Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 35, Ayat: 15-26)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وقوله - تعالى - { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ أَنتُمُ ٱلْفُقَرَآءُ إِلَى ٱللَّهِ … } نداء منه - سبحانه - للناس ، يعرفهم فيه حقيقة أمرهم ، ولأنهم لا غنى لهم عن خالقهم - عز وجل - . أى يأيها الناس أنتم المحتاجون إلى الله - تعالى - فى كل شئونكم الدنيوية والأخروية { وَٱللَّهُ } - تعالى - وحده هو الغنى ، عن كل مخلوق سواه ، وهو { ٱلْحَمِيدُ } أى المحمود من جميع الموجودات ، لأنه هو الخالق لكل شئ ، وهو المنعم عليكم وعلى غيركم بالنعم التى لا تحصى . قال صاحب الكشاف فإن قلت لم عرف الفقراء ؟ قلت قصد بذلك أن يريهم أنه لشدة افتقارهم إليه هم جنس الفقراء ، وإن كانت الخلائق كلهم مفترقين إليه من الناس وغيرهم ، لأن الفقر مما يتبع الضعف ، وكلما كان الفقير أضعف كان أفقر ، وقد شهد الله - سبحانه - على الإِنسان بالضعف فى قوله { وَخُلِقَ ٱلإِنسَانُ ضَعِيفاً } ولو نكر لكان المعنى أنتم بعض الفقراء " . وجمع - سبحانه - فى وصف ذاته بين الغنى والحميد ، للإِشعار بأنه - تعالى - بجانب غناه عن خلقه ، هو الذى يفيض عليهم من نعمه ، وهو الذى يعطيهم من خيره وفضله ، ما يجعلهم يحمدونه بألسنتهم وقلوبهم . قال الآلوسى قوله { ٱلْحَمِيدُ } أى المنعم على جميع الموجودات ، المستحق بإنعامه للحمد ، وأصله المحمود ، وأريد به ذلك عن طريق الكناية ، ليناسب ذكره بعد فقرهم ، إذ الغنى لا ينفع الفقير إلا إذا كان جواداً منعماً ، ومثله مستحق للحمد ، وهذا كالتكميل لما قبله … " . وقوله - سبحانه - { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُـمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ } بيان لمظهر من مظاهر غناه عن الناس . أى إن يشأ - سبحانه - يهلككم ويزيلكم من هذا الوجود ، ويأت بأقوام آخرين سواكم ، فوجودكم فى هذه الحياة متوقف على مشيئته وإرادته . واسم الإِِشارة فى قوله { وَمَا ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ بِعَزِيزٍ } يعود على الإِذهاب بهم ، والإِتيان بغيرهم . وما ذلك الذى ذكرناه لكم من إفنائكم والإِتيان بغيركم ، بعزيز ، أى بصعب أو عسير أو ممتنع على الله - تعالى - ، لأن قدرته - تعالى لا يعجزها شئ . ثم بين - سبحانه - أن كل نفس تتحمل نتائج أعمالها وحدها فقال { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ } . وقوله { تَزِرُ } من الوزر بمعنى الحمل . يقال فلان وزر هذا الشئ إذا حمله . وفعله من باب " وعد " ، وأكثر ما يكون استعمالاً فى حمل الآثام . وقوله { وَازِرَةٌ } صفة لموصوف محذوف . أى ولا تحمل نفس آثمة ، إثم نفس أخرى ، وإنما كل نفس مسئولة وحدها عن أفعالها وأقوالها التى باشرتها ، أو تسببت فيها . وقوله { وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَىٰ حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ } مؤكد لمضمون ما قبله ، من مسئولية كل نفس عن أفعالها . وقوله { مُثْقَلَةٌ } صفة لموصوف محذوف ، والمفعول محذوف - أيضاً - للعلم به . وقوله { حِمْلِهَا } أى ما تحمله من الذنوب والآثام ، إذ الحمل - بكسر الحاء - ما يحمله الإِنسان من أمتعة على ظهره أو رأسه أو كتفه . والمعنى لا تحمل نفس آثمة إثم نفس أخرى ، وإن تطلب نفس مثقلة بالذنوب من نفس أخرى ، أن تحمل عنها شيئاً من ذنوبها التى أثقلتها ، لا تجد استجابة منها ، ولو كانت تلك النفس الأخرى من أقربائها وذوى رحمها . قال - تعالى - { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ وَٱخْشَوْاْ يَوْماً لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً … } . وقال - سبحانه - { يَوْمَ يَفِرُّ ٱلْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَٰحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } قال صاحب الكشاف فإن قلت هلا قيل ولا تزر نفس وزر أخرى ؟ قلت لأن المعنى أن النفوس الوازرات لا ترى واحدة منهن إلا حاملة وزرها ، ولا وزر غيرها . فإن قلت كيف توفق بين هذا ، وبين قوله { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ } قلت تلك الآية فى الضالين المضلين ، وأنهم يحملون أثقال إضلالهم لغيرهم ، مع أثقالهم ، وذلك كله أوزارهم ، ما فيها شئ من وزر غيرهم . فإن قلت فما الفرق بين معنى { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ } وبين معنى { وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَىٰ حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ … } ؟ قلت الأول فى الدلالة على عدل الله - تعالى - فى حكمه ، وأنه - تعالى - لا يؤاخذ نفساً بغير ذنبها . والثانى فى أنه لا غياث يومئذ لمن استغاث … وإن كان المستغاث به بعض قرابتها من أب أو ولد أو أخ … فإن قلت إلام أسند كان فى قوله { وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ } ؟ قلت إلى المدعو المفهوم من قوله { وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ } . فإن قلت فلم ترك ذكر المدعو ؟ قلت " ليعم ويشمل كل مدعو … " . وقوله - تعالى - { إِنَّمَا تُنذِرُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِٱلْغَيْبِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ } . كلام مستأنف مسوق لبيان من هم أهل للاتعاظ والاستجابة للحق . أى أنت - أيها الرسول الكريم - إنما ينفع وعظك وإنذارك . أولئك العقلاء الذين يخشون ربهم - عز وجل - دون أن يروه ، أو يروا عذابه ، والذين يؤدون الصلاة فى مواقيتها بإخلاص وخشوع واطمئنان . ثم حض - سبحانه - على تزكية النفوس وتطهيرها فقال { وَمَن تَزَكَّىٰ فَإِنَّمَا يَتَزَكَّىٰ لِنَفْسِهِ وَإِلَى ٱللَّهِ ٱلْمَصِيرُ } أى ومن تظهر من دنس الكفر والفسوق والعصيان . وحض نفسه بالإِيمان ، والعمل الصالح ، والتوبة النصوح ، فإن ثمرة تطهره إنما تعود إلى نفسه وحدها ، وإليها يرجع الأجر والثواب ، والله - تعالى - إليه وحده مصير العباد لا إلى غيره . فالجملة الكريمة دعوة من الله - تعالى - للناس ، إلى تزكية النفوس وتطهيرها من كل سوء ، بعد بيان أن كل نفس مسئولية وحدها عن نتائج أفعالها ، وأن أحداً لن يلبى طلب غيره فى أن يحمل شيئاً عنه من أوزاره . ثم ساق - سبحانه - أمثلة ، لبيان الفرق الشاسع بين المؤمن والكافر ، وبين الحق والباطل ، وبين العلم والجهل … فقال - تعالى - { وَمَا يَسْتَوِي ٱلأَعْمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ وَلاَ ٱلظُّلُمَاتُ وَلاَ ٱلنُّورُ وَلاَ ٱلظِّلُّ وَلاَ ٱلْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي ٱلأَحْيَآءُ وَلاَ ٱلأَمْوَاتُ … } . والحرور هو الريح الحارة التى تلفح الوجوه من شدة حرها ، فهو فعول من الحر . أى وكما أنه لا يستوى فى عرف أى عاقل الأعمى والبصير ، كذلك لا يستوى الكافر والمؤمن ، وكما لا تصلح المساواة بين الظلمات والنور ، كذلك لا تصلح المساواة بين الكفر والإِيمان ، وكما لا يتساوى المكان الظليل مع المكان الشديد الحرارة ، كذلك لا يستوى أصحاب الجنة وأصحاب النار . فأنت ترى أن الآيات الكريمة قد مثلت الكافر فى عدم اهتدائه بالأعمى ، والمؤمن بالبصير ، كما مثلت الكفر بالظمات والإِيمان بالنور ، والجنة بالظل الظليل ، والنار بالريح الحارة التى تشبه السموم . وكرر - سبحانه - لفظ { لاَ } أكثر من مرة ، لتأكيد نفى الاستواء ، بأية صورة من الصور . وقوله { وَمَا يَسْتَوِي ٱلأَحْيَآءُ وَلاَ ٱلأَمْوَاتُ } تمثيل آخر للمؤمنين الذين استجابوا للحق ، وللكافرين الذين أصروا على باطلهم . أو هم تمثيل للعلماء والجهلاء قال الإِمام ابن كثير يقول - تعالى - كما لا تستوى هذه الأشياء المتباينة المختلفة ، كالأعمى والبصير لا يستويان ، بل بينهما فرق وبون كثير ، وكما لا تستوى الظلمات ولا النور ، ولا الظل ولا الحرور ، كذلك لا يستوى الأحياء ولا الأموات . وهذا مثل ضربه الله للمؤمنين الأحياء ، وللكافرين وهم الأموات ، كقوله - تعالى - { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي ٱلنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي ٱلظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا … } وقال - تعالى - { مَثَلُ ٱلْفَرِيقَيْنِ كَٱلأَعْمَىٰ وَٱلأَصَمِّ وَٱلْبَصِيرِ وَٱلسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً } فالمؤمن سميع بصير فى نور يمشى … والكافر أعمى أصم ، فى ظلمات يمشى ، ولا خروج له منها ، حتى يفضى به ذلك إلى الحرور والسموم والحميم … " . وقوله - تعالى - { إِنَّ ٱللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَآءُ وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي ٱلْقُبُورِ } بيان لنفاذ قدرة الله - تعالى - ، ومشيئته . أى إن الله - تعالى - يسمع من يشاء أن يسمعه ، ويجعله مدركاً للحق ، ومستجيباً له أما أنت - أيها الرسول الكريم - فليس فى استطاعتك أن تسمع هؤلاء الكافرين المصرين على كفرهم وباطلهم ، والذين هم أشبه ما يكونون بالموتى فى فقدان الحس ، وفى عدم السماع لما تدعوهم إليه . فالجملة الكريمة تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم عما أصابه من هؤلاء الجاحدين . ثم حدد الله - تعالى - لنبيه صلى الله عليه وسلم وظيفته فقال { إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ } . أى ما أنت - أيها الرسول الكريم - إلا منذر للناس من حلول عذاب الله - تعالى - بهم ، إذا ما استمروا على كفرهم ، أما الهداية والضلال فهما بيد الله - تعالى - وحده . { إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ } - أيها الرسول الكريم - إرسالاً ملتبساً { بِٱلْحَقِّ } الذى لا يحوم حوله الباطل { بَشِيراً وَنَذِيراً } أى أرسلناك بالحق مبشراً المؤمنين بحسن الثواب ، ومنذراً الكافرين بأشد ألوان العقاب . { وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ } أى وما من أمة من الأمم الماضية ، وإلا وجاءها نذير ينذرها من سوء عاقبة الكفر ، ويدعوها إلى إخلاص العبادة لله - تعالى - . فمن أفراد هذه الأمة من أطاعوا هذا النذير فسعدوا وفازوا ، ومنهم من استحب العمى على الهدى ، والكفر على الإِيمان فشقوا وخابوا . ثم أضاف - سبحانه - إلى تسليته لرسول الله صلى الله عليه وسلم تسلية أخرى فقال { وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ … } . أى وإن يكذبك قومك يا محمد فلا تحزن ، فإن الأقوام السابقين قد كذبوا إخوانك الين أرسلناهم إليهم ، كما كذبك قومك . وإن هؤلاء السابقين قد { جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَاتِ } أى بالمعجزات الواضحات { وَبِٱلزُّبُرِ } أى وبالكتب المنزلة من عند الله - تعالى - جمع زبور وهو المكتوب ، كصحف إبراهيم وموسى . { وَبِٱلْكِتَابِ ٱلْمُنِيرِ } أى وبالكتاب الساطع فى براهينه وحججه ، كالتوراة التى أنزلناها على موسى ، والإِنجيل الذى أنزلناه على عيسى . قال الشوكانى قيل الكتاب المنير داخل تحت الزبر ، وتحت البينات ، والعطف لتغير المفهومات ، وإن كانت متحدة فى الصدق . والأولى تخصيص البينات بالمعجزات . والزبر بالكتب التى فيها مواعظ ، والكتاب بما فيه شرائع وأحكام " . { ثُمَّ أَخَذْتُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } بالعذاب الشديد ، بسبب إصراهم على كفرم ، وتكذيبهم لرسلهم . ووضع الظاهر موضع ضميرهم ، لذمهم وللأشعار بعلة الأخذ . والاستفهام فى قوله - تعالى - { فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } للتهويل . أى فانظر - أيها العاقل - كيف كان إنكارى عليهم ، لقد كان إنكاراً مصحوباً بالعذاب الأليم الذى درمهم تدميراً ، واستأصلهم عن آخرهم . ثم ذكر - سبحانه - بعد ذلك أدلة أخرى على عظيم قدرته . وبين من هم أولى الناس بخشيته ، ومدح الذين يكثرون من تلاوة كتابه ، ويحافظون على أداء فرائضه ، ووعدهم على ذلك بالأجر الجزيل فقال - تعالى - { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أنزَلَ … بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ } .