Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 27, Ayat: 7-14)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
هذا جانب من قصى موسى - عليه السلام - كما جاءت فى هذه السورة ، وقد جاءت فى سور أخرى بصورة أوسع ، كسور البقرة ، والأعراف ، ويونس ، والشعراء ، والقصص … وقد افتتحت هنا بقوله - تعالى { إِذْ قَالَ مُوسَىٰ لأَهْلِهِ إِنِّيۤ آنَسْتُ نَاراً } . والظرف " إذ " متعلق بمحذوف تقديره اذكر . و " موسى " - عليه السلام - هو ابن عمران ، وينتهى نسبه إلى يعقوب بن إسحاق ابن إبراهيم - عليه السلام - ، وكانت بعثته - على الراجح - فى القرن الحادى عشر أو الثانى عشر قبل الميلاد . والمراد بأهله زوجته ، وهى ابنة الشيخ الكبير الذى قال له - بعد أن سقى لابنتيه غنمهما - { إِنِّيۤ أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ٱبْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَىٰ أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ … } قال الإِمام ابن كثير ما ملخصه " وكان ذلك بعد أن قضى موسى الأجل الذى بينه وبين صهره ، فى رعاية الغنم ، وسار بأهله ، قيل قاصداً بلاد مصر بعد ما طالت الغيبة عنها أكثر من عشر سنين ، ومعه زوجته فأضل الطريق ، وكانت ليلة شاتية ، ونزل منزلاً بين شعاب وجبال … فبينما هو كذلك إذ آنس من جانب الطور ناراً … " . وقوله { آنَسْتُ } من الإِيناس ، بمعنى الإِبصار الواضح الجلى يقال آنس فلان الشىء إذا أبصره وعلمه وأحس به . أى واذكر - أيها الرسول الكريم - وذكر أتباعك ليعتبروا و يتعظوا ، وقت أن قال موسى لأهله ، وهو فى طريقه من جهة مدين إلى مصر . إنى أبصرت - إبصاراً لا شبهة فيه - ناراً . فامكثوا فى مكانكم ، فإنى { سَآتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ } أى سآتيكم من جهتها بخبر ينفعنا فى رحلتنا هذه ، وتسترشد به فى الوصول إلى أهدى الطرق التى توصلنا إلى المكان الذى نريده . و { أَوْ } فى قوله - سبحانه - { آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ } مانعة خلو . قال القرطبى ما ملخصه " قرأ عاصم وحمزة والكسائى { بِشِهَابٍ قَبَسٍ } بتنوين { شِهَابٍ } وقرأ الباقون بدون تنوين على الإِضافة ، أى بشعلة نار ، من إضافة النوع إلى جنسه كخاتم فضة . والشهاب كل ذى نور ، نحو الكواكب ، والعود الموقد . والقبس اسم لما يقتبس من جمر وما أشبهه ، فالمعنى بشهاب من قبس … ومن قرأ { بِشِهَابٍ قَبَسٍ } ، بالتنوين جعله بدلاً منه ، أو صفة له . على تأويله بمعنى المقبوس … " . وقوله { تَصْطَلُونَ } أى تستدفئون ، والاصطلاء الدنو من النار لتدفئة البدن عند الشعور بالبرد . قال الشاعر @ النار فاكهة الشتاء فمن يرد أكل الفواكه شاتياً فليصطل @@ والمعنى قال موسى - عليه السلام - لأهله عندما شاهد النار امكثوا فى مكانكم ، فإنى ذاهب إليها ، لكى آتيكم من جهتها بخبر فى رحلتنا فإن لم يكن ذلك ، فإنى آتيكم بشعلة مقتطعة منها ومقتبسة من أصلها ، لعلم تستدفئون بها فى تلك الليلة الشديدة البرودة . قال صاحب الكشاف " فإن قلت - قوله - تعالى - هنا { سَآتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ } مع قوله - تعالى - فى سورة القصص { لَّعَلِّيۤ آتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ } كالمتدافعين . لأن أحدهما ترج ، والآخر تيقن . قلت قد يقول الراجى إذا قوى رجاؤه سأفعل كذا ، وسيكون كذا ، مع تجويزه الخيبة . فإن قلت كيف جاء بسين التسويف - هنا - ؟ قلت عدة لأهله أنه يأتيهم وإن أبطأ ، أو كانت المسافة بعيدة . فإن قلت فلم جاء بأو دون الواو ؟ قلت بنى الرجاء على أنه إن لم يظفر بحاجتيه جميعاً لم يعدم واحدة منهما إما هداية الطريق ، وإما اقتباس النار ، ثقة بعادة الله أنه لا يكاد يجمع بين حرمانين على عبده … " . ثم بين - سبحانه - ما حدث لموسى عندما اقترب من النار فقال { فَلَمَّا جَآءَهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي ٱلنَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا … } و { أَن } هنا مفسرة ، لما فى النداء من معنى القول . وقوله { بُورِكَ } من البركة ، بمعنى ثبوت الخير وكثرته . والخير هنا يتمثل فى تكليم الله - تعالى - لنبيه موسى . وفى ندائه له . وتشريفه برسالته ، وتأييده بالمعجزات . والمراد بمن فى النار من هو قريب منها ، وهو موسى - عليه السلام - . والمراد بمن حولها الملائكة الحاضرون لهذا النداء ، أو الأماكن المجاورة لها . أى فلما وصل موسى - عليه السلام - إلى القرب من مكان النار ، نودى موسى من قبل الله - عز وجل - على سبيل التكريم والتحية أن قُدس وطهر واختير للرسالة من هو بالقرب منها وهو موسى - عليه السلام - ومن حولها من الملائكة ، أو الأماكن القريبة منها . قال الآلوسى " قوله { مَن فِي ٱلنَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا } ذهب جماعة إلى أن فى الكلام مضافا مقدراً فى موضعين . أى من فى مكان النار ، ومن حول مكانها قالوا ومكانها البقعة التى حصلت فيها ، وهى البقعة المباركة ، المذكورة فى قوله - تعالى - { فَلَمَّآ أَتَاهَا } أى النار - { نُودِيَ مِن شَاطِىءِ ٱلْوَادِي ٱلأَيْمَنِ فِي ٱلْبُقْعَةِ ٱلْمُبَارَكَةِ مِنَ ٱلشَّجَرَةِ … } وقيل من فى النار موسى - عليه السلام - ، ومن حولها الملائكة الحاضرون … وقيل الأول الملائكة ، والثانى موسى ، واستغنى بعضهم عن تقدير المضاف بجعل الظرفية مجازاً عن القرب التام … وأيا ما كان فالمراد بذلك بشارة موسى - عليه السلام - " . وقال الشوكانى " ومذهب المفسرين أن المراد بالنار - هنا - النور " . وقوله - تعالى - { وَسُبْحَانَ ٱللَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } من تتمة النداء ، وخبر منه - تعالى - لموسى بالتنزيه . لئلا يتوهم من سماع كلامه - تعالى - التشبيه بما للبشر من كلام . أى وتنزه الله - عز وجل - وتقدس رب العالمين عن كل سوء ونقص ومماثلة للحوادث . وقوله - سبحانه - { إِنَّهُ أَنَا ٱللَّهُ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } إعلام منه - عز وجل - لعبده موسى بأن المخاطب له ، إنما هو الله - تعالى - الذى عز كل شىء وقهره وغلبه . والذى أحكم كل شء خلقه . والضمير فى قوله { إِنَّهُ } للشأن . وجملة { أَنَا ٱللَّهُ } مبتدأ وخبر والعزيز الحكيم صفتان لذاته - عز وجل - . أى يا موسى إن الحال والشأن إنى أنا الله العزيز الحكيم ، الذى أخاطبك وأناجيك . فتنبه لما سآمرك به . ونفذ ما سأكلفك بفعله . ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك بعض ما أمر به موسى - عليه السلام - فقال { وَأَلْقِ عَصَاكَ } . والجملة الكريمة معطوفة على ما تضمنه النداء . أى نودى أن بورك من فى النار ومن حولها … ونودى أن ألق عصاك التى بيدك . وقوله { فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ وَلَّىٰ مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ … } معطوف على كلام مقدر . أى فاستجاب موسى - عليه السلام - لأمر ربه فألقى عصاه فصارت حية ، فلما رآها تهتز . أى تضطرب وتتحرك بسرعة شديدة حتى لكأنها { جَآنٌّ } فى شدة حركتها وسرعة تقلبها { وَلَّىٰ مُدْبِراً } عنها من الخوف { وَلَمْ يُعَقِّبْ } أى ولم يرجع على عقبه . بل استمر فى إدباره عنها دون أن يفكر فى الرجوع إليها . يقال عقب المقاتل . إذا كر على عدوه بعد الفرار منه . والجان الحية الصغيرة السريعة الحركة . أو الحية الكبيرة ، والمراد هنا التشبيه بها فى شدة الحركة وسرعتها مع عظم حجمها . وإنما ولى موسى مدبراً عنها ، لأنه لم يخطر بباله أن عصاه التى بيده ، يحصل منها ما رآه بعينه ، من تحولها إلى حية تسعى وتضطرب وتتحرك بسرعة كأنها جان ، ومن طبيعة الإِنسان أنه إذا رأى أمرا غريباً اعتراه الخوف منه ، فما بالك بعصا تتحول إلى حية تسعى . ثم بين - سبحانه - ما نادى به موسى على سبيل التثبيت وإدخال الطمأنينة على قلبه ، فقال { يٰمُوسَىٰ لاَ تَخَفْ } . أى فلما ولى موسى ولم يعقب عندما ألقى عصاه فانقلبت حية ، ناداه ربه - تعالى - بقوله { يٰمُوسَىٰ لاَ تَخَفْ } مما رأيت أو من شىء غيرى ما دمت فى حضرتى . وجملة { إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ ٱلْمُرْسَلُونَ } تعليل للنهى عن الخوف ، أى إنى لا يخاف عندى من اخترته لحمل رسالتى ، وتبليغ دعوتى . وقوله - سبحانه - { إِلاَّ مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوۤءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ } استثناء منقطع مما قبله . أى إنى يا موسى لا يخاف لدى المرسلون ، لكن من ظلم وارتكب فعلاً سيئاً من عبادى ، ثم تاب إلى توبة صادقة ، بأن ترك الظلم إلى العدل والشر إلى الخير . والمعصية إلى الطاعة ، فإنى أغفر له ما فرط منه ، لأنى أنا وحدى الواسع المغفرة والرحمة . قال ابن كثير هذا استثناء منقطع ، وفيه بشارة عظيمة للبشر ، وذلك أن من كان على شىء ثم أقلع عنه وتاب وأناب ، فإن الله يتوب عليه ، كما قال - تعالى - { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ ٱهْتَدَىٰ } وقال - تعالى - { وَمَن يَعْمَلْ سُوۤءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ ٱللَّهَ يَجِدِ ٱللَّهَ غَفُوراً رَّحِيماً } وقيل إن الاستثناء متصل ، فيكون المعنى لا يخاف لدى المرسلون ، إلا من ظلم منهم بأن وقع فى الصغائر التى لا يسلم منها أحد ، ثم تاب منها وأقلع عنها ، فإنى غفور رحيم . قال الآلوسى " والظاهر - هنا - انقطاع الاستثناء ، والأوفق بشأن المرسلين ، أن يراد بمن ظلم من ارتكب ذنباً كبيراً أو صغيراً من غيرهم . و { ثُمَّ } يحتمل أن تكون للتراخى الزمانى فتفيد الآية المغفرة لمن بدل على الفور من باب أولى . ويحتمل أن تكون للتراخى الرتبى ، وهو ظاهر بين الظلم والتبديل … " . وعبر - سبحانه - عن ترك الظلم بالتبديل ، للإِشارة إلى الإِقلاع التام عن هذا الظلم ، وإلى أن هذا الظلم قد حل محله العدل والطاعة والانقياد لأمره - تعالى - . ثم أرشد - سبحانه - موسى - عليه السلام - إلى معجزة أخرى . لتكون دليلاً على صدقه فى رسالته إلى من سيرسله إليهم فقال { وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوۤءٍ } . والمراد بجيبه فتحة ثوبه أو قميصه عند مدخل رأسه ، أو عند جانبه الأيمن ، وأصل الجيب القطع . يقال جاب الشىء إذا قطعه . والمعنى وأدخل يا موسى يدك اليمنى فى فتحة ثوبك ، ثم أخرجها تراها تخرج بيضاء من غير سوء . أى تخرج منيرة مشرقة واضحة البياض دون أن يكون بها أى سوء من مرض أو برص أو غيرهما . وإنما يكون بياضها بياضاً مشرقاً مصحوباً بالسلامة بقدرة الله - تعالى - وإرادته . قال الحسن البصرى أخرجها - والله - كأنها مصباح ، فعلم موسى أنه قد لقى ربه . وقوله { تَخْرُجْ } جواب الأمر فى قوله { وَأَدْخِلْ } ، و { بَيْضَآءَ } حال من فاعل تخرج ، و { مِنْ غَيْرِ سُوۤءٍ } يجوز أن يكون حالاً أخرى . أو صفة لبيضاء . والمراد باليد هنا كف يده اليمنى . والسوء الردئ والقبيح من كل شىء ، وهو هنا كناية عن البرص لشدة قبحه . وقوله - تعالى - { فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ } يصح أن يكون حالاً ثالثة من فاعل { تَخْرُجْ } فيكون المعنى وأدخل يا موسى يدك فى جيبك تخرج حالة كونها بيضاء . وحالة كونها من غير سوء ، وحالة كونها مندرجة أو معدودة فى ضمن تسع آيات زودناك بها ، لتكون معجزات لك أمام فرعون وقومه ، على أنك صادق فيما تبلغه عن ربك . قال الجمل " وقوله { فِي تِسْعِ آيَاتٍ } فيه وجوه أحدها أنه حال ثالثة يعنى من فاعل تخرج ، أى آية فى تسع آيات . الثانى أنه متعلق بمحذوف أى اذهب فى تسع آيات … " . والمراد بالآيات التسع التى أعطاها الله - تعالى - لموسى - عليه السلام - العصا ، واليد ، والسنون ، والبحر ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم . كما جاء ذلك عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم . وقد جاء الحديث عن هذه الآيات فى مواضع أخرى من القرآن الكريم منها قوله - تعالى - { فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ } وقوله - سبحانه - { وَلَقَدْ أَخَذْنَآ آلَ فِرْعَونَ بِٱلسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن ٱلثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } وقوله - عز وجل - { فَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنِ ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْبَحْرَ فَٱنفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَٱلطَّوْدِ ٱلْعَظِيمِ } وقال - تعالى - { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلطُّوفَانَ وَٱلْجَرَادَ وَٱلْقُمَّلَ وَٱلضَّفَادِعَ وَٱلدَّمَ … } وتحديد الآيات بالتسع ، لا ينفى أن هناك معجزات أخرى ، أعطاها الله - تعالى - لموسى - عليه السلام - إذ من المعروف عند علماء الأصول أن تحديد العدد بالذكر ، لا يدل على نفى الزائد عنه . قال ابن كثير " ولقد أوتى موسى - عليه السلام - آيات أخرى كثيرة ، منها ضربه الحجر بالعصا ، وخروج الماء منه … وغير ذلك . مما أوتوه بنو إسرائيل بعد خروجهم من مصر . ولكن ذكر هنا هذه الآيات التسع التى شاهدها فرعون وقومه ، وكانت حجة عليهم فخالفوها وعاندوها كفراً وجحوداً . وقوله - تعالى - { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ } استئناف مسوق لبيان سبب إرسال موسى إلى فرعون وقومه . أى هذه الآيات التسع أرسلناك بها يا موسى إلى فرعون وقومه ، لأنهم كانوا قوماً فاسقين عن أمرنا ، وخارجين على شرعنا ، وعابدين لغيرنا من مخلوقاتنا . ثم بين - سبحانه - موقف فرعون وقومه من هذه المعجزات الدالة على صدق موسى فقال { فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُواْ هَـٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ . وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً . فَٱنْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُفْسِدِينَ } . وقوله { مُبْصِرَةً } من الإِبصار والظهور . وهو اسم فاعل بمعنى اسم المفعول ، للإِشعار بشدة وضوحها وإنارتها ، حتى لكأنها تبصر نفسها لو كانت مما يبصر ، كما يقال ماء دافق بمعنى مدفوق . وقوله { وَجَحَدُواْ بِهَا } من الجحود . وهو إنكار الحق مع العلم بأنه حق ، يقال جحد فلان حق غيره ، إذا أنكره مع علمه به . وقوله { وَٱسْتَيْقَنَتْهَآ } من الإِيقان وهو الاعتقاد الجازم الذى لا يطرأ عليه شك وجىء بالسين لزيادة التأكيد . والمعنى وذهب موسى - عليه السلام - ومعه المعجزات الدالة على صدقه ، إلى فرعون وقومه ليدعوهم إلى إخلاص العبادة لله - تعالى - وحده ، فلما جاءهم موسى بتلك المعجزات المضيئة الواضحة للدلالة على صدقه ، قالوا على سبيل العناد والغرور ، هذا الذى نراه منك يا موسى ، سحر بين وظاهر فى كونه سحرا . وجحد فرعون وقومه هذه المعجزات التى جاء بها موسى من عند ربه - تعالى - ، مع أن أنفسهم قد علمت علماً لا شك معه أنها معجزات وليست سحراً ، ولكنهم خالفوا علمهم ويقينهم { ظُلْماً } للآيات حيث أنزلوها عن منزلتها الرفيعة وسموها سحراً { وَعُلُوّاً } أى ترفعا واستكباراً عن الإِيمان بها . { فَٱنْظُرْ } أيها العاقل { كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُفْسِدِينَ } ؟ لقد كانت عاقبتهم أن أغرقهم الله جميعاً ، بسبب كفرهم وظلمهم وجحودهم وفسادهم فى الأرض . وفى التعبير بقوله { فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ آيَاتُنَا … } إشعار بأن هذه الآيات الدالة على صدق موسى - عليه السلام - قد وصلت إليهم بدون أن يتعبوا أنفسهم فى الذهاب إليها ، فهى جاءتهم إلى بيوتهم لكى تهديهم إلى الصراط المستقيم ، ولكنهم قابلوا ذلك بالكفر والجحود . وأسند - سبحانه - المجىء إلى الآيات وأضافها إلى ذاته - تعالى - للإِشارة إلى أنها خارجة عن أن تكون من صنع موسى ، وإنما هى من صنع الله - تعالى - ومن فعله ، و موسى ما هو إلا منفذ لما أمره ربه ، ومؤيد بما منحه إياه من معجزات دالة على صدقه فيما يبلغه عنه . وقوله { ظُلْماً وَعُلُوّاً } منصوبان على أنهما مفعولان لأجله ، أو على أنهما حالان من فاعل جحدوا . أى جحدوا الآيات مع تيقنهم أنها من عند الله ، من أجل الظلم لها والتعالى على من جاء بها ، أو جحدوا بها حالة كونهم ظالمين لها ، ومستكبرين عنها . وفى قوله - سبحانه - { فَٱنْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُفْسِدِينَ } تسلية عظمى للرسول صلى الله عليه وسلم عما أصابه من الكافرين . فهم كانوا كفرعون وقومه فى جحود الحق الذى جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم مع يقينهم بأنه حق ، ولكن حال بينهم وبين الدخول أسباب متعددة ، على رأسها العناد ، والحسد ، والعكوف على ما كان عليه الآباء ، والكراهية لتغيير الأوضاع التى تهواها نفوسهم ، وزينتها لهم شهواتهم . وبعد أن ساق - سبحانه - هذا الجانب من قصة موسى - عليه السلام - ، أتبع ذلك بالحديث عن جانب من النعم التى أنعم بها على نبيين كريمين من أنبيائه ، وهما داود وسليمان - عليهما السلام - فقال - تعالى - { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ … } .