Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 35, Ayat: 9-14)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قال أبو حيان - رحمه الله - لما ذكر - سبحانه - أشياء من الأمور السماوية ، وإرسال الملائكة ، أتبع ذلك بذكر أشياء من الأمور الأرضية كالرياح وإرسالها ، وفى هذا احتجاج على منكرى البعث ، دلهم على المثال الذى يعاينونه ، وهو إحياء الموتى سيان . وفى الحديث " أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يحيى الله الموتى وما آية ذلك فى خلقه ؟ فقال " هل مررت بوادى أهلا محلا - أى مجدبا لا نبات فيه - ثم مررت به يهتز خضرا ؟ فقالوا نعم ، فقال فكذلك يحيى الله الموتى ، وتلك آيته فى خلقه " . فقوله - تعالى - { وَٱللَّهُ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ ٱلرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً } بيان لمظهر آخر من مظاهر قدرته - عز وجل - ومن سعة رحمته بعباده . وقوله { فَتُثِيرُ } من الإِثارة بمعنى التهييج والتحريك من حال إلى حال . أى والله - تعالى - وحده ، هو الذى أرسل الرياح ، فجعلها بقدرته النافذة تحرك السحب من مكان إلى مكان ، فتذهب بها تارة إلى جهة الشمال ، وتارة إلى جهة الجنوب ، وتارة إلى غير ذلك . وقوله { فَسُقْنَاهُ إِلَىٰ بَلَدٍ مَّيِّتٍ } بيان للحكمة من هذه الإِثارة ، والمراد بالبلد الميت الأرض الجدباء التى لا نبات فيها . والضمير فى { فَسُقْنَاهُ } يعود إلى السحاب . وقوله { فَأَحْيَيْنَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } أى فأحيينا بالمطر النازل من السحاب الأرض الجدباء ، فاهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج . فالضمير فى قوله { بِهِ } يعود إلى المطر ، لأن السحاب يدل عليه لما بينهما من تلازم ، ويصح أن يعود إلى السحاب لأنه سبب نزول الأمطار . وقال - سبحانه - { فَتُثِيرُ } بصيغة المضارع . استحضارا لتلك الصورة البديعة الدالة على قدرة الله - تعالى - ، والتى من شأنها أن تغرس العظات والعبر فى النفوس . وقال - سبحانه - { فَسُقْنَاهُ } { فَأَحْيَيْنَا } بنون العظمة ، وبالفعل الماضى ، للدلالة على تحقق قدرته ورحمته بعباده . قال صاحب الكشاف ما ملخصه فإن قلت لم جاء { فَتُثِيرُ } على المضارعة دون ما قبله وما بعده ؟ . قلت ليحكى الحال التى تقع فيها إثارة الرياح للحساب ، وتستحضر تلك الصور البديعة الدالة على القدر الربانية ، وهكذا يفعلون بكل فعل فيه نوع تمييز وخصوصية … ولما كان سوق السحاب إلى البلد الميت ، وإحياء الأرض بالمطر بعد موتها ، من الدلائل على القدرة الباهرة قيل فسقنا ، وأحيينا ، معدولا بهما عن لفظ الغيبة ، إلى ما هو أدخل فى الاختصاص وأدل عليه … والكاف فى قوله - تعالى - { كَذَلِكَ ٱلنُّشُورُ } بمعنى مثل ، وهى فى محل رفع على الخبرية . أى مثل الإِحياء الذى تشاهدونه للأرض بعد نزول المطر عليها ، يكون إحياء الأموات منكم . قال الإِمام الرازى فإن قيل ما وجه التشبيه بقوله { كَذَلِكَ ٱلنُّشُورُ } ؟ فالجواب من وجوه أحدها أن الأرض الميتة لما قبلت الحياة اللائقة بها ، كذلك الأعضاء تقبل الحياة . ثانيها كما أن الريح يجمع القطع السحابية ، كذلك يجمع - سبحانه - بين أجزاء الأعضاء … ثالثها كما أن نسوق الريح والسحاب إلى البلد الميت ، كذلك نسوق الروح والحياة إلى البدن الميت . والنشور الإِحياء والبعث بعد الموت . يقال أنشر الله - تعالى - الموتى ونشرهم ، إذا أحياهم بعد موتهم . ونشر الراعى غنمه ، إذا بثها بعد أن آواها . ثم بين - سبحانه - أن العزة الكاملة إنما هى لله - تعالى - وحده فقال { مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعِزَّةَ فَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ جَمِيعاً … } . والمراد بالعزة الشرف والمنعة والاستعلاء ، من قولهم أرض عَزاز ، أى صلبة قوية . و { مَن } شرطية ، وجواب الشرط محذوف . وقوله { فَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ جَمِيعاً } تعليل للجواب المحذوف . والمعنى من كان من الناس يريد العزة التى لا ذلة معها . فليطع الله وليعتمد عليه وحده فالله - تعالى - العزة كلها فى الدنيا والآخرة ، وليس لغيره منها شئ . وفى هذا رد على المشركين وغيرهم ممن يطلبون العزة من الأصنام أو من غيرها من المخلوقات قال - تعالى - { وَٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً } وقال - سبحانه - { ٱلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ ٱلْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ ٱلْعِزَّةَ فَإِنَّ ٱلعِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً } قال القرطبى ما ملخصه يريد - سبحانه فى هذه الآية ، أن ينبه ذوى الأقدار والهمم ، من أين تنال العزة ومن أين تستحق ، فمن طلب العزة من الله - تعالى وجدها عنده ، - إن شاء الله - ، غير ممنوعة ولا محجوبة عنه … ومن طلبها من غيره وكلَه إلى من طلبها عنده . وقال صلى الله عليه وسلم مفسرا لهذه الآية " من أراد عز الدارين فليطع العزيز " ، ولقد أحسن القائل @ وإذا تذللت الرقاب تواضعا منا إليك فعزها فى ذلها @@ فمن كان يريد العزة لينال الفوز الأكبر ، فليعتز بالله - تعالى - ، فإن منا عتز بغير الله ، أذله الله ، ومن اعتز به - سبحانه أعزه . ولا تنافى بين هذه الآية وبين قوله - تعالى - { وَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } لأن العزة الكاملة لله - تعالى - وحده ، أما عزة الرسول صلى الله عليه وسلم فمستمدة من قربه من الله - تعالى - ، كما أن عزة المؤمنين مستمدة من إيمانهم بالله - تعالى - وبرسوله صلى الله عليه وسلم . والخلاصة أن هذه الآية الكريمة ترشد المؤمنين إلى الطريق الذى يوصلهم إلى السعادة الدنيوية والأخروية . ألا وهو طاعة الله - تعالى - ، والاعتماد عليه والاعتزاز به . وقوله - سبحانه - { إِلَيْهِ يَصْعَدُ ٱلْكَلِمُ ٱلطَّيِّبُ وَٱلْعَمَلُ ٱلصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } حض للمؤمنين على النطق بالكلام الحسن ، وعلى الإِكثار من العمل الصالح . و { يَصْعَدُ } من الصعود بمعنى الارتفاع إلى أعلى والعروج من مكان منخفض إلى مكان مرتفع . يقال صعد فى السلم ويصعد صعودا إذا ارتقاه وارتفع فيه . و { ٱلْكَلِمُ } اسم جنس جمعى واحده كلمة . والمراد بالكلمة الطيب كل كلام يرضى الله - تعالى - من تسبيح وتحميد وتكبيره . وأمره بالمعروف ، ونهى عن المنكر ، وغير ذلك من الأقوال الحسنة . والمراد بصعوده قبوله عند الله - تعالى - ورضاه عن صاحبه ، أو صعود صحائف هذه الأقوال الطيبة . والمعنى إليه - تعالى - وحده ، لا إلى غيره يصعد الكلم الطيب ، أى يقبل عنده ، ويكون مرضيا لديه ، أو إليه - وحده - ترفع صحائف أعمال عباده ، الصادقين فيجازيهم بما يستحقون من ثواب ، والعمل الصالح الصادر عن عباده المؤمنين يرفعه الله - تعالى - إليه ، ويقبله منهم ، ويكافئهم عليه . فالفاعل لقوله { يَرْفَعُهُ } ضمير يعود على الله - تعالى - والضمير المنصوب يعود إلى العمل الصالح أى يرفه الله - تعالى - العمل الصالح إليه ، ويقبله من أصحابه . ومنهم من يرى أن الفاعل لقوله { يَرْفَعُهُ } هو العمل الصالح . والضمير المنصوب يعود إلى الكلم الطيب . أى أن العمل الصالح هو الذى يرفع الكلم الطيب . بأنه يجعله مقبولا عند الله - تعالى - . ومنهم من يرى العكس . أى أن الكلم الطيب هو الذى يرفع العمل الصالح . قال الشوكانى ما ملخصه ومعنى { وَٱلْعَمَلُ ٱلصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } أن العمل الصالح يرفع الكلم الطيب . كما قال الحسن وغيره . ووجهه أنه لا يقبل الكلم الطيب إلا من العمل الصالح وقيل إن فاعل { يَرْفَعُهُ } هو الكلم الطيب ، ومفعوله العمل الصالح . ووجه أن العمل الصالح لا يقبل إلا مع التوحيد والإِيمان وقيل إن فاعل { يَرْفَعُهُ } ضمير يعود إلى الله - تعالى - . والمعنى أن الله - تعالى - يرفع العمل الصالح على الكلم الطيب ، لأن العمل يحقق الكلام . وقيل العمل الصالح هو الذى يرفع صاحبه . ويبدو لنا أن أرجح هذه الأقوال ، أن يكون الفاعل لقوله { يَرْفَعُهُ } هو الله - تعالى - ، وأن الضمير المنصوب عائد إلى العمل الصالح لأن الله - تعالى - هو الذى يقبل الأقوال الطيبة ، وهو - سبحانه - الذى يرفع الأعمال الصالحة ويقبلها عنده من عباده المؤمنين . ثم بين - تعالى - بعد ذلك سوء عاقبة الذين يمكرون السوء فقال { وَٱلَّذِينَ يَمْكُرُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ } . والمكر التدبير المحكم . أو صرف غيرك عما يريده بحيلة . وهو مذموم إن تحرى به صاحبه الشر والسوء - كما فى الآية الكريمة ، ومحمود إن تحرى به صاحبه الخير والنفع و { ٱلسَّيِّئَاتِ } جمع سيئة وهى صفة لموصوف محذوف . وقوله { يَبُورُ } أى يبطل ويفسد ، من البوار يقال بار المتاع بوارا إذا كسد وصار فى حكم الهالك . أى والذين يمكرون المكرات السيئات من المشركين والمنافقين وأشباههم ، لهم عذاب شديد من الله - تعالى - ، ومكر أولئك الماكرين المفسدين ، مصيره إلى الفساد والخسران ، لأن المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله . ويدخل فى هذا المكر السيئ ما فعله المشركون مع الرسول صلى الله عليه وسلم فى دار الندوة ، حيث بيتوا قتله ، ولكن الله - تعالى - نجاه من شرورهم ، كما دخل فيه غير ذلك من أقوالهم القبيحة ، وأفعالهم الذميمة ، ونياتهم الخبيثة . ثم ساق - سبحانه - بعد ذلك دليلا آخر على صحة البعث والنشور ، وعلى كمال قدرته - تعالى - فقال { وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ } أى خلقكم ابتداء فى ضمن خلق أبيكم آدم من تراب { ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ } وأصلها الماء الصافى أو الماء القليل الذى يبقى فى الدلو أو القربة ، وجمعها نطف ونطاف . يقال نطفت القربة إذا قطرت . والمراد بها هنا المنى الذى هو مادة التلقيح من الرجل للمرأة . { ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً } أى أصنافا ذكرانا وإناثا ، كما قال - تعالى - { أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً } أو المراد ثم جعلكم تتزاوجون ، فالرجل يتزوج المرأة ، والمرأة تتزوج الرجل . { وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَىٰ وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ } أى لا يحصل من الأنثى حمل ، كما لا يحصل منها وضع لما فى بطنها ، إلا والله - تعالى - عالم به علما تاما لأنه - سبحانه - لا يخفى عليه شئ . { وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ } والمراد بالمعمر الشخص الذى يطيل الله - تعالى - عمره . والضمير فى قوله { مِنْ عُمُرِهِ } يعود إلى شخص آخر ، فيكون المعنى ما يمد - سبحانه - فى عمر أحد من الناس ، ولا ينقص من عمر أحد آخر ، إلا وكل ذلك كائن وثابت فى كتاب عنده - تعالى - وهذا الكتاب هو اللوح المحفوظ ، أو صحائف أعمال العباد أو علم الله الأزلى . ومنهم من يرى أن الضمير فى قوله { مِنْ عُمُرِهِ } يعود إلى الشخص ذاته وهو المعمر فيكون المعنى وما يمد الله - تعالى - فى عمر إنسان ، ولا ينقص من عمره بمضى أيام حياته ، إلا وكل ذلك ثابت فى علمه - سبحانه - . قال بعض العلماء وقد أطال بعضهم الكلام فى ذلك ومحصله أنه اختلف فى معنى { مُّعَمَّرٍ } فقيل هو المزاد عمره بدليل ما يقابله من قوله ولا ينقص ، وقيل المراد بقوله { مُّعَمَّرٍ } من يجعل له عمر . وهل هو شخص واحد أو شخصان ؟ فعلى رأى من قال بان المعمر ، هو من يجعل له عمر يكون شخصا واحدا بمعنى انه يكتب عمره مائة سنة - مثلا - ، ثم يكتب تحته مضى يوم ، مضى يومان ، وهكذا فكتابة الأصل هى التعمير . . والكتابة بعد ذلك هو النقص كما قيل @ حياتك أنفاس تُعَدّ فكلما مضى نفس منها انتقصَت به جزءا @@ والضمير حينئذ راجع إلى المذكور . والمعمر على هذا هو الذى جعل الله - تعالى - له عمرا طال هذا العمر أو قصر . وعلى رأى من قال بأن المعمر هو من يزاد فى عمره ، يكون من ينقص فى عمره غير الذى يزاد فى عمره فهما شخصان . والضمير فى " عمره " على هذا الرأى يعود إلى شخص آخر ، إذ لا يكون المزيد فى عمره منقوصا من عمره … " . وقد رجح ابن جرير - رحمه - الله الرأى الأول وهو أن الضمير فى قوله { مِنْ عُمُرِهِ } يعود إلى شخص آخر - فقال وأولى التأويلين فى ذلك عندى بالصواب ، التأويل الأول ، وذلك أن ذلك هو أظهر معنييه ، وأشبههما بظاهر التنزيل . واسم الإِشارة فى قوله { إِنَّ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ } يعود إلى الخلق من تراب وما بعده . أى إن ذلك الذى ذكرناه لكم من خلقكم من تراب ، ثم من نطفة … يسير وهين على الله - تعالى - لأنه - سبحانه - لا يعجزه شئ على الإِطلاق . ثم ذكر - سبحانه - نوعا آخر من أنواع بديع صنعه ، وعجيب قدرته ، فقال { وَمَا يَسْتَوِي ٱلْبَحْرَانِ هَـٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَآئِغٌ شَرَابُهُ وَهَـٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ … } . والماء العذب الفرات هو الماء السائغ للشرب ، الذى يشعر الإِنسان عند شربه باللذة وهو ماء الأنهار . وسمى فراتا لأنه يفرت العطش ، أى يقطعه ويزيله ويكسره . والماء الملح الأجاج هو الشديد الملوحة والمرارة وهو ماء البحار . سمى أجاجا من الأجيج وهو تهلب النار ، لأن شربه يزيد العطشان عطشا وتعبا . قالوا والآية الكريمة مثل للمؤمن والكافر . فالبحر العذب مثل للمؤمن ، والبحر الملح مثل للكافر . فكما أن البحرين اللذين أحدهما عذب فرات سائغ شرابه . والآخر ملح أجاج . لا يتساويان فى طعمهما ومذاقهما . وإن اشتركا فى بعض الفوائد - فكذلك المؤمن والكافر ، لا يتساويان فى الخاصية العظمى التى خلقا من أجلها ، وهى إخلاص العبادة لله الواحد القهار ، وإن اشتركا فى بعض الصفات الأخرى كالسخاء والشجاعة - لأن المؤمن استجاب لفطرته فآمن بالحق ، أما الكافر فقد عاند فطرته ، فاصر على الكفر . وقوله { وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً } بيان لبعض النعم التى وهبها - سبحانه - لعباده من وجود البحرين . أى ومن كل واحد منهما تأكلون لحماً طريا ، أى غضا شهيا مفيداً لأجسادكم ، عن طريق ما تصطادونه منهما من أسماء وما يشبهها . قال بعض العلماء . وفى وصفه بالطراوة ، تنبيه إلى أن ينبغى المسارعة إلى أكله ، لأنه يسرع إليه الفساد والتغيير . وقد أثبت الطب أن تناوله بعد ذهاب طراوته من أضر المأكولات فسبحان الخبير بشئون خلقه … وفيه - أيضاً - إيماء إلى كمال قدرته - تعالى - حيث أوجد هذا اللحم الطرى النافع فى الماء الملح الأجاج الذى لا يشرب . وقد كره العلماء أكل الطافى منه على وجه الماء ، وهو الذى يموت حتف أنفه فى الماء فيطفو على وجهه ، لحديث جابر بن عبد الله ، عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال " ما نضب عنه الماء فكلوه . وما لفظ الماء فكلوه ، وما طفا - على وجه الماء - فلا تأكلوه " . فالمراد من ميتة البحر فى حديث " هو الطهور ماؤه الحل ميتته " ما لفظه البحر لا مامات فيه من غير آفة " . وقوله - تعالى - { وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا } بيان لنعمة ثانية من النعم التى تصل إلى الناس عن طريق البحرين . والحلية - بكسر الحاء - اسم لما يتحلى به الناس ، ويتزينون بلبسه ، وجمع حلية حِلًى وحُلًى - بسكر الحاء وضمها - يقال تحلت المراة إذا لبست الحلى . أى ومن النعم التى تصل إليكم عن طريق البحرين ، استخراجكم منهما ما ينفعكم ، وما تتحلى به نساؤكم ، كاللؤلؤ والمرجان وغيرهما . والتعبير بقوله { وَتَسْتَخْرِجُونَ } يشير إلى كثرة الإِخراج . فالسين والتاء للتأكيد . كما يشير بأن من الواجب على المسلمين ، أن يباشروا بأنفسهم استخراج ما فى البحرين من كنوز نافعة ، وأن لا يتركوا ذلك لأعدائهم . وأسند - سبحانه - لباس الحلية إلى ضمير جمع الذكور ، فقال { تَلْبَسُونَهَا } على سبيل التغليب ، وإلا فإن هذه الحلية يلبسها النساء فى الأعم الأغلب من الأحوال . قال الآلوسى ما ملخصه وقوله { تَلْبَسُونَهَا } أى تلبسها نساؤكم وأسند الفعل إلى ضمير الرجال ، لاختلاطهم بهن ، وكونهم متبوعين ، أو لأنهم سبب لتزينهن فإن النساء يتزين - فى الغالب - ليحسن فى أعين الرجال … " . وقال بعض العلماء وفى الآية دليل قرآنى واضح على بطلان دعوى بعض العلماء من أن اللؤلؤ والمرجان ، لا يستخرجان إلا من البحر الملح خاصة " . وقوله - تعالى - { وَتَرَى ٱلْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ } بيان لنعمة ثالثة من نعمه - تعالى - عن طريق وجود البحار فى الأرض . وأصل المخر الشق . يقال مخرت السفينة البحر إذا شقته وسارت بين أمواجه ، ومخر الماء الأرض إذا شقها . أى وترى - أيها العاقل - ببصرك السفن فى كل من البحرين { مَوَاخِرَ } أى تشق الماء بمقدماتها ، وتسرع السير فيه من جهة إلى جهة … والضمير فى قوله { فِيهِ } يعود إلى البحر الملح ، لأن أمر الفلك فيه أعظم من أمرها فى البحر العذب ، وإن كانت السفن تجرى فى البحرين . ويجوز أن يكون الضمير فى قوله { فِيهِ } يعود إلى جنس البحر . أى وترى السفن تشق كل بحر ، لتسير فيه من مكان إلى مكان … واللام فى قوله - تعالى - { لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } متعلقة بمحذوف دل عليه الكلام السابق . أى أوجدنا البحرين ، وسخرناهما لمنفعتكم ، لتطلبوا أرزاقكم فيهما ، وهذه الأرزاق هى من فضل الله - تعالى - عليكم ، ومن رحمته بكم ، ولعلكم بعد ذلك تشكروننا على آلائنا ونعمنا ، فإن من شكرنا زدناه من خيرنا وعطائنا . ثم بين - سبحانه - نعما أخرى