Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 27, Ayat: 59-64)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قال صاحب البحر المحيط لما فرغ - سبحانه - من قصص هذه السورة ، أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بحمده - تعالى - والسلام على المصطفين ، وأخذ فى مباينة واجب الوجود وهو الله - تعالى - ومباينة الأصنام والأديان التى أشركوها مع الله وعبدوها ، وابتدأ فى هذا التقرير لقريش وغيرهم بالحمد لله ، وكأنها صدر خطبة ، لما يلقى من البراهين الدالة على الوحدانية والعلم والقدرة . وقد اقتدى بذلك المسلمون فى تصانيف كتبهم ، وخطبهم ، ووعظهم ، فافتتحوا بتحميد الله ، والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم وتبعهم المتراسلون فى أوائل كتب الفتوح والتهانى والحوادث التى لها شأن . والمعنى قل - أيها الرسول الكريم - للناس { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ } - تعالى - وحده ، فهو - سبحانه - صاحب النعم والمنن على عباده ، وهو - عز وجل - الذى له الخلق والأمر وليس لأحد سواه . وقل - أيضا - { وَسَلاَمٌ عَلَىٰ عِبَادِهِ ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَىٰ } أى أمان وتحية لعباده الذين اصطفاهم واختارهم - سبحانه - لحمل رسالته وتبليغ دعوته ، والاستجابة لأمره ونهيه ، والطاعة له فى السر والعلن . والاستفهام فى قوله { ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ } للإنكار والتقريع ، والألف منقلبة عن همزة الاستفهام . أى وقل لهم - أيها الرسول الكريم - آلله الذى له الخلق والأمر ، والذى أنعم عليكم بالنعم التى لا تحصى ، خير ، أم الآلهة الباطلة التى لا تنفع ولا تضر ، والتى يعبدها المشركون من دون الله - تعالى - . إن كل من عنده عقل ، لا يشك فى أن المستحق للعبادة والطاعة ، هو الله رب العالمين . ولفظ { خَيْرٌ } ليس للتفضيل ، وإنما هو من باب التهكم بهم ، إذ لا خير فى عبادة الأصنام أصلا . وقد حكى عن العرب أنهم يقولون السعادة أحب إليك أم الشقاوة ، مع أنه لا خير فى الشقاوة إطلاقا . قال الآلوسى وقوله { ءَآللَّهُ } بالمد لقلب همزة الاستفهام ألفا ، والأصل أألله ؟ { خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ } والظاهر أن { ما } موصولة ، والعائد محذوف أى آلله الذى ذكرت شئونه العظيمة خير أم الذى يشركونه من الأصنام و { خَيْرٌ } أفعل تفضيل ، ومرجع الترديد إلى التعريض بتبكيت الكفرة من جهته - عز وجل - وتسفيه آرائهم الركيكة ، والتهكم بهم ، إذا من البين أنه ليس فيما أشركوه به - سبحانه - شائبة خير ، حتى يمكن أن يوازن بينه وبين من هو خير محض … ثم ساق - سبحانه - خمس آيات ، وكل آية فيها ما يدل على كمال قدرته وعلمه ، وختم كل آية بقوله { أَإِلَـٰهٌ مَّعَ ٱللَّهِ } ؟ فقال - تعالى - { أَمَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ … } و { أم } هنا منقطعة بمعنى بل الإِضرابية والاستفهام للإِنكار والتوبيخ . أى بل قالوا لنا - إن كنتم تعقلون أيها الضالون - من الذى خلق السموات والأرض ، وأوجدهما على هذا النحو البديع ، والتركيب المحكم . { وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً } وهو المطر ، الذى لا غنى لكم عنه فى شئون حياتكم . { فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ } والحدائق جمع حديقة ، وهى فى الأصل اسم البستان المحاط بالأسوار ، من أحدق بالشىء إذا أحاط به ، ثم توسع فيها فصارت تطلق على كل بستان سواء أكان مسورا بسور أم لا . أى وأنزل - سبحانه - بقدرته من السماء ماء مباركا ، فأنبتنا لكم بسبب هذا الماء حدائق وبساتين وجنات ذات منظر حسن ، يشرح الصدور ، ويدخل السرور على النفوس . وقال - سبحانه - { فَأَنبَتْنَا … } بصيغة الالتفات من الغيبة إلى التكلم . لتأكيد أن القادر على هذا الإنبات هو الله - تعالى - وحده ، وللإِيذان بأن إنبات هذه الحدائق مع اختلاف ألوانها ، وأشجارها ، وطعومها . لا يقدر عليه إلا هو - سبحانه - . ولذا أتبع - عز وجل - هذه الجملة بقوله { مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا } أى ما كان فى إمكانكم - أيها الناس - بحال من الأحوال ، أن تنبتوا أشجار هذه الحدائق ، فضلا عن إيجاد ثمارها ، وإخراجها من العدم إلى الوجود . قال الإِمام الرازى يقال ما حكمة الالتفات فى قوله { فَأَنبَتْنَا … } والجواب أنه لا شبهة فى أن خالق السموات والأرض ، ومنزل الماء من السماء ، ليس إلا الله - تعالى - . ولكن ربما عرضت الشبهة فى أن منبت الشجرة هو الإِنسان ، فإن الإِنسان قد يقول أنا الذى ألقى البذر فى الأرض ، وأسقيها الماء … وفاعل السبب ، فاعل للمسبب ، فأنا المنبت للشجرة … فلما كان هذا الاحتمال قائما . لا جرم أزال - سبحانه - هذا الاحتمال . لأن الإِنسان قد يأتى بالبذر والسقى … ولا يأتى الزرع على وفق مراده … فلهذه النكتة جاء الالتفات … وقوله - تعالى - { أَإِلَـٰهٌ مَّعَ ٱللَّهِ } أى أإله آخر كائن مع الله - تعالى - هو الذى خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء … كلا . لا شريك مع الله - تعالى - فى خلقه وقدرته ، وإيجاده لهذه الكائنات { بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ } . أى بل إن هؤلاء المشركين قوم يعدلون عمدا عن الحق الواضح وهو التوحيد ، إلى الباطل البين وهو الشرك . فقوله { يَعْدِلُونَ } مأخوذ من العدول بمعنى الانحراف عن الحق إلى الباطل . أو من العدل والمساواة ، فيكون المعنى بل هم قوم - لجهلهم - يساوون بالله - تعالى - غيره من آلهتهم . والجملة الكريمة انتقال من تبكيتهم بطريق الخطاب ، إلى توبيخهم ، وتجهيلهم ، وبيان سوء تفكيرهم ، وانطماس بصائرهم . ثم انتقلت السورة الكريمة إلى لفت أنظارهم إلى حقائق كونية أخرى يشاهدونها بأعينهم ، ويحسونها بحواسهم . فقال - تعالى - { أَمَّن جَعَلَ ٱلأَرْضَ قَرَاراً } والقرار المكان الذى يستقر فيه الإِنسان ، ويصلح لبناء حياته عليه . أى بل قولوا لنا - أيها المشركون من الذى جعل هذه الأرض التى تعيشون عليها ، مكانا صالحا لاستقراركم ، ولحرثكم ، ولتبادل المنافع فيما بينكم ، ومن الذى دحاها وسواها وجعلها بهذه الطريقة البديعة . ومن الذى { وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ } أى جعل فيما بينها { أَنْهَاراً } تجرى بين أجزائها ، لتنتفعوا بمياه هذه الأنهار فى شربكم ، وفى غير ذلك من شئون حياتكم . ومن الذى { وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ } أى جعل لصلاح حالها جبالا ثوابت ، تحفظها من أن تضطرب بكم . ومن الذى { جَعَلَ بَيْنَ ٱلْبَحْرَيْنِ } أى جعل بين البحر العذب والبحر الملح { حَاجِزاً } يجعلهما لا يختلطان ولا يمتزجان . ثم يأتى الاستفهام الإِنكارى { أَإِلَـٰهٌ مَّعَ ٱلله } ؟ أى أإله مع الله - تعالى - هو الذى فعل ذلك ؟ كلا ، ليس مع الله - تعالى - آلهة أخرى فعلت ذلك . { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أى بل أكثر هؤلاء المشركين ، لا يعلمون الأمور على وجهها الصحيح ، لجهلهم ، وعكوفهم على ما ورثوه عن آبائهم بدون تفكير أو تدبر . وعبر بأكثرهم ، لأن هناك قلة منهم تعلم الحق ، لكنها تنكره جحودا وعنادا . ثم تنتقل السورة - للمرة الثالثة - إلى لفت أنظارهم إلى الحقيقة التى هم يحسونها فى خاصة أنفسهم ، وفى حنايا قلوبهم فتقول { أَمَّن يُجِيبُ ٱلْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ٱلسُّوۤءَ } . والمضطر اسم مفعول من الاضطرار الذى هو افتعال من الضرورة . والمراد به الإِنسان الذى نزلت به شدة من الشدائد . جعلته يرفع أكف الضراعة إلى الله - تعالى - لكى يكشفها عنه . أى وقولوا لنا - أيها المشركون - من الذين يجيب دعوة الداعى المكروب الذى نزلت به المصائب والرزايا ؟ ومن الذى يكشف عنه وعن غيره السوء والبلاء ؟ إنه الله وحده ، هو الذى يجيب دعاء من التجأ إليه ، وهو وحده - سبحانه - الذى يكشف السوء عن عباده ، على حسب ما تقتضيه إرادته وحكمته . وقولوا لنا - أيضا - من الذى { يَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ ٱلأَرْضِ } أى من الذى يجعلكم يخلف بعضكم بعضا . قرنا بعد قرن وجيلا بعد جيل { أَإِلَـٰهٌ مَّعَ ٱللَّهِ } هو الذى فعل ذلك . كلا ، بل الله وحده - عز وجل - هو الذى يجيب المضطر ، وهو الذى يكشف السوء ، وهو الذى يجعلكم خلفاء الأرض ، ولكنكم { قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } أى ولكنكم زمانا قليلا هو الذى تتذكرون فيه نعم الله - تعالى - عليكم ، ورحمته بكم . وختم - سبحانه - هذه الآية بتلك الجملة الحكيمة ، لأن الإِنسان من شأنه - إلا من عصم الله - أنه يذكر الله - تعالى - عند الشدائد ، وينساه عند الرخاء . وصدق الله إذ يقول { وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى ٱلإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ } ثم انتقلت السورة الكريمة - للمرة الرابعة - إلى لفت أنظارهم إلى نعمه - سبحانه - عليهم فى أسفارهم فقال - تعالى - { أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ } . أى وقولوا لنا - أيها المشركون - من الذى يرشدكم فى أسفاركم إلى المكان الذى تريدون الذهاب إليه ، عندما تلتبس عليكم الطرق ، وأنتم بين ظلمات البحر وأمواجه ، أو وأنتم فى متاهات الأرض وفجاجها . وقولوا لنا { وَمَن يُرْسِلُ ٱلرِّيَاحَ بُشْرَاً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } أى ومن الذى يرسل لكم الرياح لتكون مبشرات بقرب نزول المطر ، الذى هو رحمة من الله - تعالى - لكم ، بعد أن أصابكم اليأس والقنوط ؟ { أَإِلَـٰهٌ مَّعَ ٱللَّهِ } هو الذى فعل ذلك ، كلا ، فما فعل ذلك أحد سواه . وقوله - سبحانه - { تَعَالَى ٱللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } تأكيد لوحدانيته وقدرته وتنزيه له - تعالى - عن الشرك والشركاء . أى تنزه الله وتقدس عن شرك هؤلاء المشركين ، فهو الواحد الأحد فى ذاته ، وفى صفاته ، وفى أفعاله . ثم انتقلت السورة الكريمة - للمرة الخامسة - إلى لفت أنظارهم إلى نعمة أخروية ، بعد أن ساقت ما ساقت من النعم الدنيوية ، فقال - تعالى - { أَمَّن يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ } أى قولوا لنا - أيها المشركون - من الذى فى قدرته أن يوجد الخلق فى الأرحام من نطفة ، ثم يحولها إلى علقة ، ثم إلى مضغة … ثم يعيد هذه المخلوقات جميعها بعد موتها ، إلى الحياة مرة أخرى ؟ لا شك أنه لا يقدر على ذلك أحد سوى الله - تعالى - . ثم قولوا لنا { وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وٱلأَرْضِ } بالمطر والنبات والأموال ، وبغير ذلك من ألوان النعم التى لا تحصى ؟ . { أَإِلَـٰهٌ مَّعَ ٱللَّهِ } هو الذى فعل ذلك ؟ كلا ، لم يفعل ذلك سوى الله - تعالى - وحده ثم لقن الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم الجواب الذى يخرس ألسنتهم عند المعارضة أو المجادلة فقال { قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } . أى قل لهم - أيها الرسول الكريم - عند معارضتهم لك ، أحضروا حجتكم وهاتوا برهانا عقليا أو نقليا ، على أن الله - تعالى - شريكا فى ملكه ، إن كنتم صادقين فيما انغمستم فيه من جهل وشرك وكفر به - عز وجل - . قال الإِمام الرازى ما ملخصه اعلم أنه - تعالى - لما عدد نعم الدنيا ، أتبع ذلك بنعم الآخرة فقال { أَمَّن يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ } ، لأن نعم الله بالثواب لا تتم إلا بالإِعادة بعد الابتداء . فإن قيل كيف قيل لهم { أَمَّن يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ } وهم منكرون للإِعادة ؟ . فالجواب أنهم كانوا معترفين بالابتداء ، ودلالة الابتداء على الإِعادة دلالة ظاهرة قوية ، فلما كان الكلام مقرونا بالدلالة الظاهرة ، صاروا كأنهم لم يبق لهم عذر فى الإِنكار … وبذلك ترى هذه الآيات الكريمة . قد أقامت أوضح الأدلة وأقواها ، على وحدانية الله - تعالى - . وعلى كمال قدرته ، وشمول علمه ، وانفراده بالخلق والتدبير … ثم انتقلت السورة الكريمة بعد ذلك إلى الحديث عن علم الله - تعالى - الذى غيبه عن عباده ، وعن أقوال المشركين فى شأن البعث والحساب ، وعن توجيهات الله - تعالى - لنبيه فى الرد عليهم … فقال - تعالى - { قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن … } .