Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 35, Ayat: 32-35)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
و " ثم " فى قوله - تعالى - { ثُمَّ أَوْرَثْنَا ٱلْكِتَابَ ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } للتراخى الرتبى . و { أَوْرَثْنَا } أى أعطينا ومنحنا ، إذ الميراث عطاء يصل للإِنسان عن طريق غيره . والمراد بالكتاب القرآن الكريم ، وما اشتمل عليه من عقائد وأحكام وآداب وتوجيهات سديدة … وهو المفعول الثانى لأورثنا ، وقدم على المفعول الأول ، وهو الموصول للتشريف . و { ٱصْطَفَيْنَا } بمعنى اخترنا واستخلصنا ، واشتقاقه من الصفو ، بمعنى الخلوص من الكدر والشوائب . والمراد بقوله { مِنْ عِبَادِنَا } الأمة الإِسلامية التى جعلها الله خير أمة أخرجت للناس . والمعنى ثم جعلنا هذا القرآن الذى اوحيناه إليك - أيها الرسول الكريم - ميراثاً منك لأمتك ، التى اصطفيناها على سائر الأمم ، وجعلناها أمة وسطا . وقد ورثناها هذا الكتاب لتنتفع بهداياته … وتسترشد بتوجيهاته ، وتعمل بأوامره ونواهيه . قال الآلوسى قوله { ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } هم - كما قال ابن عباس وغيره - أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، فإن الله - تعالى - اصطفاهم على سائر الأمم … " . وفى التعبير بالاصطفاء ، تنويه بفضل هؤلاء العباد ، وإشارة إلى فضلهم على غيرهم ، كما أن التعبير بالماضى يدل على تحقق هذا الاصطفاء . ثم قسم - سبحانه - هؤلاء العباد إلى ثلاثة اقسام فقال { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِٱلْخَيْرَاتِ بِإِذُنِ ٱللَّهِ … } . وجمهور العلماء على أن هذه الأقسام الثلاثة ، تعد إلى أفراد هذه الأمة الإِسلامية . وأن المراد بالظالم لنفسه ، من زادت سيئاته على حسناته . وأن المراد بالمقصد من تساوت حسناته مع سيئاته . وأن المراد بالسابقين بالخيرات من زادت حسناتهم على سيئاتهم . وعلى هذا يكون الضمير فى قوله - تعالى - بعد ذلك { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا … } يعود إلى تلك الأقسام الثلاثة ، لأنهم جميعاً من أهل الجنة بفضل الله ورحمته . ومن العلماء من يرى أن المراد بالظالم لنفسه الكافر ، وعليه يكون الضمير فى قوله { يَدْخُلُونَهَا } يعود إلى المقتصد والسابق بالخيرات ، وأن هذه الآية نظير قوله - تعالى - فى سورة الواقعة { وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً فَأَصْحَابُ ٱلْمَيْمَنَةِ مَآ أَصْحَابُ ٱلْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ ٱلْمَشْأَمَةِ مَآ أَصْحَابُ ٱلْمَشْأَمَةِ وَٱلسَّابِقُونَ ٱلسَّابِقُونَ … } . ومن المفسرين الذين رجحوا القول الأول ابن كثير فقد قال ما ملخصه يقول - تعالى - ثم جعلنا القائمين بالكتاب العظيم … وهم هذه الأمة على ثلاث أقسام { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ } وهو المفرط فى بعض الواجبات المرتكب لبعض المحرمات . { وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ } وهو المؤدى للواجبات التارك للمحرمات وقد يترك بعض المستحبات ، ويفعل بعض المكروهات . { وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِٱلْخَيْرَاتِ بِإِذُنِ ٱللَّهِ } وهو الفاعل للواجبات والمستحبات . قال ابن عباس هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم ورثهم الله - تعالى - كل كتاب أنزله . فظالمهم يغفر له ، ومقتصدهم يحاسب حسابا يسيرا ، وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب . وفى رواية عنه السابق بالخيرات يدخل الجنة بغير حساب ، والمقتصد يدخل الجنة برحمة الله - تعالى - ، والظالم لنفسه يدخل الجنة بشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم . وفى الحديث الشريف " شفاعتى لأهل الكبائر من أمتى " . وقال آخرون الظالم لنفسه هو الكافر . والصحيح أن الظالم لنفسه من هذه الأمة ، وهذا اختيار ابن جرير كما و ظاهر الآية ، وكا جاءت به الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طرق يشد بعضها بعضاً . ثم أورد الإِمام ابن كثير بعد ذلك جملة من الأحاديث منها ما أخرجه الإِمام أحمد عن أبى سعيد الخدرى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال فى هذه الآية " هؤلاء كلهم بمنزلة واحدة ، وكلهم فى الجنة " . ومعنى قوله " بمنزلة واحدة " أى فى أنهم من هذه الأمة ، وأنهم من أهل الجنة ، وإن كان بينهم فرق فى المنازل فى الجنة " . وقال الإِمام ابن جرير فإن قال لنا قائل إن قوله { يَدْخُلُونَهَا } إنما عنى به المقتصد والسابق بالخيرات ؟ قيل له وما برهانك على أن ذلك كذلك من خبر أو عقل ؟ فإن قال قيام الحجة أن الظالم من هذه الأمة سيدخل النار ، ولم لم يدخل النار من هذه الأصناف الثلاثة أحد ، وجب أن لا يكون لأهل الإِيمان وعيد . قيل إنه ليس فى الآية خبر أنهم لا يدخلون النار ، وإنما فيها إخبار من الله - تعالى - أنهم يدخلون جنات عدن وجائز أن يدخلها الظالم لنفسه بعد عقوبة الله إياه على ذنوبه التى أصابها فى الدنيا … ثم يدخلون الجنة بعد ذلك ، فيكون ممن عمه خبر الله - تعالى - بقوله { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا } . وقال الشوكانى والظالم لنفسه هو الذى عمل الصغائر . وقد روى هذا القول عن عمر ، وعثمان ، وابن مسعود ، وأبى الدرداء ، وعائشة . وهذا هو الراجح ، لأن عمل الصغائر لا ينافى الاصطفاء ، ولا يمنع من دخول صاحبه مع الذين يدخلون الجنة يحلون فيها من أساور … وجه كونه ظالماً لنفسه ، أنها نقصها من الثواب بما فعل من الصغائر المغفورة له ، فإنه لو عمل تلك الصغائر طاعات ، لكان لنفسه فيها من الثواب عظيماً … قالوا وتقديم الظالم لنفسه على المقتصد وعلى السابق بالخيرات . لا يقتضى تشريفاً ، كما فى قوله - تعالى - { لاَ يَسْتَوِيۤ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ وَأَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ … } ولعل السر فى مجئ هذه الأقسام بهذا الترتيب ، أن الظالمين لأنفسهم أكثر الأقسام عددا ، ويليهم المقتصدون ، ويليهم السابقون بالخيرات ، كما قال - تعالى - { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ } وقوله { بِإِذُنِ ٱللَّهِ } أى بتوفيقه وإرادته وفضله . واسم الإِشارة فى قوله { ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْكَبِيرُ } يعود إلى ما تقدم من توريث الكتاب ومن الاصطفاء . أى ذلك الذى أعطيناه - أيها الرسول الكريم - لأمتك من الاصطفاء ومن توريثهم الكتاب ، هو الفضل الواسع الكبير ، الذى لا يقادر قدره ، ولا يعرف كنهه إلا الله - تعالى - . ثم بين - سبحانه - مظاهر هذا الفضل فقال { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا } والضمير للأنواع الثلاثة . أى هؤلاء الظالمون لأنفسهم والمقتصدون والسابقون بالخيرات ، ندخلهم بفضلنا ورحمتنا ، الجنات الدائمة التى يخلدون فيها خلوداً أبدياً . يقال عدن فلان بالمكان ، إذا أقام به إقامة دائمة . { يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } أى أنهم يدخلون الجنات دخولاً دائماً ، وهم فى تلك الجنات يتزينون بأجمل الزينات ، وبأفخر الملابس ، حيث يلبسون فى أيديهم أساور من ذهب ولؤلؤا ، أما ثيابهم فهى من الحرير الخالص . ثم حكى - سبحانه - ما يقولونه بعد فوزهم بهذا النعيم فقال { وَقَالُواْ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِيۤ أَذْهَبَ عَنَّا ٱلْحَزَنَ } . والحزن غم يعترى الإِنسان لخوفه من زوال نعمة هو فيها . والمراد به هنا جنس الحزن الشامل لجميع أحزان الدين والدنيا والآخرة . أى وقالوا عند دخولهم الجنات الدائمة ، وشعورهم بالأمان والسعاة والاطمئنان الحمد لله الذى أذهب عنا جميع ما يحزننا من أمور الدنيا أو الآخرة . { إِنَّ رَبَّنَا } بفضله وكرمه { لَغَفُورٌ شَكُورٌ } أى لواسع المغفرة لعباده ولكثير العطاء للمطيعين ، حيث أعطاهم الخيرات الوفيرة فى مقابل الأعمال القليلة . { ٱلَّذِيۤ أَحَلَّنَا دَارَ ٱلْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ } أى الحمد لله الذى أذهب عنا الأحزان بفضله ورحمته ، والذى { أَحَلَّنَا } أى أنزلنا { دَارَ ٱلْمُقَامَةِ } أى الدار التى لا انتقال لنا منها ، وإنما نحن سنقيم فيها إقامة دائمة وهى الجنة التى منحها إياها بفضله وكرمه . وهذه الدار { لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ } أى لا يصيبنا فيها تعب ولا مشقة ولا عناء . يقال نصب فلان - كفرح - إذا نزل به التعب والإِعياء . { وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ } أى ولا يصيبنا فيها كَلال وإعياء بسب التعب والهموم ، يقال لَغَب فلان لَغبْاً ولُغُوباً . إذا اشتد به الإِعياء والهزال . قال صاحب الكشاف فإن قلت ما الفرق بين النصَب واللُّغوب ؟ قلت النصب ، التعب والمشقة ، التى تصيب المنتصب للأمر ، المزاول له . وأما اللغوب ، فما يلحقه من الفتور بسبب النَصب . فالنصب نفس المشقة والكلفة . واللغوب نتيجة ما يحدث منه من الكلال والفتور " . وبعد هذا البيان البليغ يشرح الصدور لحسن عاقبة المفحلين ، ساقت السورة الكريمة حال الكافرين ، وما هم فيه من عذاب مهين ، فقال - تعالى - { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ … بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } .