Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 31, Ayat: 12-19)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قال ابن كثير - رحمه الله - اختلف السلف فى لقمان ، هل كان نبيا أو عبدا صالحا من غير نبوة ؟ والأكثرون على أنه لم يكن نبيا . وعن ابن عباس وغيره كان لقمان عبدا حبشا نجارا … قال له مولاه اذبح لنا شاة وجئنى بأخبث ما فيها ؟ فذبحها وجهاءه بلسانها وقلبها . ثم قال له مرة ثانية اذبح لنا شاة وجئنى بأحسن ما فيها ؟ فذبحها وجاءه - أيضاً بقلبها ولسانها ، فقال له مولاه ما هذا ؟ فقال لقمان إنه ليس من شئ أطيب منهما إذا طابا ، وليس من شئ أخبث منها إذا خبثا . وقال له رجل ألست عبد فلان ؟ فما الذى بلغ بك ما أرى من الحكمة ؟ فقال لقمان قدر الله وأداء الأمانة ، وصدق الحديث ، وتركى مالا يعنينى . ومن أقواله لابنه يا بنى اتخذ تقوى الله لك تجارة ، يأتك الربح من غير بضاعة . يا بنى ، لا تكن أعجز من هذا الديك الذى يصوت بالأسحار ، وأنت نائم على فراشك ، با بنى ، اعتزل الشر كما يعتزلك ، فإن الشر للشر خلق . يا بنى ، عليك بمجالس العلماء ، وبسماع كلام الحكماء ، فإن الله - تعالى - يحيى القلب الميت بنور الحكمة . يا بنى ، إنك منذ نزلت الدنيا استدبرتها ، واستقبلت الآخرة ، ودار أنت إليها تسير ، أقرب من دار أنت عنها ترتحل … وقال الآلوسى ما ملخصه ولقمان اسم أعجمى لا عربى وهو ابن باعوراء . قيل كان فى زمان داود - عليه السلام - وقيل كان زمانه بين عيسى وبين محمد - عليهما الصلاة والسلام - . ثم قال الآلوسى وإنى اختار أنه كان رجلا صالحا حكيما ، ولم يكن نبيا . وقوله - سبحانه - { وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ ٱلْحِكْمَةَ … } كلام مستانف مسوق لإِبطال الإِشراك بالله - تعالى - عن طرق النقل ، بعد بيان إبطاله عن طريق العقل ، فى قوله - سبحانه - قبل ذلك { هَـٰذَا خَلْقُ ٱللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ ٱلَّذِينَ مِن دُونِهِ … } والحكمة اكتساب العلم النافع والعمل به . و هى العقل والفهم . أو هى الإِصابة فى القول والعمل . والمعنى والله لقد أعطينا - بفضلنا وإحساننا - عبدنا لقمان العلم النافع والعمل به . وقوله - سبحانه - { أَنِ ٱشْكُرْ للَّهِ } بيان لما يقتضيه إعطاء الحكمة . أى أتيناه الحكمة وقلنا له أن اشكر لله على ما أعطاك من نعم لكى يزيدك منها . قال الشوكانى قوله { أَنِ ٱشْكُرْ للَّهِ } أن هى المفسرة لأن فى إيتاء الحكمة معنى القول . وقيل التقدير قلنا له أن اشكر لى … وقيل بأن اشكر لى فشكر ، فكان حكيما بشكره . والشكر لله الثناء عليه فى مقابلة النعمة - واستعمالها فيما خلقت له - ، وطاعته فيما أمر به . ثم بين - سبحانه - حسن عاقبة الشكر وسوء عاقبة الجحود فقال { وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } . أى ومن يشكر الله - تعالى - على نعمه ، فإن نفع شكره إنما يعود إليه ، ومن جحد نعم الله - تعالى - واستحب الكفر على الإِيمان ، فالله - تعالى - غنى عنه وعن غيره ، حقيق بالحمد من سائر خلقه لإِنعامه عليهم بالنعم التى لا تعد ولا تحصى فحميد بمعنى محمود . فالجملة الكريمة المقصود بها ، بيان غنى الله - تعالى - عن خلقه ، وعدم انتفاعه بطاعتهم ، لأن منفعتها راجعة إليهم ، وعدم تضرره بمعصيتهم . وإنما ضرر ذلك يعود عليهم . وعبر - سبحانه - فى جانب الشكر بالفعل المضارع ، للإِشارة إلى أن من شأن الشاكرين أنهم دائما على تذكر لنعم الله - تعالى - ، وإذا ما غفلوا عن ذلك لفترة من الوقت ، عادوا إلى طاعته - سبحانه - وشكره . وعبر فى جانب الكفر بالفعل الماضى ، للإِشعار بأنه لا يصح ولا ينبغى من أى عاقل ، بل كل عاقل عليه أن يهجر ذلك هجرا تاما ، وأن يجعله فى خبر كان . وجواب الشرط محذوف ، وقد قام مقامه قوله - تعالى - { فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } والتقدير ومن كفر فضرر كفره راجع إليه . لأن الله - تعالى - غنى حميد . ثم حكى - سبحانه - ما قاله لقمان لابنه على سبيل النصيحة والإِرشاد فقال - تعالى - { وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يٰبُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِٱللَّهِ إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } . وقوله { يَعِظُهُ } من الوعظ ، وهو الزجر المقترن بالتخويف . وقيل هو التذكير بوجوه الخير بأسلوب يرق له القلب . قالوا واسم ابنه " ثاران " أو " ماثان " أى واذكر - أيها العاقل - لتعتبر وتنتفع ، وقت أن قال لقمان لابنه وهو يعظه ، ويرشده إلى وجوه الخير بألطف عبارة ، يا نبى { لاَ تُشْرِكْ بِٱللَّهِ } - تعالى - لا فى عبادتك ولا فى قولك ، ولا فى عملك ، بل أخلص كل ذلك لخالقكم - عز وجل - . وفى ندائه بلفظ { يٰبُنَيَّ } إشفاق عليه . ومحبة له ، فالمراد بالتصغير إظهار الحنو عليه ، والحرص على منفعته . قيل وكان ابنه كافرا فما زال يعظه حتى أسلم . وقيل بل كان مسلما ، والنهى عن الشرك المقصود به ، المدوامة على ما هو عليه من إيمان وطاعة لله رب العالمين . وجملة { إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } تعليل للنهى . أى يا بنى حذار أن تشرك بالله فى قولك أو فعلك ، إن الشرك بالله - تعالى - لظلم عظيم ، لأنه وضع للأمور فى غير موضعها الصحيح ، وتسوية فى العبادة بين الخالق والمخلوق . وقوله - تعالى - { وَوَصَّيْنَا ٱلإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ … } كلام مستأنف ، جئ به على سبيل الاعتراض فى أثناء وصية لقمان لابنه ، لبيان سمو منزلة الوالدين ، ولأن القرآن كثيرا ما يقرن بين الأمر بوحدانية الله - تعالى ، والأمر بالإِحسان إلى الوالدين . ومن ذلك قوله - تعالى { وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } وقوله - عز وجل - { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً … } أى أمرنا كل إنسان أن يكون بارا بأبويه ، وأن يحسن إليهما ، وأن يطيع أمرهما فى المعروف . ثم بين - سبحانه - ما بذلته الأم من جهد يوجب الإِحسان إليها فقال { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَىٰ وَهْنٍ } أى حملته أمه فى بطنها وهى تزداد فى كل يوم ضعفا على ضعف ، بسبب زيادة وزنه ، وكبر حجمه ، وتعرضها لألوان من التعب خلال حمله ووضعه . والوهن الضعف . يقال وهن فلان يهن وهنا إذا ضعف . ولفظ " وهنا " حال من أمه بتقدير مضاف . أى حملته أمه ذات وهن ، أو مصدر مؤكد لفعل هو الحال . أى تهن وهنا . وقوله { عَلَىٰ وَهْنٍ } متعلق بمحذوف صفة للمصدر . أى وهنا كائنا على وهن . وقوله { وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } بيان لمدة إرضاعه . والفصال الفطام عن الرضاع . أى وفطام المولود عن الرضاعة يتم بانقضاء عامين من ولادته ، كما قال - تعالى - { وَٱلْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ ٱلرَّضَاعَةَ … } وهاتان الجملتان { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } جاءتا بعد الوصية بالوالدين عموما ، تأكيدا لحق الأم ، وبيانا لما تبذله من جهد شاق فى سبيل أولادها ، تستحق من أجله كل رعاية وتكريم وإحسان . قال صاحب الكشاف فإن قلت فقوله { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } كيف اعترض به بين المفسر والمفسر ؟ قلت لما وصى بالوالدين ذكر ما تكابده الأم وتعانيه من المشاق والمتاعب فى حمله وفصاله هذه المدة المتطاولة ، إيجابا للتوصية بالوالدة خصوصا وتذكيرا بحقها العظيم مفردا ، ومن ثم " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن قال له من أبر ؟ قال " أمك ثم أمك ثم أمك ، ثم قال بعد ذلك " ثم أباك " . وقوله - سبحانه - { أَنِ ٱشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ ٱلْمَصِيرُ } بيان لما تستلزمه الوصية بالوالدين أى وصينا الإِنسان بوالديه حسنا ، وقلنا له اشكر لخالقكم فضله عليك ، بأن تخلص له العبادة والطاعة ، واشكر لوالديك ما تحملاه من أجلك من تعب ، بأن تحسن إليهما ، واعلم أن مصيرك إلى خالقك - عز وجل - وسيحاسبك على أعمالك ، وسيجازيك عليها بما تستحقه من ثواب أو عقاب . ثم بين - سبحانه - حدود الطاعة للوالدين فقال { وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا } … والجملة الكريمة معطوفة على قوله { وَوَصَّيْنَا … } بإضمار القول . أى ووصينا الإِنسان بوالديه . وقلنا له { وَإِن جَاهَدَاكَ } أى وإن حملاك { عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي } فى العبادة أو الطاعة ، { مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا } فى ذلك ، فإنه لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق . وجملة { مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } لبيان الواقع ، فلا مفهوم لها ، إذ ليس هناك من إله يعلم سوى الله - عز وجل - . ثم أمر - سبحانه - بمصاحبتهما بالمعروف حتى مع كفرهما فقال { وَصَاحِبْهُمَا فِي ٱلدُّنْيَا مَعْرُوفاً } . أى إن حملاك على الشرك . فلا تطعهما ، ومع ذلك فصاحبهما فى الأمور الدنيوية التى لا تتعلق بالدين مصاحبة كريمة حسنة ، يرتضيها الشرع ، وتقضيها مكارم الأخلاق . وقوله { مَعْرُوفاً } صفة لمصدر محذوف . أى صحابا معروفا . أو منصوب بنزع الخافض . أى بالمعروف . ثم أرشد - سبحانه - إلى وجوب اتباع أهل الحق فقال { وَٱتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ … } . أى واتبع - أيها العاقل طريق الصالحين من عبادى ، الذين رجعوا إلي بالتوبة والإِنابة والطاعة والإِخلاص . { ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ } جميعا يوم القيامة - أيها الناس - { فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } فى الدنيا ، وأجازى كل إنسان على حسب عمله { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } قال القرطبى ما ملخصه وهاتان الآيتان نزلتا فى شأن سعد بن أبى وقاص لما أسلم ، وأن أمه حلفت أن لا تأكل طعاما حتى تموت … وفيهما دليل على صلة الأبوين الكافرين ، بما أمكن من المال إن كانا فقيرين … " وقد قالت أسماء بنت أبى بكر الصديق ، للنبى صلى الله عليه وسلم وقد قدمت عليها خالتها وقيل أمها من الراضعة يا رسول الله ، إن أمى قدمت على وهى راغبة أفاصلها ؟ قال " نعم " وراغبة قيل معناه عن الإِسلام ، أو راغبة فى الصلة . ثم ذكر - سبحانه - بقية الوصايا التى أوصى بها لقمان ابنه فقال { يٰبُنَيَّ إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ أَوْ فِي ٱلأَرْضِ يَأْتِ بِهَا ٱللَّهُ } … والضمير فى قوله { إِنَّهَآ } يعود إلى الفعلة التى يفعلها من خير أو شر . و { تَكُ } مجزوم بسكون النون المحذوفة ، وهو فعل الشرط . والجواب { يَأْتِ بِهَا ٱللَّهُ } والمثقال أقل ما يوزن به الشئ . والخردل فى غاية الصغر الدقة . والمعنى يا بنى إن ما تفعله من حسنة أو سيئة ، سواء أكان فى نهاية القلة والصغر ، كمثال حبة من خردل ، أم كان هذا الشئ القليل مخبوءا فى صخرة من الصخور الملقاة فى فجاد الأرض ، أم كان فى السماوات أم فى الأرض ، فإن الله - تعالى - يعلمه ويحضره ويجازى عليه { إِنَّ ٱللَّهَ } - تعالى - لطيف خبير أى محيط بجميع الأشياء جليلها وحقيرها ، عظيمها وصغيرها . فالمقصود من الآية الكريمة ، غرس الهيبة والخشية والمراقبة لله - تعالى - سبحانه - لا يخفى عليه شئ فى هذا الكون ، مهما دق وقل وتخفى فى أعماق الأرض أو السماء . وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - { وَنَضَعُ ٱلْمَوَازِينَ ٱلْقِسْطَ لِيَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ } ثم أمره بالمحافظة على الصلاة وبالأمر بالمعروف ، وبالنهى عن المنكر وبالصبر على الأذى ، فقال { يٰبُنَيَّ أَقِمِ ٱلصَّلاَةَ } أى واظب على أدائها فى أوقاتها بخشوع وإخلاص لله رب العالمين . { وَأْمُرْ بِٱلْمَعْرُوفِ } أى بكل ما حض الشرع على قوله أو فعله { وَٱنْهَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ } أى عن كل ما نهى الشرع عن قوله أو فعله . { وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَآ أَصَابَكَ } من الأذى ، فإن الحياة مليئة بالشدائد والمحن والراحة إنما هى فى الجنة فقط . واسم الإِشارة فى قوله { أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ } يعود إلى الطاعات المذكورة قبله . وعزم الأمور أعاليها ومكارمها . أو المراد بها ما أوجبه الله - تعالى - على الإِنسان . قال صاحب الكشاف { إِنَّ ذَلِكَ } مما عزمه الله من الأمور ، أى قطعه قطع إيجاب وإلزام … ومنه الحديث " إن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ بعزائمه " ومنه عزمات الملوك ، وذلك أن يقول الملك لبعض من تحت يده ، عزمت عليك إلا فعلت كذا . فإذا قال ذلك لم يكن للمعزوم عليه بد من فعله ، ولا مندوحة فى تركه . وناهيك بهذه الآية مؤذنة بقدم هذه الطاعات ، وأنها كانت مأمورا بها فى سائر الأمم ، وأن الصلاة لم تزل عظيمة الشأن ، سابقة القدم على ما سواها . ثم نهاه عن التكبر والغرور والتعالى على الناس فقال { وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ … } . والصعر فى الأصل مرض يصب البعير فيجعله معوج العنق ، والمراد به هنا ، التكبر واحتقار الناس ، ومنه قول الشاعر @ وكنا إذا الجبَّار صعر خده مشينا إليه بالسيوف نعاتبه @@ أى ولا تمل صفحة وجهك عن الناس ، ولا تتعالى عليهم كما يفعل المتكبرون والمغرورون ، بل كن هينا لينا متواضعا ، كما هو شأن العقلاء … { وَلاَ تَمْشِ فِي ٱلأَرْضِ مَرَحاً } أى ولا تمش فى الأرض مشية المختالين المعجبين بأنفسهم . و { مَرَحاً } مصدر وقع موقع الحال على سبيل المبالغة ، أو هو مفعول مطلق لفعل محذوف . أى تمرح مرحا . والجملة فى موضع الحال . أو مفعول لأجله . أى من أجل المرح . وقوله { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } تعليل لنهى . والمختال المتكبر الذى يختال فى مشيته ، ومنه قولهم فلان يمشى الخيلاء ، أى يمشى مشية المغرور المعجب بنفسه . والفخور المتباهى على الناس بماله أو جاهة أو منصبه … يقال فخر فلان - كمنع - فهو فاخر وفخور ، إذا تفاخر بما عنده على الناس ، على سبيل التطاول عليهم ، والتنقيص من شأنهم . أى إن الله - تعالى - لا يحب من كان متكبرا على الناس ، متفاخرا بماله أو جاهه . ثم أمر بالقصد والاعتدال فى كل أموره فقال { وَٱقْصِدْ فِي مَشْيِكَ } أى وكن معتدلا فى مشيك ، بحيث لا تطبئ ولا تسرع . من القصد وهو التوسط فى الأمور . { وَٱغْضُضْ مِن صَوْتِكَ } واخفض من صوتك فلا ترفعه إلا إذا استدعى الأمر رفعه ، فإن غض الصوت عند المحادثة فيه أدب وثقة بالنفس ، واطمئنان إلى صدق الحديث واستقامته . وكان أهل الجاهلية يتفاخرون بجهارة الصوت وارتفاعه ، فنهى المؤمنون عن ذلك ، ومدح - سبحانه - الذين يخفضون أصواتهم فى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱمْتَحَنَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } وقوله - تعالى - { إِنَّ أَنكَرَ ٱلأَصْوَاتِ لَصَوْتُ ٱلْحَمِيرِ } تعليل للأمر بخفض الصوت ، وللنهى عن رفعه بدون موجب . أى إن أقبح الأصوت وأبشعها لهو صوت الحمير ، فالجملة الكريمة حض على غض الصوت بأبلغ وجه وآكده ، حيث شبه - سبحانه الرافعين لأصواتهم فى غير حاجة إلى ذلك ، بأصوات الحمير التى هى مثار السخرية مع النفور منها . وهكذا نجد أن لقمان قد أوصى ابنه بجملة من الوصايا السامية النافعة ، فقد أمره - أولا - بإخلاص العبادة لله - تعالى - ثم غرس فى قلبه الخوف من الله - عز وجل - ، ثم حضه على إقامة الصلاة ، وعلى الأمر بالمعروف ، والنهى عن المنكر ، وعلى الصبر على الأذى ، ثم نهاه عن الغرور والتكبر والافتخار ، وعن رفع الصوت بدون مقتض لذلك . وبتفيذ هذه الوصايا ، يسعد الأفراد ، وترقى المجتمعات . ثم ذكر - سبحانه - بعض النعم التى أنعم بها على الناس ، ودعا المنحرفين عن الحق إلى ترك المجادلة بالباطل ، وإلى مخالفة الشيطان ، فقال - تعالى - { أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ … عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ } .