Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 29, Ayat: 1-7)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

سورة العنكبوت من السور التى افتتحت ببعض حروف التهجى { الۤـمۤ } ، ويبلغ عدد السور التى افتتحت بحروف التهجى ، تسعاً وعشرين سورة . وقد سبق أن قلنا لعل أقرب الأقوال إلى الصواب ، أن هذه الحروف المقطعة قد وردت فى افتتاح بعض السور ، على سبيل الإِيقاظ والتنبيه ، للذين تحداهم القرآن الكريم ، فكأن الله - تعالى - يقول لأولئك العارضين فى أن القرآن من عند الله هاكم القرآن ترونه مؤلفا من كلام هو من جنس ما تؤلفون منه كلامكم ، ومنظوما من حروف هى من جنس الحروف الهجائية التى تنظمون منها حروفكم ، فإن كنتم فى شك من كونه منزلا من عند الله ، فهاتوا مثله ، وادعوا من شئتم من الخلق لكى يعاونكم فى ذلك … والاستفهام فى قوله - سبحانه - { أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُوۤاْ أَن يَقُولُوۤاْ آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } للإِنكار و { حسب } من الحسبان بمعنى الظن . وقوله { يُفْتَنُونَ } من الفتن ، بمعنى الاختبار والامتحان . يقال فتنت الذهب بالنار ، أى أدخلته فيها لتعلم الجيد منه من الخبيث . وجملة " أن يتركوا " سدت مسد مفعولى حسب ، وجملة " أن يقولوا " فى موضع نصب ، على معنى لأن يقولوا ، وهى متعلقة بقوله { يُتْرَكُوۤاْ } . وجملة " وهم لا يفتنون " فى موضع الحال من ضمير " يتركوا " . والمعنى أظن الناس أن يتركوا بدون امتحان ، واختبار ، وابتلاء ، وبدون نزول المصائب بهم ، لأنهم نطقوا بكلمة الإِيمان ؟ إن ظنهم هذا ظن باطل ، ووهم فاسد ، لأن الإِيمان ليس كلمة تقال باللسان فقط ، بل هو عقيدة تكلف صاحبها الكثير من ألوان الابتلاء والاختبار ، عن طريق التعرض لفقد الأموال والأنفس والثمرات ، حتى يتميز قوى الإِيمان من ضعيفه . قال القرطبى والمراد بالناس قوم من المؤمنين كانوا بمكة ، وكان الكفار من قريش يؤذونهم ويعذبونهم على الإِسلام ، كسلمة بن هشام ، وعياش بن ربيعة ، والوليد بن الوليد … فكانت صدورهم تضيق بذلك ، وربما استنكروا أن يمكن الله الكفار من المؤمنين . قال مجاهد وغيره فنزلت هذه الآية مسلية ومعلمة أن هذه هى سيرة الله فى عباده ، اختبار للمؤمنين وفتنة . قال ابن عطية وهذه الآية وإن اكنت نزلت بهذا السبب أو ما فى معناه من الأقوال ، فهى باقية فى أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، موجود حكمها بقية الدهر … وقوله - سبحانه - { وَلَقَدْ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ٱلْكَاذِبِينَ } مؤكد لما قبله من أن ظن الناس أن يتركوا بدون ابتلاء ، لقولهم آمنا ، هذا الظن فى غير محله ، لأن سنة الله قد اقتضت أن يدفع الناس بعضهم ببعض ، وأن يجعل الكافرين يتصارعون مع المؤمنين ، إلا أن العاقبة فى النهاية للمؤمنين . والمقصود بقوله - تعالى - { فَلَيَعْلَمَنَّ … } إظهار علمه - سبحانه - ، أو المجازاة على الأعمال . أى ولقد فتنا الذين من قبل هؤلاء المؤمنين من أصحابك - أيها الرسول الكريم - ، { فَلَيَعْلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ … } أى فليظهرن الله - تعالى - فى عالم الواقع حال الذين صدقوا فى إيمانهم ، من حال الكاذبين منهم ، حتى ينكشف للناس ما هو غائب عن علمهم . أو المعنى ولقد فتنا الذين من قبلهم من المؤمنين السابقين ، كأتباع نوح وهود وصالح وغيرهم ، فليجزين الذين صدقوا في إيمانهم بما يستحقون من ثواب ، وليجزين الكاذبين بما يستحقون من عقاب ، ولترتب المجازاة على العلم ، أقيم السبب مقام المسبب . قال الإِمام ابن جرير قوله { فَلَيَعْلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ … } أى فليعلمن الله الذين صدقوا منهم فى قولهم آمنا ، وليعلمن الكاذبين منهم فى قولهم ذلك ، والله عالم بذلك منهم ، قبل الاختبار ، وفى حال الاختبار ، وبعد الاختبار ، ولكن معنى ذلك وليظهرن الله صدق الصادق منهم فى قوله آمنا بالله ، من كذب الكاذب منهم … وذكر أن هذه الآية نزلت فى قوم من المسلمين ، عذبهم المشركون ، ففتن بعضهم ، وصبر بعضهم على أذاهم ، حتى أتاهم الله بفرج من عنده " . وفى معنى هاتين الآيتين وردت آيات كثيرة منها قوله - تعالى - { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ ٱلصَّابِرِينَ } وقوله - تعالى - { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً … } وقوله - سبحانه - { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ ٱلْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَٱلصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ } وقد ساق الإِمام القرطبى عند تفسيره لهاتين الآيتين من سورة العنكبوت عددا من الأحاديث النبوية ، منها قوله روى البخارى " عن خباب بن الأرت قالوا شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو متوسد بردة له فى ظل الكعبة ، فقلنا له ألا تستنصر لنا ؟ ألا تدعو لنا ؟ فقال " قد كان من قبلكم يؤخذ فيحفر له فى الأرض ، فيجعل فيها ، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه ، فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد لحمه وعظمه ، فما يصرفه ذلك عن دينه ، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ، لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ، ولكنكم تستعجلون " . والخلاصة ، أن المقصود من الآتيين تنبيه الناس فى كل زمان ومكان ، إلى أن ظن بعض الناس أن الإِيمان يتعارض مع الابتلاء بالبأساء والضراء ، ظن خاطئ ، وإلى أن هذا الابتلاء سُنة ماضية فى السابقين وفى اللاحقين إلى يوم القيامة . ثم بين - سبحانه - أن عقابه للمرتكبين السيئات واقع بهم ، وأنهم إذا ظنوا خلاف ذلك ، فظنهم من باب الظنون السيئة القبيحة ، فقال - تعالى - { أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } . و " أم " هنا منقطعة بمعنى بل ، والاستفهام للإِنكار والتوبيخ ، وقوله { أَن يَسْبِقُونَا } سد مسد مفعولى حسب ، وأصل السبق الفوت والتقدم على الغير . والمراد به هنا التعجيز ، والمعنى بل أحسب الذين يعملون الأعمال السيئات كالكفر والمعاصى ، " أن يسبقونا " أى أن يعجزونا فلا نقدر على عقابهم ، أو أن فى إمكانهم أن يهربوا من حسابنا لهم ؟ إن كانوا يظنون ذلك فقد { سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } أى بئس الظن ظنهم هذا ، وبئس الحكم حكمهم على الأمور . ثم ساق - سبحانه - بعد ذلك ما يدخل السرور والاطمئنان على قلوب عباده المؤمنين الصادقين فقال - تعالى - { مَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ ٱللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ ٱللَّهِ لآتٍ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } أى من كان من الناس يرجو لقاء الله - تعالى - يوم القيامة لقاء يسره ويرضيه ، ويطمعه فى ثوابه وعطائه ، فليثبت على إيمانه ، وليواظب على العمل الصالح ، { فَإِنَّ أَجَلَ ٱللَّهِ لآتٍ } . أى فإن الأجل الذى حدده الله - تعالى - لموت كل نفس وللبعث والحساب ، لآت لا محالة فى وقته الذى حدده - سبحانه - " وهو السميع " لأقوال خلقه " العليم " بما يخفونه وما يعلنونه . فالرجاء فى لقاء الله ، بمعنى الطمع فى ثوابه ، ومنهم من فسره بمعنى الخوف من حسابه - سبحانه - . قال صاحب الكشاف لقاء الله مثل للوصول إلى العاقبة ، من تلقى ملك الموت ، البعث ، والحساب ، والجزاء ، مثلت تلك الحال بحال عبد قدم على سيده بعد عهد طويل ، وقد اطلع مولاه على ما كان يأتى ويذر ، فإما أن يلقاه ببشر وترحيب ، لما رضى من أفعاله ، أو بضد ذلك لما سخطه منها … وقيل " يرجو " يخاف ، كما فى قول الشاعر @ إذا لسعته الدبر لم يرج لسعها … " أي إذا لسعته النحل لم يخف لسعها @@ وعلى كلا التفسرين للرجاء . فإن الآية الكريمة تبشر المؤمنين بما يدخل السرور على نفوسهم ، وتعدهم بأنهم متى ثبتوا على إيمانهم ، وأحسنوا أعمالهم ، فإن ثوابهم سيظفرون به كاملا غير منقوص ، بفضل الله وإحسانه . وقوله - سبحانه - { وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ } معطوف على ما قبله ، ومؤكد لمضمونه . أى ومن جاهد فى طاعة الله ، وفى سبيل إعلاء كلمته ، ونصرة دينه ، فإنما يعود ثواب جهاده ونفعه لنفسه لا لغيره . { إِنَّ ٱللَّهَ } - تعالى - { لَغَنِيٌّ عَنِ ٱلْعَالَمِينَ } جميعا ، لأنه - سبحانه - لا تنفعه طاعة مطيع ، كما لا تضره معصية عاص ، وإنما لنفسه يعود ثواب المطيع وعليها يرجع عقاب المسئ . ثم وضح - سبحانه - ما أعده للمؤمنين الصادقين من ثواب جزيل فقال { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ … } أى لنسترن عنهم سيئاتهم ، ولنزيلنها - بفضلنا وإحساننا - من صحائف أعمالهم . ثم بعد ذلك { وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ ٱلَّذِي كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أى ولنجزينهم بأحسن الجزاء على أعمالهم الصالحة التى كانوا يعملونها فى الدنيا ، بأن نعطيهم على الحسنة عشر أمثالها . قال الجمل ما ملخصه قوله { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ … } يجوز أن يكون مرفوعا بالابتداء ، والخبر جملة القسم المذحوفة ، وجوابها أى والله لنكفرن . ويجوز أن يكون منصوبا بفعل مضمر على الاشتغال . أى ونخلص الذين آمنوا من سيئاتهم … وقال { أَحْسَنَ } لأنه سبحانه إذا جازاهم بالأحسن ، جازاهم بما هو دونه . فهو من التنبيه على الأدنى بالأعلى " . ثم بين - سبحانه - أن طاعة الله - تعالى - يجب أن تقدم على كل طاعة . فقال { وَوَصَّيْنَا ٱلإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ … فِي ٱلصَّالِحِينَ } .