Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 34, Ayat: 10-14)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وقوله - سبحانه - { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً } بيان لما مَنّ الله - تعالى - به على عبده داود - عليه السلام - من خير وبركة . أى ولقد آتينا عبدنا داود فضلا عظيما ، وخيرا وفيرا ، وملكا كبيرا ، بسبب إنابته إلينا ، وطاعته لنا . ثم فصل - سبحانه - مظاهر هذا الفضل فقال { يٰجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ } والتأويب الترديد والترجيع . يقال أوَّب فلان تأويبا إذا رَجَّع مع غيره ما يقوله . والجملة مقول لقول محذوف أى وقلنا يا جبال رددى ورجعى مع عبدنا داود تسبيحه لنا ، وتقديسه لذاتنا ، وثناءه علينا ، كما قال - تعالى - { إِنَّا سَخَّرْنَا ٱلجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِٱلْعَشِيِّ وَٱلإِشْرَاق } وقوله { وَٱلطَّيْرَ } بالنصب عطفا على قوله { فَضْلاً } أى وسخرنا له الطير لتسبح معه بحمدنا . أو معطوف على محل { يٰجِبَالُ } أى ودعونا الجبال والطير إلى التسبيح معه . قال الإِمام ابن كثير - رحمه الله يخبر - تعالى - عما أنعم به على عبده ورسوله داود - عليه السلام - مما آتاه من الفضل المبين ، وجمع له بين النبوة والملك المتمكن ، والجنود ذوى العَدَد والعُدَد ، وما أعطاه ومنحه من الصوت العظيم ، الذى كان إذا سبح به ، تسبح معه الجبال الراسيات ، الصم الشامخات ، وتقف له الطيور السارحات . والغاديات الرائحات ، وتجاوبه بأنواع اللغات . وفى الصحيح " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع صوت أبى موسى الأشعرى يقرأ من الليل ، فوقف فاستمع لقراءته ثم قال " لقد أوتى هذا مزمارا من مزامير آل داود " . وقال صاحب الكشاف فإن قلت أى فريق بين هذا النظم وبين أن يقال { آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً } تأويب الجبال معه والطير ؟ قلت كم بينهما من الفرق ؟ ألا ترى إلى ما فيه من الفخامة التى لا تخفى ، من الدلالة على عزة الربوبية وكبرياء الألوهية ، حيث جعلت الجبال مُنَزْلَةَّ مَنزِلَةَ العقلاء ، الذين إذا أمرهم أطاعوا وأذعنوا ، وإذا دعاهم سمعوا وأجابوا ، إشعارا بأنه ما من حيوان وجماد وناطق وصامت إلا وهو منقاد لمشيئته ، غير ممتنع على إرادته . وقوله - تعالى - { وَأَلَنَّا لَهُ ٱلْحَدِيدَ } ، بيان لنعمة أخرى من النعم التى أنعم بها - سبحانه - عليه . أى وصيرنا الحديد لينا فى يده ، بحيث يصبح - مع صلابته وقوته - كالعجيبن فى يده ، يشكله كيف يشاء ، من غير أن يدخله فى نار ، أو أن يطرقه بمطرقة . فالجملة الكريمة معطوفة على قوله { آتَيْنَا } ، وهى من جملة الفضل الذى منحه - سبحانه - لنبيه داود - عليه السلام - . و { أَنِ } فى قوله { أَنِ ٱعْمَلْ سَابِغَاتٍ } مصدرية على حذف حرف الجر . وسابغات صفة لموصوف محذوف . أى ألنا له الحديد ، لكى يعمل منه دروعا سابغات . والدرع السابغ ، هى الدرع الواسعة التامة . يقال سبغ الشئ سبوغا ، إذا كان واسعا تاما كاملا . ومنه قولهم نعمة سابغة ، إذا كانت تامة كاملة . قال - تعالى - { أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً } وقوله { وَقَدِّرْ فِي ٱلسَّرْدِ } والتقدير هنا بمعنى الإِحكام والإِجادة وحسن التفكير فى عمل الشئ . والسرد نسج الدروع وتهيئتها لوظيفتها . أى آتينا داود كل هذا الفضل الذى من جملته إلانة الحديد فى يده ، وقلنا له يا داود اصنع دروعا سابغات تامات ، وأحكم نسج هذه الدروع ، بحيث تكون فى أكمل صورة ، وأقوى هيئة . روى ان الدروع قبل عهد داود كانت تعمل بطريقة تثقل الجسم ، ولا تؤدى وظيفتها فى الدفاع عن صاحبها ، فألهم الله - تعالى - داود - عليه السلام - أن يعملها بطريقة لا تثقل الجسم ولا تتعبه ، وفى الوقت نفسه تكون محكمة إحكاما تاما بحيث لا تنفذ منها الرماح ، ولا تقطعها السيوف ، وكان الأمر كله من باب الإِلهام والتعليم من الله - تعالى - لعبده داود - عليه السلام - . ثم أمر - سبحانه - داود وأهله بالعمل الصالح فقال { وَٱعْمَلُواْ صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } . أى واعملوا عملا صالحا يرضينى ، فإنى مطلع ومحيط ومبصر لكل ما تعملونه من عمل ، وسأجازيكم عليه يوم القيامة بالجزاء الذى تستحقونه . قال القرطبى وفى هذه الآية دليل على تعلم أهل الفضل الصنائع ، وأن التحرف بها لا ينقص من مناصبهم . بل ذلك زيادة فى فضلهم وفضائلهم ، إذ يحصل لهم التواضع فى أنفسهم ، والاستغناء عن غيرهم ، وكسب الحلال الخالى عن الامتنان . وفى الصحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " إن خير ما أكل المرء من عمل يده ، وإن نبى الله داود كان يأكل من عمل يده " . هذا ما أعطاه الله - تعالى - لنبيه داود من فضل ، أما نبيه سليمان بن داود ، فقد أعطاه - سبحانه - أفضالا أخرى ، عبر عنها فى قوله - تعالى - { وَلِسُلَيْمَانَ ٱلرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ } . والغدوة والغداة أول النهار إلى الزوال . والرواح من الزوال إلى الغروب . والمعنى وسخرنا لنبينا سليمان بن داود - عليهما السلام - الريح ، تجرى بأمره فى الغدوة الواحدة مسيرة شهر ، وتعود بأمره فى الروحة الواحدة مسيرة شهر . أى أنها لسرعتها تقطع فى مقدار الغدوة الواحدة ما يقطعه الناس فى شهر من الزمان ، وكذلك الحال بالنسبة للروحة الواحدة ، وهى فى كل مرة تسير بأمر سليمان ، ووفق إرادته التى منحه الله - تعالى - إياها . وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - { وَلِسُلَيْمَانَ ٱلرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى ٱلأَرْضِ ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا } وقوله - سبحانه - { فَسَخَّرْنَا لَهُ ٱلرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ } ثم بين - تعالى - نعمة ثانية من النعم التى أنعم بها على سليمان فقال { وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ ٱلْقِطْرِ } . والقطر هو النحاس المذاب . مأخوذ من قطَر الشئ يَقْطُر قَطْراً وقطَرانا ، إذا سال . أى كما ألنا لداود الحديد ، أسلنا لابنه سليمان النحاس وجعلناه مذابا ، فكان يستعمله فى قضاء مصالحه ، كما يستعمل الماء ، وهذا كله بفضلنا وقدرتنا . ثم بين - سبحانه - نعمة ثالثة أنعم بها على سليمان - عليه السلام - فقال { وَمِنَ ٱلْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ } . أى وسخرنا له من الجن من يكونون فى خدمته ، ومن يعملون بين يديه ما يريده منهم ، وهذا كله بأمرنا ومشيئتنا وقدرتنا . { وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا } أى من ينحرف من هؤلاء الجن عما أمرناه به من طاعة سليمان ، { نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ } أى ننزل به عذابنا الأليم ، الذى يذله ويخزيه فى الدنيا والآخرة . ثم بين - سبحانه - بعض الأشياء التى كان الجن يعملونها لسليمان - عليه السلام - فقال { يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَٱلْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ } . والمحاريب جمع محراب . وهو كل مكان مرتفع ، ويطلق على المكان الذى يقف فيه الإِمام فى المسجد ، كما يطلق على الغرفة التى يصعد إليها ، وعلى أشرف أماكن البيوت . قالوا والمراد بها اماكن العبادة ، والقصور المرتفعة . والتماثيل جمع تمثال وقد يكون من حجر أو خشب أو نحاس أو غير ذلك . قال القرطبى ما ملخصه والتماثيل جمع تمثال . وهو كل ما صور على مثل صورة حيوان أو غير حيوان . وقيل كانت من زجاج ونحاس ورخام ، تماثيل أشياء ليست بحيوان . وذكر أنها صور الأنبياء والعلماء ، وكانت تصور فى المساجد ليراها الناس . فيزدادوا عبادة واجتهادا . وهذا يدل على أن ذلك كان مباحا فى زمانهم ، ونسخ ذلك بشرع محمد صلى الله عليه وسلم . والجِفان جمع جَفْنَة . وهى الآنية الكبيرة . والجَوَاب جمع جابية ، وهى الحوض الكبير الذى يجبى فيه الماء ويجمع لتشرب منه الدواب . والقدور جمع قدر . وهو الآنية التى يطبخ فيها الطعام من نحاس أو فخار أو غيرهما . وراسيات جمع راسية بمعنى ثابتة لاتتحرك . أى أن الجن يعملون لسليمان - عليه السلام - ما يشاء من مساجد وقصور ، ومن صور متنوعة ، ومن قصاع كبار تشبه الأحواض الضخمة ، ومن قدور ثابتات على قواعدها ، بحيث لا تحرك لضخامتها وعظمها . وقوله - سبحانه - { ٱعْمَلُوۤاْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ } مقول لقول محذوف . أى أعطينا سليمان كل هذه النعم ، وقلنا له ولأهله اعملوا يا آل دواد عملا صالحا ، شكرا لله - تعالى - على فضله وعطائه ، وقليل من عبادى هو الذى يشكرنى شكرا خالصا على نعمى وفضلى وإحسانى . وقوله { شُكْراً } يجوز أن يكون مفعولا لأجله . أى اعملوا من أجل الشكر ، أو مصدرا واقعا موقع الحال . أى اعملوا شاكرين . و { قَلِيلٌ } خبر مقدم . و { مِّنْ عِبَادِيَ } صفة له . و { ٱلشَّكُورُ } مبتدأ مؤخر . وهكذا يختم القرآن هذه النعم بهذا التغيب الذى يكشف عن طبيعة الناس فى كل زمان ومكان ، حتى يحملهم على أن يخالفوا أهواءهم ونفوسهم ، ويكثروا من ذكر الله - تعالى - وشكره . وحقيقة الشكر الاعتراف بالنعمة للمنعم ، والثناء عليه لإِنعامه ، واستعمال نعمه - سبحانه - فيما خلقت له . والانسان الشكور هو المتوفر على أداء الشكر ، الباذل قصارى جهده فى ذلك ، عن طريق قلبه ولسانه وجوارحه . ثم ختم - سبحانه - النعم التى أنعم بها على داود وسليمان ، ببيان مشهد وفاة سليمان ، فقال { فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ ٱلْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ } . والمراد بدابة الأرض قيل هى الأَرَضَة التى تأكل الخشب وتتغذى به ، يقال أرضت الدابة الخشب أرضا - من باب ضرب - ، إذا أكلته . فإضافة الدابة إلى الأرض - بمعنى الأكل والقطع - من إضافة الشئ إلى فعله . و { مِنسَأَتَهُ } أى عصاه التى كان مستندا عليها . وسميت العصا بذلك لأنها تزجر بها الأغنام إذا جاوزت مرعاها . من نسأ البعير - كمنع - إذا زجره وساقه ، أو إذا أخره ودفعه . والمعنى فلما حكمنا على سليمان - عليه السلام - بالموت ، وأنفذناه فيه ، وأوقعناه عليه ، { مَا دَلَّهُمْ } أى الجن الذين كانوا فى خدمته { عَلَىٰ مَوْتِهِ } بعد أن مات وظل واقفا متكئا على عصاه { إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ } . أى انهم لم يدركوا أنه مات ، واستمروا فى أعمالهم الشاقة التى كلفهم بها ، حتى جاءت الدابة التى تفعل الأرْضَ - أى الأكل والقطع - فأكلت شيئا من عصاه التى كان متكئا عليها ، فسقط واقعا بعد أن كان واقفا . { فَلَمَّا خَرَّ } أى فلما سقط سليمان على الأرض { تَبَيَّنَتِ ٱلْجِنُّ } أى ظهر لهم ظهورا جليا { أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ٱلْغَيْبَ } كما يزعم بعضهم . { مَا لَبِثُواْ فِي ٱلْعَذَابِ ٱلْمُهِينِ } أى ما بقوا فى الأعمال الشاقة التى كلفهم بها سليمان . وذلك أن الجن استمروا فيما كلفهم به سليمان من اعمال شاقة ، ولم يدركوا أنه قد مات ، حتى جاءت الأرضة فأكلت شيئا من عصاه ، فسقط على الأرض وهنا فقط علموا انه قد مات . قال ابن كثير يذكر - تعالى - فى هذه الآية كيفية موت سليمان - عليه السلام - وكيف عمَّى الله موته على الجان المسخرين له فى الأعمال الشاقة ، فإنه مكث متوكئا على عصاه ، وهى منسأته - مدة طويلة نحواً من سنة ، فلما أكلتها دابة الأرض ، - وهى الأرضة - ضعف وسقط إلى الأرض ، وعلم أنه قد مات قبل ذلك بمدة طويلة - تبينت الجن والإِنس أيضاً - أن الجن لا يعلمون الغيب ، كما كانوا يتوهمون ويواهمون الناس ذلك " . هذا هو النموذج الأول الذى ساقه الله - تعالى - للشاكرين ، متمثلا فى موقف داود وسليمان - عليهما السلام - مما أعطاهما - سبحانه - من نعم جزيله … أما النموذج الأول الذى جاء فى أعقاب سابقه - فقد ساقه - سبحانه - لسوء عاقبة الجاحدين ، متمثلا فى قصة قبيلة سبأ وكيف أنهم قابلوا نعم الهل بالبطر ، فمحقها - سبحانه - من بين أيديهم وفى شأنهم يقول - عز وجل - { لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ … وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفُيظٌ } .