Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 36, Ayat: 20-32)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وقوله - سبحانه - { وَجَآءَ مِنْ أَقْصَى ٱلْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ … } معطوف على كلام محذوف يفهم من سياق القصة ، والتقدير وانتشر خبر الرسل بين أصحاب القرية ، وعلم الناس بتهديد بعضهم لهم { وَجَآءَ مِنْ أَقْصَى ٱلْمَدِينَةِ } أى من أبعد مواضعها { رَجُلٌ يَسْعَىٰ } أى رجل ذو فطرة سليمة ، يسرع الخطا لينصح قومه ، وينهاهم عن إيذاء الرسل ويأمرهم باتباعهم . قالوا وهذا الرجل كان اسمه حبيب النجار ، لأنه كان يشتغل بالنجارة . وقد أكثر بعض المفسرين هنا من ذكر صناعته وحاله قبل مجيئه ، ونحن نرى أنه لا حاجة إلى ذلك ، لأنه لم يرد نص صحيح يعتمد عليه فيما ذكروه عنه . ويكفيه فخرا هذا الثناء من الله - تعالى - عليه بصرف النظر عن اسمه أو صنعته أو حاله ، لأن المقصود من هذه القصة وأمثالها فى القرآن الكريم هو الاعتبار والافتداء بأهل الخير . وعبر هنا بالمدينة بعد التعبير عنها فى أول القصة بالقرية للإِشارة إلى سعتها ، وإلى أن خبر هؤلاء الرسل قد انتشر فيها من أولها إلى آخرها . والتعبير بقوله { يسعى } يدل على صفاء نفسه ، وسلامة قلبه ، وعلو همته ، ومضاء عزيمته ، حيث أسرع بالحضور إلى الرسل وإلى قومه ، ليعلن أمام الجميع كلمة الحق ، ولم يرتض أن يقبع فى بيته - كما يفعل الكثيرون - بل هرول نحو قومه ، ليقوم بواجبه فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر . وقوله - تعالى - { قَالَ يٰقَوْمِ ٱتَّبِعُواْ ٱلْمُرْسَلِينَ } بيان لما بدأ ينصح قومه به بعد وصوله إليهم . أى { قال } لقومه على سبيل الإِرشاد والنصح { يٰقَوْمِ ٱتَّبِعُواْ ٱلْمُرْسَلِينَ } الذين جاءوا لهدايتكم إلى الصراط المستقيم ، ولإِنقاذكم من الضلال المبين الذى انغمستم فيه . ثم أكد هذه الدعوة بقوله { ٱتَّبِعُواْ مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُّهْتَدُونَ } اتبعوا هؤلاء الرسل الذين جاءوا بأمر ربكم إليكم ، ليرشدوكم إلى الطريق الحق ، والحال أنهم فى أنفسهم ثابتون على الهدى ، راسخون فى التمسك بالعقيدة السليمة . ثم أخذ بعد ذلك فى حض قومه على اتباع الحق ، عن طريق بيان الأسباب التى حملته على الإِيمان ، حتى يستثير قلوبهم نحو الهدى ، فقال - كما حكى القرآن عنه - { وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ ٱلَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ . أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ ٱلرَّحْمَـٰنُ بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونَ . إِنِّيۤ إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ . إِنِّيۤ آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَٱسْمَعُونِ } . أى قال الرجل الصالح لقومه وأى مانع يمنعنى من أن أعبد الله - تعالى - وحده ، لأنه هو الذى خلقنى ولم أكن قبل ذلك شيئا مذكورا ، وهو الذى إليه يكون مرجعكم بعد مماتكم ، فيحاسبكم على أعمالكم فى الدنيا ، ويجازيكم عليها بما تستحقون من ثواب أو عقاب . والاستفهام فى قوله { أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً … } للإِنكار والنفى . أى لا يصح ولا يجوز أن اتخذ معه فى العبادة آلهة أخرى ، كائنة ما كانت هذه الآلهة ، لأنه { إِن يُرِدْنِ ٱلرَّحْمَـٰنُ بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً } من النفع ، حتى ولو كان هذا النفع فى نهاية القلة والحقارة . { وَلاَ يُنقِذُونَ } ولا تستطيع هذه الآلهة إنقاذى وتخليصى مما يصيبنى من ضر أراد الرحمن أن ينزله بى . { إِنِّيۤ إِذاً } لو اتخذت هذه الآلهة شريكا مع الله فى العبادة { لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } أى لأكونن فى ضلال واضح لا يخفى على أحد من العقلاء . ثم ختم حديثه معهم بإعلان إيمانه بكل صراحة وقوة فقال { إِنِّيۤ آمَنتُ بِرَبِّكُمْ } ، الذى خلقكم ورزقكم { فاسمعون } أى فاسمعوا ما نطقت به ، واشهدوا لى بأنى آمنت بربكم الذى خلقكم وخلقنى ، وكفرت بهؤلاء الشركاء ، ولن أشرك معه - سبحانه - فى العبادة أحدا . مهما كانت النتائج . وهكذا نرى الرجل الصالح الذى استقر الإِيمان فى قلبه ومشاعره ووجدانه يدافع عن الحق الذى آمن به دفاعا قويا دون أن يخشى أحدا إلا الله ، ويدعو قومه بشتى الأساليب إلى اتباعه ويقيم لهم ألوانا من الأدلة على صحة ما يدعو إليه . ثم يصارحهم فى النهاية ، ويشهدهم على هذه المصارحة ، بأنه قد آمن بما جاء به الرسل إيمانا لا يقبل الشك أو التردد ، ولا يثنيه عنه وعد أو وعيد أو إيذاء أو قتل . ورحم الله صاحب الكشاف ، فقد أجاد فى تصوير هذه المعانى فقال ما ملخصه قوله { ٱتَّبِعُواْ مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُّهْتَدُونَ } كلمة جامعة فى الاستجابة لدعوة الرسل ، أى لا تخسرون معهم شيئا من دنياكم ، وتربحون صحة دينكم ، فينتظم لكم خير الدنيا وخير الآخرة . ثم أبرز الكلام فى معرض المناصحة لنفسه ، وهو يريد مناصحتهم ، وليتلطف بهم وبداريهم … فقال { وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ ٱلَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } . ثم قال { إِنِّيۤ آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَٱسْمَعُونِ } يريد فاسمعوا قولى وأطيعونى ، فقد نيهتكم على الصحيح الذى لا معدل عنه ، أن العبادة لا تصح إلا لمن منه مبتدؤكم وإليه مرجعكم . ولكن هذه النصائح الغالية الحكيمة من الرجل الصالح لقومه ، لم تصادف أذنا واعية بل إن سياق القصة بعد ذلك ليوحى بأن قومه قتلوه ، فقد قال - تعالى - بعد أن حكى نصائح هذا الرجل لقومه ، { قِيلَ ٱدْخُلِ ٱلْجَنَّةَ … } أى قالت الملائكة لهذا الرجل الصالح عند موته على سبيل البشارة ادخل الجنة بسبب إيمانك وعملك الطيب . قال الآلوسى قوله { قِيلَ ٱدْخُلِ ٱلْجَنَّةَ … } استئناف لبيان ما وقع له بعد قوله ذلك . والظاهر أن الأمر المقصود به الإِذن له بدخول الجنة حقيقة ، وفى ذلك إشارة إلى أن الرجل قد فارق الحياة ، فعن ابن مسعود أنه بعد أن قال ما قال قتلوه … وقيل الأمر للتبشير لا للإِذن بالدخول حقيقة ، أى قالت ملائكة الموت وذلك على سبيل البشارة له بأنه من أهل الجنة - يدخلها إذا دخلها المؤمنون بعد البعث . وقوله - تعالى - { قَالَ يٰلَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ . بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ ٱلْمُكْرَمِينَ } استئناف بيانى لبيان ما قاله عند البشارة . أى قيل له ادخل الجنة بسبب إيمانك وعملك الصالح ، فرد وقال يا ليت قومى الذين قتلونى ولم يسمعوا نصحى ، يعلمون بما نلته من ثواب من ربى ، فقد غفر لى - سبحانه - وجعلنى من المكرمين عنده ، بفضله وإحسانه … قال ابن كثير ومقصوده - من هذا القول - أنهم لو اطلعوا على ما حصل عليه من ثواب ونعيم مقيم ، لقادهم ذلك إلى اتباع الرسل ، فرحمه الله ورضى عنه ، فلقد كان حريصا على هداية قومه . روى ابن أبى حاتم أن عروة بن مسعود الثقفى ، قال للنبى صلى الله عليه وسلم " ابعثني إلى قومي أدعوهم إلى الإِسلام ، فقال له صلى الله عليه وسلم " إني أخاف أن يقتلوك " فقال يا رسول الله ، لو وجدوني نائماً ما أيقظونى . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " انطلق إليهم " فانطلق إليهم ، فمر على اللات والعزى ، فقال لأصْبِحَنك غداً بما يسؤوك ، فغضبت ثقيف فقال لهم يا معشر ثقيف أسلموا تسلموا - ثلاث مرات - . فرماه رجل منهم فأصاب أكْحَلَه فقتله - والأكحل عرق فى وسط الذراع - فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال " هذا مثله كمثل صاحب يس { قَالَ يٰلَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ . بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ ٱلْمُكْرَمِينَ } " . وقال صاحب الكشاف ما ملخصه وقوله { يٰلَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ … } إنما تمنى علم قومه بحاله ، ليكون علمهم بها سببا لاكتساب مثلها لأنفسهم ، بالتوبة عن الكفر ، والدخول فى الإِيمان … وفى حديث مرفوع " نصح قومه حيا وميتا " . وفيه تنبيه عظيم على وجوب كظم الغيظ والحلم عن أهل الجهل والترؤف على من أدخل نفسه فى غمار الأشرار وأهل البغى ، والتشمر فى تخليصه ، والتلطف فى افتدائه ، والاشتغال بذلك عن الشماتة به ، والدعاء عليه ، ألا ترى كيف تمنى الخير لقتلته ، وللباغين له الغوائل وهم كفرة وعبدة أصنام . ثم بين - سبحانه - ما نزل بأصحاب القرية من عذاب أهلكهم فقال { وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَىٰ قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ } أى من بعد موته . { مِن جُندٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } لأنهم كانوا أحقر وأهون من أن نفعل معهم ذلك . { وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ } أى وما صح وما استقام فى حكمتنا أن ننزل عليهم جندا من السماء ، لهوان شأنهم ، وهوان قدرهم . { إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً } أى ما كانت عقوبتنا لهم إلا صيحة واحدة صاحها بهم جبريل بأمرنا . { فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ } أى هامدون ميتون ، شأنهم فى ذلك كشأن النار التى أصابها الخمود والانطفاء ، بعد أن كانت مشتعلة ملتهبة ، يقال . خمدت النار تخمد خمودا . إذا سكن لهيبها ، وانطفأ شررها ، وخمد الرجل - كقعد - إذا مات وانقطعت أنفاسه . وهكذا كانت نهاية الذين كذبوا المرسلين ، وقتلوا المصلحين ، فقد نزلت بهم عقوبة الله - تعالى - فجعلتهم فى ديارهم جاثمين . وبعد أن بين - سبحانه - سوء مصارع المكذبين ، أتبع ذلك بدعوة الناس إلى الاتعاظ بذلك من قبل فوات الأوان ، فقال - تعالى - { يٰحَسْرَةً عَلَى ٱلْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } والحسرة الغم والحزن على ما فات ، والندم عليه ندما لا نفع من ورائه ، كأن المتحسر قد انحسرت عنه قواه وذهبت ، وصار فى غير استطاعته إرجاعها . و " يا " حرف نداء و " حسرة " منادى ونداؤها على المجاز بتنزيلها منزلة العقلاء . والمراد بالعباد أولئك الذين كذبوا الرسل ، وآثروا العمى على الهدى ، ويدخل فيهم دخولا أوليا أصحاب تلك القرية المهلكة والمقصود من الآية الكريمة ، التعجب من حال هؤلاء المهلكين ، وبيان أن حالهم تستحق التأثر والتأسف والاعتبار ، لأنها حالة تدل على بؤسهم وظلمهم لأنفسهم وجهلهم . والمعنى يا حسرة على العباد الذين أهلكوا بسبب إصرارهم على كفرهم احضرى فهذا أوان حضورك ، فإن هؤلاء المهلكين كانوا فى دنياهم ما يأتيهم من رسول من الرسل ، إلا كانوا به يستهزئون ، ويتغامزون ، ويستخفون به وبدعوته ، مع أنهم - لو كانوا يعقلون . لقابلوا دعوة رسلهم بالطاعة والانقياد . قال صاحب الكشاف قوله { يٰحَسْرَةً عَلَى ٱلْعِبَادِ … } نداء للحسرة عليهم ، كأنما قيل لها تعالى يا حسرة فهذه من أحوالك التى حقك أن تحضرى فيها ، وهى حال استهزائهم بالرسل . والمعنى أنهم أحقاء بأن يتحسر عليهم المتحسرون ، ويتلهف عليهم المتلهفون . أو هم متحسر عليهم من جهة الملائكة والمؤمنين من الثقلين . وقرئ يا حسرة العباد ، على الإضافة إليهم لاختصاصها بهم ، من حيث إنها موجهة إليهم . أى يا حسرة العباد منهم على أنفسهم ، بسبب تكذيبهم لرسلهم ، واستهزائهم بهم . ثم وبخ - سبحانه - كفار مكة ، بسبب عدم اعتبارهم بمن سبقهم فقال { أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ ٱلْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ } . والقرون جمع قرن . وهم القوم المتقرنون فى زمن واحد . و " كم " خبرية بمعنى كثير . أى ألم يعلم كفار مكة أننا أهلكنا كثيرا من الأمم السابقة عليهم ، بسبب إصرارهم على كفرهم ، واستهزائهم برسلهم ، وأن هؤلاء المهلكين لا يرجعون إليهم ليخبروهم بما جرى لهم ، لأنهم لن يستطيعوا ذلك فى الدنيا ، لحكمة أرادها الله - تعالى - . ولكن الجميع سيعودون إليه - سبحانه - وسيبعثهم يوم القيامة من قبورهم للحساب والجزاء ، كما قال - تعالى - { وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ } . و " إن " حرف نفى ، و " كل " مبتدأ ، والتنوين فيه عوض عن المضاف إليه و " لما " بمعنى إلا . و { جميع } خبر المبتدأ . و { محضرون } خبر ثان . أى لقد علم أهل مكة وغيرهم أننا أهلكنا كثيرا من القرى الظالم أهلها . وأن هؤلاء المهلكين لن يرجعوا إلى أهل مكة فى الدنيا ، ولكن الحقيقة التى لا شك فيها أنه ما من أمة من الأمم ، أو جماعة من الجماعات المتقدمة أو المتأخرة إلا ومرجعها إلينا يوم القيامة ، لنحاسبها على أعمالها ، ولنجازيها بالجزاء الذى تستحقه . كما قال - سبحانه - فى آية أخرى { وَإِنَّ كُـلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } ثم ساق - سبحانه - بعد ذلك ألوانا من الأدلة الدالة على وحدانيته وقدرته ، وهذه الأدلة منها ما هو أرضى ، ومنها ما هو سماوى ، ومنه ما هو بحري ، وكلها تدل - أيضا - على فضله ورحمته ، قال - تعالى - { وَآيَةٌ لَّهُمُ ٱلأَرْضُ ٱلْمَيْتَةُ … } .