تتجلى فى الليل وفى النهار ، وفى الشمس والقمر ، فقال { يُولِجُ ٱلْلَّيْلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلْلَّيْلِ وَسَخَّرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى } … أى ومن مظاهر فضله عليكم ، ورحمته بكم ، أنه أوجد لكم الليل والنهار بهذا النظام البديع ، بأن أدخل أحدهما فى الآخر ، وجعلهما متعاقبين ، مع زيادة أحدهما عن الآخر فى الزمان ، على حسب اختلاف المطالع ، والمغارب ، وأوجد - أيضا - بفضله ورحمته الشمس والقمر لمنفعتكم ، وكل واحد منهما يسير بنظام بديع محكم ، إلى الأجل والوقت الذى حدده الله - تعالى - لانتهاء عمر هذه الدنيا … والإِشارة فى قوله { ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ ٱلْمُلْكُ … } تعود إلى الخالق والموجد لتلك الكائنات العجيبة البديعة ، وهو الله - عز وجل - . أى ذلكم الذى أوجد كل هذه المخلوقات لمنفعتكم ، هو الله - تعالى - ربكم وهو وحده الذى له ملك هذا الكون ، لا يشاركه فيه مشارك ، ولا ينازعه فى ملكيته منازع { وَٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ } أى والذين تعبدونهم من دون الله - تعالى - ، وتصفونهم بأنهم آلهة . { مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ } والقطمير القشرة البيضاء الرقيقة الملتفة على النواة . أو هو النقطة فى ظهر النواة ، ويضرب مثلاً لأقل شئ وأحقره . أى والذين تعبدونهم من دون الله - تعالى - لا يملكون معه - سبحانه - شيئاً . ولو كان هذا الشئ فى نهاية القلة والحقارة والصغر ، كالنكتة التى تكون فى ظهر النواة . ثم أكد - سبحانه - هذا المعنى وقرره فقال { إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ … } . أى إن هذه المعبودات الباطلة لا تملك من شئ مع الله - تعالى - ، بدليل أنكم إن تدعوهم لنفعكم ، لن يسمعوا دعاءكم ، وإن تستغيثوا بهم عند المصائب والنوائب ، لمن يلبوا استغاثتكم … { وَلَوْ سَمِعُواْ } على سبيل الفرض والتقدير { مَا ٱسْتَجَابُواْ لَكُمْ } لأنهم لا قدرة لهم على هذه الاستجابة لعجزهم عن ذلك . { وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } الذى تتجلى فيه الحقائق ، وتنكشف الأمور { يَكْفُرُونَ بِشِرْكِـكُمْ } . أى يتبرأون من عبادتكم لهم ، ومن إشراككم إياهم العبادة مع الله - تعالى - ، فضلاً عن عدم استجابتهم لكم إذا دعوتموهم لنصرتكم . { وَلاَ يُنَبِّئُكَ } أى ولا يخبرك بهذه الحقائق التى لا تقبل الشك أو الريب . { مِثْلُ خَبِيرٍ } أى مثل من هو خبير بأحوال النفوس وبظواهرها وببواطنها . وهو الله - عز وجل - فإنه - سبحانه - هو الذى يعلم السر وأخفى . وبهذا نرى الآيات الكريمة ، قد طوفت بنا فى أرجاء هذا الكون ، وساقت لنا ألوانا من نعم الله - تعالى - على الناس ، كالرياح ، والسحاب ، والأمطار والبحار ، والليل والنهار ، والشمس والقمر … وهى نعم تدل على وحدانية المنعم بها ، وعلى قدرته - عز وجل - وفى كل ذلك هداية إلى الحق لكل عبد منيب . ثم وجه - سبحانه - نداء ثالثاً إلى الناس ، نبههم فيه إلى فقرهم إليه - سبحانه - ، وإلى غناه عنهم ، وإلى مسئولية كل إنسان عن نفسه ، وإلى وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم الذى أرسله إليهم ، وإلى الفرق الشاسع بين الإِيمان والكفر ، وإلى سوء مصير المكذبين ، فقال - تعالى - { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ أَنتُمُ ٱلْفُقَرَآءُ … فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } .