Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 34, Ayat: 34-39)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قال صاحب الكشاف عند تفسيره لقوله - تعالى - { وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ … } هذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما منى به من قومه من التكذيب والكفر بما جاء به ، والمنافسة بكثرة الأموال والأولاد ، والتكبر بذلك على المؤمنين … وأنه - سبحانه - لم يرسل قط إلى أهل قرية من نذير ، إلا قالوا له مثل ما قال أهل مكة لرسول الله صلى الله عليه وسلم … والمعنى وما أرسلنا فى قرية ، من القرى { مِّن نَّذِيرٍ } ينذر أهلها بسوء العاقبة إذا ما استمروا على كفرهم وضلالهم . { إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ } أى إلا قال أغنياؤها ورؤساؤها وجبابرتها المتسعون فى النعم فيها ، لمن جاءوا لإِنذارهم وهدايتهم إلى الحق . { إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ } من الدعوة إلى عبادة الله - تعالى - { كَافِرُونَ } بما نحن عليه من شرك وتقليد للآباء مؤمنون . فالآية الكريمة تحكى موقف المترفين فى كل أمة ، من الرسل الذين جاءوا لهدايتهم ، وأن هؤلاء المترفين فى كل زمان ومكان ، كانوا أعداء للأنبياء وللمصلحين ، لأن الترف من شأنه أن يفسد الفطرة ، ويبعث على الغرور والتطاول ، ويحول بين الإِنسان وبين التمسك بالفضائل والقيم العليا ، ويهدى إلى الانغماس فى الرذائل والشهوات الدنيا . ثم يحكى القرآن الكريم أن هؤلاء المترفين لم يكتفوا بإعلان كفرهم ، وتكذيبهم للأنبياء والمصلحين ، بل أضافوا إلى ذلك التبجح والتعالى على المؤمنين . فقال - تعالى - { وَقَالُواْ } أى المترفون الذين أبطرتهم النعمة للمؤمنين الفقراء { نَحْنُ أَكْثَـرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً } منكم - أيها المؤمنون - إذ أموالنا أكثر من أموالكم ، وأولادنا أكثر من أولادكم ، ولولا أننا أفضل عند الله منكم ، لما اعطانا . مالا يعطيكم … فنحن نعيش حياتنا فى أمان واطمئنان { وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } بشئ من العذاب الذى تعدوننا به لا فى الدنيا ولا فى الآخرة . قال الامام ابن كثير عند تفسيره هذه الآية افتخر المترفون - بكثرة الأموال والأولاد ، واعتقدوا أن ذلك دليل على محبة الله لهم ، واعتنائه بهم ، وأنه ما كان ليعطيهم هذا فى الدنيا ، ثم يعذبهم فى الآخرة ، وهيهات لهم ذلك . قال - تعالى - { فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } ثم أمر الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم أن يصحح لهؤلاء المترفين خطأهم ، وأن يكشف عن جهلهم ، وأن يبين لهم أن مسألة الغنى والفقر بيد الله - تعالى - وحده ، وأن الثواب والعقاب لا يخضعان للغنى أو للفقر ، وإنما يتبعان الإِيمان أو الكفر ، فقال - تعالى - { قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } . وبسط الرزق سعته وكثرته . وتقديره تقليله وتضييقه . أى قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء الجاهلين { إِنَّ رَبِّي } وحده هو الذى { يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ } أن يبسطه له { وَيَقْدِرُ } أى ويقتر الرزق ويضيقه على من يشاء أن يضيقه عليه . والأمر فى كلتا الحالتين مرده إلى الله - تعالى - وحده ، على حسب ما تقتضيه حكمته فى خلقه . وربما يوسع رزق العاصى ويضيق رزق المطيع . أو العكس ، وربما يوسع على شخص وقت وضيق عليه فى وقت آخر ، ولا ينقاس على ذلك أمر الثواب والعقاب ، لأن مناطهما الطاعة وعدمها . { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } هذه الحقيقة التى اقتضتها حكمة الله - تعالى - وإرادته ، فزعموا أن بسط الرزق دليل الشرف والكرامة ، وأن ضيق الرزق دليل الهوان والذل ، ولم يدركوا - لجهلهم وانطماس بصائرهم - أن بسط الرزق قد يكون للاستدارج ، وأن تضييقه قد يكون للابتلاء والاختبار ، ليتميز قوى الإِيمان من ضعيفه . ثم زاد - سبحانه - هذه القضية توضيحا وتبيينا فقال { وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بِٱلَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَىٰ } . الزلفى مصدر كالقربى ، وانتصابه على المصدرية من معنى العامل . أى ليست كثرة أموالكم ، ولا كثرة أولادكم بالتى من شأنها أن تقربكم إلينا قربى ، لأن هذه الكثرة ليست دليل محبة منا لكم ، ولا تكريم منا لكم ، وإنما الذى يقربكم منا هو الإِيمان والعمل الصالح . كما وضح - سبحانه - هذه الحقيقة فى قوله بعد ذلك { إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ جَزَآءُ ٱلضِّعْفِ بِمَا عَمِلُواْ وَهُمْ فِي ٱلْغُرُفَاتِ آمِنُونَ } . أى ليس الأمر كما زعمتم - أيها المترفون - من أن كثرة الأموال والأولاد ستنجيكم من العذاب ، ولكن الحق والصدق أن الذى ينجيكم من ذلك ويقربكم منا ، هو الإِيمان والعمل الصالح . فهؤلاء الذين آمنوا وعملوا الأعمال الصالحة لهم عند الله - تعالى - الجزاء الحسن المضاعف ، وهم فى غرفات الجنات آمنون مطمئنون . قال الشوكانى ما ملخصه قوله { إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً } هو استثناء منقطع فيكون محله النصب . أى لكن من آمن وعمل صالحا … والإِشارة بقوله { فَأُوْلَـٰئِكَ } إلى { مَنْ } والجمع باعتبار المعنى . وهو مبتدأ . وخبره { لَهُمْ جَزَآءُ ٱلضِّعْفِ } أى فأولئك يجازيهم الله الضعف ، وهو من إضافة المصدر إلى المفعول . أو فأولئك لهم الجزاء المضاعف فيكون من إضافة الموصوف إلى الصفة … ثم بين - سبحانه - سوء عاقبة المصرين على كفرهم فقال { وَٱلَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِيۤ آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَـٰئِكَ فِي ٱلْعَذَابِ مُحْضَرُونَ } . أى والذين يسعون فى إبطال آياتنا الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا ، { مُعَاجِزِينَ } . أى زاعمين سبقهم لنا ، وعدم قدرتنا عليهم { أُوْلَـٰئِكَ } الذين يفعلون ذلك { فِي ٱلْعَذَابِ مُحْضَرُونَ } أى فى عذاب جهنم مخلدون ، حيث تحضرهم ملائكة العذاب بدون شفقة أو رحمة ، وتلقى بهم فيها . وقوله - سبحانه - { قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ } تأكيد وتقرير لتلك الحقيقة التى سبق الحديث عنها ، وهى أن التوسع والتضييق فى الرزق بيد الله - تعالى - وحده . والضمير فى قوله - تعالى - { لَهُ } يعود إلى الشخص الموسع عليه أو المضيق عليه فى رزقه . أى قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء المترفين على سبيل التأكيد وإزالة ما هم عليه من جهل إن ربى - عز وجل - يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ، ويضيق هذا الرزق على ما يشاء أن يضيقه منهم ، وليس فى ذلك ما يدل على السعادة أو الشقاوة ، لأن هذه الأمور خاضعة لحكمته فى خلقه - سبحانه - . { وَمَآ أَنفَقْتُمْ } أيها المؤمنون { مِّن شَيْءٍ } فى سبيل الله - تعالى - وفى أوجه طاعته { فَهُوَ } - سبحانه - { يُخْلِفُهُ } أى يعوضه لكم بما هو خير منه . يقال فلان أخلق لفلان وأخلف عليه ، إذا أعطاه العوض والبدل . { وَهُوَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ } أى وهو - سبحانه - خير رازق لعباده لأن كل رزق يصل إلى الناس إنما هو بتقديره وإرادته ، وقد جرت سنته - سبحانه - أن يزيد الأسخياء من فضله وكرمه . وفى الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ما من يوم يصبح العباد فيه ، إلا ملكان ينزلان ، فيقول احدهما اللهم اعط منفقا خلفا ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا " . وبذلك نرى الآيات الكريمة قد حكت جانبا من شبهات المشركين ، ومن أقوالهم الباطلة ، وردت عليهم بما يزهق باطلهم ، ويمحو شبهاتهم ، لكى يزداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم . ثم بين - سبحانه - حال أولئك المشركين يوم القيامة ، وكيف أن الملائكة يكذبونهم فى مزاعمهم ، فقال - تعالى - { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً … كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ } .