثير من عباده المؤمنين ، الذين لم ينالوا ما نلنا من خيره وبره - سبحانه - . قال صاحب الكشاف " وفى الآية دليل على شرف العلم ، وإنافة محله . وتقدم حَمَلَتهِ وأهله ، وأن نعمة العلم من أجل النعم ، وأجزل القسم ، وأن من أوتيه فقد أوتى فضلاً على كثير من عباد الله … " . وفى التعبير بقوله - تعالى - { فَضَّلَنَا عَلَىٰ كَثِيرٍ … } دلالة على حسن أدبهما ، وتواضعهما ، حيث لم يقولا فضلنا على جميع عباده . والمراد بالوراثة فى قوله - تعالى - { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ … } وراثة العلم والنبوة والملك . أى وورث سليمان داود فى نبوته وعلمه وملكه . قال ابن كثير " وقوله { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ } أى فى الملك والنبوة وليس المراد وراثة المال ، إذ لو كان كذلك ، لم يخص سليمان وحده من بين سائر أولاد داود . … ولكن المراد بذلك وراثة الملك والنبوة فإن الأنبياء لا تورث أموالهم ، أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم " نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة " . ثم حكى - سبحانه - ما قاله سليمان على سبيل التحدث بنعم الله عليه ، فقال - تعالى - { وَقَالَ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ ٱلطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ … } . أى وقال سليمان - عليه السلام - على سبيل الشكر لله - تعالى - يأيها الناس علمنا الله - تعالى - بفضله وإحسانه فهم ما يريده كل طائر إذا صوت أو صاح ، وأعطانا - سبحانه - من كل شىء نحتاجه وننتفع به فى ديننا أو دنيانا . وقدم نعمة تعليمه منطق الطير ، لأنها نعمة خاصة لا يشاركه فيها غيره ، وتعتبر من معجزاته - عليه السلام - . وقيل إنه علم منطق جميع الحيوانات ، وإنما ذكر الطير لأنه أظهر فى النعمة ، ولأن الطير كان جندا من جنده ، يسير معه لتظليله من الشمس . قال الآلوسى " والجملتان - علمنا منطق الطير ، وأوتينا من كل شىء - كالشرح للميراث . وعن مقاتل أنه أريد بما أوتيه النبوة والملك وتسخير الجن والإِنس والشياطين والريح . وعن ابن عباس هو ما يريده من أمر الدنيا والآخرة " . وعبر عن نعم الله - تعالى - عليه بنون العظمة فقال { أُوتِينَا } ولم يقل أوتيت ، للإِشعار بأنه عبد من عباد الله المطاعين ، الذين سخر لهم جنوداً من الجن والإِنس والطير ، ليكونوا فى خدمته ، وليستعملهم فى وجوه الخير لا فى وجوه الشر ، فهو لم يقل ذلك على سبيل التباهى والتعالى ، وإنما قاله على سبيل التحدث بنعمة الله . وإسم الإِشارة فى قوله - تعالى - { إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْمُبِينُ } يعود إلى ما أعطاه الله - تعالى - إياه من العلم والملك وغيرهما . أى إن هذا الذى أعطانا إياه من العلم والملك ، وكل شىء تدعو إليه الحاجة ، لهو الفضل الواضح ، والإِحسان الظاهر منه - عز وجل - . ثم تنتقل السورة الكريمة إلى الحديث عن مظاهر ملك سليمان - عليه السلام - فتقول { وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْس وَٱلطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ } . والحشر الجمع . يقال حشر القائد جنده إذا جمعهم لأمر من الأمور التى تهمه . وقوله { يُوزَعُونَ } من الوزع بمعنى الكف والمنع . يقال وزعه عن الظلم وزعا ، إذا كفه عنه . ومنه قول عثمان بن عفان - رضى الله عنه - " إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآ ، " . ومنه قول الشاعر @ ولا يزَعُ النفسَ اللجوجَ عن الهوى من الناس ، إلا وافرُ العقل كامِلهُ @@ والمعنى وجمع لسليمان - عليه السلام - عساكره وجنوده من الجن والإنس والطير { فَهُمْ يُوزَعُونَ } أى فهم محبوسون ومجموعون بنظام وترتيب ، بحيث لا يتجاوز أحدهم مكانه أو منزلته أو وظيفته المسئول عنها . فالتعبير بقوله { يُوزَعُونَ } يشعر بأن هؤلاء الجنود مع كثرتهم ، لهم من يزعهم عن الفوضى والاضطراب ، إذ الوازع فى الحرب ، هو من يدير أمور الجيش ، وينظم صفوفه ، ويرد من شذ من أفراده إلى جادة الصواب . ولقد ذكر بعض المفسرين هنا أقوالاً فى عدد جيش سليمان ، رأينا أن نضرب عنها صفحا ، لضعفها ويكفينا أن نعلم أن الله - تعالى - قد سخر لسليمان جندا من الجن والإِنس والطير ، إلا أن عدد هؤلاء الجنود مرد علمه إلى الله - تعالى - وحده ، وإن كان التعبير القرآنى يشعر بأن هؤلاء الجند المجموعين ، يمثلون موكبا عظيما ، وحشدا كبيرا . ثم حكى - سبحانه - ما قالته نملة عندما رأت هذا الجيش العظيم المنظم ، فقال - تعالى - { حَتَّىٰ إِذَآ أَتَوْا عَلَىٰ وَادِ ٱلنَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يٰأَيُّهَا ٱلنَّمْلُ ٱدْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } . و { حَتَّىٰ } هنا ابتدائية . أى يبتدأ بها الكلام ، وقوله { قَالَتْ نَمْلَةٌ } جواب إذا . وقوله { لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ } من الحطم ، وأصله كسر الشىء … يقال حطم فلان الشىء إذا كسره ، والمراد به هنا الإِهلاك والقتل . والمعنى وحشر لسليمان جنوده ، فسار هؤلاء الجنود فى قوة ونظام ، { حَتَّىٰ إِذَآ أَتَوْا عَلَىٰ وَادِ ٱلنَّمْلِ } أى على مكان يعيش فيه النمل فى مملكة سليمان { قَالَتْ نَمْلَةٌ } على سبيل النصح والتحذير بعد أن رأت سليمان وجنوده { يٰأَيُّهَا ٱلنَّمْلُ ٱدْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ } أى ادخلوا أماكن سكناكم ، وابتعدوا عن طريق هذا الجيش الكبير ، وانجوا بأنفسكم ، كى لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون بكم . قال صاحب الكشاف فإن قلت لم عدى { أَتَوْا } بعلى ؟ قلت يتوجه على معنين أحدهما أن إتيانهم كان من فوق ، فأتى بحرف الاستعلاء … والثانى أن يراد قطع الوادى وبلوغ آخره ، من قولهم أتى على الشىء إذا أنفذه وبلغ آخره … فإن قلت { لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ } ما هو ؟ قلت يحتمل أن يكون جواباً للأمر ، وأن يكون نهيا بدلاً من الأمر . والذى جوز أن يكون بدلاً منه أنه فى معنى لا تكونوا حيث أنتم فيحطمكم ، على طريقة لاأرينك ههنا " . أى لا تحضر ها هنا بحيث أراك . ثم بين - سبحانه - ما فعله سليمان بعد أن أدرك ما قالته النملة لأفراد جنسها ، فقال - تعالى - { فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا } أى فسمع قولها السابق فاهتزت نفسه ، وتبسم ضاحكاً من قولها ، لفظنتها إلى تحذير أبناء جنسها ، ولسروره بما قالته عنه وعن جيشه ، حيث وصفتهم بأنهم لا يقدمون على إهلاك النمل ، إلا بسبب عدم شعورهم بهم . وقوله { ضَاحِكاً } حال مؤكدة لأنه قد فهم الضحك من التبسم . وقيل هو حال مقدرة لأن التبسم أول الضحك . ثم حكى - سبحانه - ما نطق به سليمان بعد ذلك فقال { وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِيۤ أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ … } . أى وقال سليمان يا رب ألهمنى المداومة على شكرك والامتناع عن جحود نعمك ، والكف عن كل ما يؤدى إلى كفران مننك التى أفضتها على وعلى والدى . ووفقنى كذلك لأن { أَعْمَلَ } عملاً { صَالِحاً تَرْضَاهُ } عنى وتقبله منى { وَأَدْخِلْنِي } يا إلهى { بِرَحْمَتِكَ } وإحسانك { فِي عِبَادِكَ ٱلصَّالِحِينَ } الذين رضيت عنهم ورضوا عنك . وهكذا جمع سليمان - عليه السلام - فى هذا الدعاء البليغ المؤثر ، أسمى ألوان الخشية من الله - تعالى - والشكر له - سبحانه - على نعمه ، والرجاء فى رضاه وعطائه الجزيل . ثم تحكى السورة الكريمة بعد ذلك ما دار بين سليمان - عليه السلام - وبين جندى من جنود مملكته وهو الهدهد ، فقال - تعالى - { وَتَفَقَّدَ ٱلطَّيْرَ … } .