Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 36, Ayat: 33-44)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قال الإِمام الرازى ما ملخصه قوله { وَآيَةٌ لَّهُمُ ٱلأَرْضُ ٱلْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا } وجه تعلقه بما قبله ، أنه - سبحانه - لما قال { وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ } كان ذلك إشارة إلى الحشر ، فذكر ما يدل على إمكانه قطعا لإِنكارهم واستبعادهم ، وعنادهم فقال { وَآيَةٌ لَّهُمُ ٱلأَرْضُ ٱلْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا … } أى وكذلك نحيى الموتى … والمراد بالآية هنا العلامة والبرهان والدليل . والمراد بالأرض الميتة الأرض الجدباء التى لا نبات فيها . والمراد بالحب جنسه من حنطة وشعير وغيرهما . أى ومن العلامات الواضحة لهؤلاء المشركين على قدرتنا على إحياء الموتى ، أننا ننزل الماء على الأرض الجدباء ، فتهتز وتربو ، وتخرج ألوانا وأصنافا من الحبوب التى يعيشون عليها . ويأكلون منها . وذكر - سبحانه - لفظ { آية } للإِشعار بأنها آية عظيمة ، كان ينبغى لهؤلاء المشركين أن يلتفتوا إليها ، لأنهم يشاهدون بأعينهم الأرض القاحلة السوداء ، كيف تتحول إلى أرض خضراء بعد نزول المطر عليها . والله - تعالى - الذى قدر على ذلك ، قادر - أيضا - على إحياء الموتى وإعادتهم إلى الحياة . وقوله { أَحْيَيْنَاهَا } كلام مستأنف مبين لكيفية كون الأرض الميتة آية . وقدم - سبحانه - الجار والمجرور فى قوله { فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ } للدلالة على أن الحَبَّ هو الشئ الذى تكون منه معظم المأكولات التى يعيشون عليها ، وأن قِلَّتَه تؤدى إلى القحط والجوع . ثم بين - سبحانه - بعض النعم الأخرى التى تحملها الأرض لهم فقال { وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ ٱلْعُيُونِ } . والآية الكريمة معطوفة على قوله { أَحْيَيْنَاهَا } ، ونخيل جمع نخل ، كعبيد جمع عبد ، وأعناب جمع عنب والعيون ، جمع عين . والمراد بها الآبار التى تسقى بها الزروع . أى أحيينا هذه الأرض الميتة بالماء … وجعلنا فيها - بقدرتنا ورحمتنا - بساتين كثيرة من نخيل وأعناب ، وفجرنا وشققنا فيها كثيرا من الآبار والعيون التى تسقى بها تلك الزروع والثمار . وخص النخيل والأعناب بالذكر ، لأنها أشهر الفواكه المعروفة لديهم ، وأنفعها عندهم . واللام فى قوله { لِيَأْكُلُواْ مِن ثَمَرِهِ } متعلق بقوله { وجعلنا … } . والضمير فى قوله { مِن ثَمَرِهِ } يعود إلى المذكور من الجنات والنخيل والأعناب . أو إلى الله - تعالى - . أى وجعلنا فى الأرض ما جعلنا من جناب ومن نخيل ومن أعناب ، ليأكلوا ثمار هذه الأشياء التى جعلناها لهم ، وليشكرونا على هذه النعم . و " ما " فى قوله { وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ } الظاهر أنها نافية والجملة حالية ، والاستفهام للحض على الشكر . أى جعلنا لهم فى الأرض جنات من نخيل وأعناب ، ليأكلوا من ثمار ما جعلناه لهم ، وإن هذه الثمار لم تصنعها أيديهم ، وإنما الذى أوجدها وصنعها هو الله - تعالى - بقدرته ومشيئته . وما دام الأمر كذلك ، فهلا شكرونا على نعمنا ، وأخلصوا العبادة لنا . قال ابن كثير وقوله { وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ } أى وماذاك كله إلا من رحمتنا بهم ، لا بسعيهم ولا كدهم ، ولا بحولهم وقوتهم . قاله ابن عباس وقتادة . ولهذا قال { أَفَلاَ يَشْكُرُونَ } أى فهلا يشكرونه على ما أنعم به عليهم من هذه النعم التى لا تعد ولا تحصى . ويصح أن تكون " ما " هنا موصولة فيكون المعنى ليأكلوا من ثمره ومن الذى عملته أيديهم من هذه الثمار كالعصير الناتج منها ، وكغرسهم لتلك الأشجار وتعهدها بالسقى وغيره ، إلى أن آتت أكلها . قال الشوكانى وقوله { وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ } معطوف على ثمره ، أى ليأكلوا من ثمره ، ويأكلوا مما عملته أيديهم كالعصير والدبس ونحوهما وكذلك ما غرسوه وحفروه على أن " ما " موصولة ، وقيل هى نافية ، والمعنى لم يعملوه بأيديهم ، بل العامل له هو الله … ثم أثنى - سبحانه - على ذاته بما هو أهل له من ثناء فقال { سُبْحَانَ ٱلَّذِي خَلَق ٱلأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ ٱلأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ } . ولفظ { سبحان } اسم مصدر منصوب على أنه مفعول مطلق بفعل محذوف ، والتقدير سبحت الله سبحانا أى تسبيحا . بمعنى نزهته تنزيها عن كل سوء ، وعظمته تعظيما . و " من " فى الآية الكريمة للبيان . أى ننزه الله - تعالى - تنزيها عن كل سوء . ونعظمه تعظيما لا نهاية له ، فهو - عز وجل - { ٱلَّذِي خَلَق ٱلأَزْوَاجَ كُلَّهَا } أى الأنواع ، والأصناف كلها ذكورا وإناثا . { مِمَّا تُنبِتُ ٱلأَرْضُ } أى خلق الأصناف كلها التى تنبت فى الأرض من حبوب وغيرها . { وَمِنْ أَنفُسِهِمْ } أى وخلقها من أنفسهم إذ الذكر من الأنثى ، والأنثى من الذكر . { وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ } أى وخلق هذه الأصناف كلها من أشياء لا علم لهم بها ، وإنما مرد علمها إليه وحده - تعالى - كما قال - سبحانه - { وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } فالمقصود من الآية الكريمة بيان لمظهر من مظاهر قدرته - تعالى - وبديع خلقه ، حيث خلق الأصناف كلها ، نرى بعضها نابتا فى الأرض ، ونرى بعضها متمثلا فى الإِنسان المكون من ذكر وأنثى ، وهناك مخلوقات أخرى لا يعلمها إلا الله - تعالى - . وبعد أن بين - سبحانه - مظاهر قدرته عن طريق التأمل فى الأرض التى نعيش عليها ، عقب ذلك ببيان مظاهر قدرته عن طريق التأمل فى تقلب الليل والنهار ، وتعاقب الشمس والقمر ، فقال - تعالى - { وَآيَةٌ لَّهُمُ ٱلَّيلُ نَسْلَخُ مِنْهُ ٱلنَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ } . وقوله { نسلخ } من السلخ بمعنى الكشط والإِزالة ، يقال سلخ فلان جلد الشاة ، إذا أزاله عنها . والمراد هنا إزلة ضوء النهار عن الليل ، ليبقى لليل ظلمته . قال صاحب الكشاف سَلخ جلد الشاة ، إذا كشطه عنها وأزاله . ومنه سَلْخُ الحيةِ لِخرْشَائها - أى لجلدها - فاستعير ذلك لإِزالة الضوء وكشفه عن مكان الليل ، وملقى ظله . أى ومن البراهين والعلامات الواضحة ، الدالة على وحدانية الله ، وقدرته على إحياء الموتى ، وجود الليل والنهار بهذه الطريقة التى نشاهدها ، حيث ينزع - سبحانه - عن الليل النهار ، فيبقى لليل ظلامه ، ويصير الناس فى ليل مظلم ، بعد أن كانوا فى نهار مضئ . فمعنى { فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ } فإذا هم داخلون فى الظلام ، بعد أن كانوا بعيدين عنه . يقال أظلم القوم . إذا دخلوا فى الظلام . وأصبحوا ، إذا دخلوا فى وقت الصباح . وقوله - تعالى - { وَٱلشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَـا } بيان لدليل آخر على قدرته - تعالى - وهو معطوف على قوله - تعالى - قبل ذلك { وَآيَةٌ لَّهُمُ ٱلَّيلُ … } قال الآلوسى ما ملخصه وقوله { لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَـا } أى لحد معين تنتهى إليه … شبه بمستقر المسافر إذا انتهى من سيره ، والمستقر عليه اسم مكان ، واللام بمعنى إلى … ويصح أن يكون اسم زمان ، على أنها تجرى إلى وقت لها لا تتعداه ، وعلى هذا فمستقرها انتهاء سيرها عند انقضاء الدنيا … والمعنى وآية أخرى لهم على قدرتنا ، وهى أن الشمس تجرى إلى مكان معين لا تتعداه وإلى زمن محدد لا تتجاوزه وهذا المكان وذلك الزمان ، كلاهما لا يعلمه إلا الله - تعالى - . قال بعض العلماء قوله - تعالى - { وَٱلشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَـا } أى والشمس تدور حول نفسها ، وكان المظنون أنها ثابتة فى موضعها الذى تدور فيه حول نفسها . ولكن عرف أخيرا أنها ليست مستقرة فى مكانها ، وإنما هى تجرى فعلا … تجرى فى اتجاه واحد ، فى هذا الفضاء الكونى الهائل بسرعة حسبها الفلكيون باثنى عشر ميلا فى الثانية . والله ربها الخبير بجريانها وبمصيرها يقول إنها تجرى لمستقر لها ، هذا المستقر الذى ستنتهى إليه لا يعلمه إلا هو - سبحانه - ولا يعلم موعده سواه . وحين نتصور أن حجم هذه الشمس يبلغ نحو مليون ضعف لحجم أرضنا هذه ، وأن هذه الكتلة الهائلة تتحرك أو تجرى فى الفضاء لا يسندها شئ ، حين نتصور ذلك ، ندرك طرفا من صفة القدرة التى تصرف هذا الوجود عن قوة وعن علم . وقد ساق القرطبى عند تفسيره لهذه الآية جملة من الأحاديث فقال وفى صحيح مسلم عن أبى ذر قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله - تعالى - { وَٱلشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَـا } قال مستقرها تحت العرش . ولفظ البخارى عن أبى ذر قال " قال النبي صلى الله عليه وسلم لي حين غربت الشمس . " تدري أين تذهب " ؟ قلت الله ورسوله أعلم . قال فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش ، فتستأذن فيؤذن لها ، ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها ، وتستأذن فلا يؤذن لها . فقال لها ارجعي من حيث جئت . فتطلع من مغربها . فذلك قوله - تعالى { وَٱلشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَـا } " . واسم الإِشارة فى قوله { ذَلِكَ تَقْدِيرُ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ } يعود إلى الجرى المفهوم من " تجرى " . أى ذلك الجريان البديع العجيب المقدر الشمس ، تقدير الله - تعالى - العزيز الذى لا يغلبه غالب ، العليم بكل شئ فى هذا الكون علما لا يخفى معه قليل أو كثير من أحوال هذا الكون . ثم ذكر - سبحانه - آية أخرى تتعلق بكمال قدرته فقال { وَٱلْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ … } ولفظ القمر قراه جمهور القراء بالنصب على أنه مفعول لفعل محذوف يفسره ما بعده . والمنازل جمع منزل . والمراد بها أماكن سيره فى كل ليلة ، وهى ثمان وعشرون منزلا ، تبدأ من أول ليلة فى الشهر ، إلى الليلة الثامنة والعشرين منه . ثم يستتر القمر ليلتين إن كان الشهر تاما . ويستتر ليلة واحدة إن كان الشهر تسعا وعشرين ليلة . أى وقدرنا سير القمر فى منازل ، بأن ينزل فى كل ليلة فى منزل لا يتخطاه ولا يتقاصر عنه ، إذ كل شئ عندنا بمقدار … وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو " والقمر " بالرفع على الابتداء ، وخبره جملة " قدرناه " . قال الآلوسى ما ملخصه . قوله { وَٱلْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ } - بالنصب - أى وصيرنا سيره ، أى محله الذى يسير فيه " منازل " فقدَّر بمعنى صيرَّ الناصب لمفعولين . والكلام على حذف مضاف ، والمضاف المحذوف مفعوله الأول { مَنَازِلَ } مفعوله الثانى . وقرأ الحرميان وأبو عمرو { وَٱلْقَمَرَ } بالرفع ، على الابتداء ، وجملة { قَدَّرْنَاهُ } خبره . والمنازل جمع منزل ، والمراد به المسافة التى يقطعها القمر فى يوم وليلة . وقوله - سبحانه - { حَتَّىٰ عَادَ كَٱلعُرجُونِ ٱلْقَدِيمِ } تصوير بديع لحالة القمر وهو فى آخر منازله . والعرجون هو قنو النخلة ما بين الشماريخ إلى منبته منها ، وهو الذى يحمل ثمار النخلة سواء أكانت تلك الثمار مستوية أم غير مستوية . وسمى عرجونا من الانعراج ، وهو الانعطاف والتقوس ، شبه به القمر فى دقته وتقوسه واصفراره . أى وصيرنا سير القمر فى منازل لا يتعداها ولا يتقاصر عنها ، فإذا صار فى آخر منازله ، أصبح فى دقته وتقوسه كالعرجون القديم ، أى العتيق اليابس . قال بعض العلماء والذى يلاحظ القمر ليلة بعد ليلة . يدرك ظل التعبير القرآنى العجيب { حَتَّىٰ عَادَ كَٱلعُرجُونِ ٱلْقَدِيمِ } وبخاصة ظل ذلك اللفظ { ٱلْقَدِيمِ } . فالمقر فى لياليه الأولى هلال . وفى لياليه الأخيرة هلال . ولكنه فى لياليه الأولى يبدو وكأن فيه نضارة وقوة . وفى لياليه الأخيرة يطلع وكأنما يغشاه سهوم ووجوم ، ويكون فيه شحوب وذبول . ذبول العرجون القديم ، فليست مصادفة أن يعبر القرآن عنه هذا التعبير الموحى العجيب . وقوله - تعالى - { لاَ ٱلشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ ٱلقَمَرَ وَلاَ ٱلَّيلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } بيان لدقة نظامه - سبحانه - فى كونه ، وأن هذا الكون الهائل يسير بترتيب فى أسمى درجات الدقة ، وحسن التنظيم . أى لا يصح ولا يتأتى للشمس أن تدرك القمر فى مسيره فتجتمع معه بالليل . وكذلك لا يصح ولا يتأتى لليل أن يسبق النهار ، بأنه يزاحمه فى محله أو وقته ، وإنما كل واحد من الشمس والقمر ، والليل والنهار ، يسير ، فى هذا الكون بنظام بديع قدره الله - تعالى - له ، بحيث لا يسبق غيره ، أو يزاحمه فى سيره . قال الإِمام ابن كثير قوله - تعالى - { لاَ ٱلشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ ٱلقَمَرَ } قال مجاهد لكل منهما حد لا يعدوه ، ولا يَقَصُر دونه ، إذا جاء سلطان هذا ذهب هذا ، وإذا ذهب سلطان هذا جاء سلطان هذا … وقال عكرمة يعنى أن لكل منها سلطانا فلا ينبغى للشمس أن تطلع بالليل . وقوله { وَلاَ ٱلَّيلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِ } يقول لا ينبغى إذا كان الليل أن يكون ليل آخر ، حتى يكون النهار … وقوله - تعالى - { وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } التنوين فى " كل " عوض عن المضاف إليه … قال الآلوسى والفلك مجرى الكواكب ، سمى بذلك لاستدارته ، كفلكة المغزل ، وهى الخشبة المستديرة فى وسطه ، وفلكه الخيمة ، وهى الخشبة المستديرة التى توضع على رأس العمود لئلا تتمزق الخيمة . أى وكل من الشمس والقمر ، والليل والنهار ، فى أجزاء هذا الكون يسيرون بانبساط وسهولة ، لأن قدرة الله - تعالى - تمنعهم من التصادم أو التزاحم أو الاضطراب . ثم ذكر - سبحانه - نوعا آخر من النعم التى امتن بها على عباده فقال { وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي ٱلْفُلْكِ ٱلْمَشْحُونِ } . وللمفسرين فى تفسير هذه الآية أقوال منها أن الضمير فى " لهم " يعود إلى أهل مكة ، والمراد بذريتهم أولادهم صغارا وكبارا ، والمراد بالفلك المشحون جنس السفن . فيكون المعنى ومن العلامات الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا ، أننا حملنا - بفضلنا ورحمتنا - أولادهم صغارا وكبارا فى السفن المملوءة بما ينفعهم دون أن يصيبهم أذى ، وسخرنا لهم هذه السفن لينتقلوا فيها من مكان إلى آخر . ويرى بعضهم أن الضمير فى " لهم " يعود إلى الناس عامة ، والمراد بذريتهم آباؤهم الأقدمون ، والمراد بذريتهم آباؤهم الأقدمون ، والمراد بالفلك المشحون سفينة نوح - عليه السلام - التى أنجاه الله - تعالى - فيها بمن معه من المؤمنين ، الذين لم يبق على وجه الأرض من ذرية آدم غيرهم . فيكون المعنى وعلامة ودليل واضح للناس جميعا على قدرتنا ، أننا حملنا - بفضلنا ورحمتنا - آباءهم الأقدمين الذين آمنوا بنوح - عليه السلام - فى السفينة التى أمرناه بصنعها ، والتى كانت مليئة ومشحونة ، بما ينتفعون به فى حياتهم . قال الجمل وإطلاق الذرية على الأصول صحيح ، فإن لفظ الذرية مشترك بين الضدين ، الأصول والفروع لأن الذرية من الذرء بمعنى الخلق . والفروع مخلوقون من الأصول ، والأصول خلقت منها الفروع . فاسم الذرية يقع على الآباء كما يقع على الأولاد . وهذا الرأى الثانى قد اختاره الإِمام ابن كثير ولم يذكر سواه ، فقد قال رحمه الله يقول - تعالى - ودلالة لهم - أيضا - على قدرته - تعالى - تسخيره البحر ليحمل السفن ، فمن ذلك - بل أوله - سفينة نوح التى أنجاه الله فيها بمن معه من المؤمنين ، ولهذا قال { وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ } أى آباءهم . { فِي ٱلْفُلْكِ ٱلْمَشْحُونِ } أى فى السفينة المملوءة بالأمتعة والحيوانات ، التى أمره الله أن يحمل فيها من كل زوجين اثنين . وقوله - تعالى - { وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ } بيان لنعمة أخرى من نعمه - تعالى - على عباده . والضمير فى قوله - تعالى - { مِّن مِّثْلِهِ } يعود على السفن المشبهة لسفينة نوح - عليه السلام - . قال القرطبى ما ملخصه قوله - تعالى - { وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ } والأصل ما يركبونه … والضمير فى { مِّن مِّثْلِهِ } للإِبل . خلقها لهم للركوب فى البر ، مثل السفن المركوبة فى البحر ، والعرب تشبه الإِبل بالسفن . وقيل إنه للإِبل والدواب وكل ما يركب . والأصح أنه للسفن . أى خلقنا لهم سفنا أمثالها ، أى أمثال سفينة نوح يركبون فيها . قال الضحاك وغيره هى السفن المتخذة بعد سفينة نوح - عليه السلام - . ثم بين - سبحانه - مظهرا آخر من مظاهر فضله على الناس فقال { وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ . إِلاَّ رَحْمَةً مِّنَّا وَمَتَاعاً إِلَىٰ حِينٍ } . الصريخ المغيث أى فلا مغيث لهم . أو فلا إغاثة لهم ، على أنه مصدر كالصراخ ، لأن المستغيث الخائف ينادى به من ينقذه ، فيصرخ المغيث له قائلا جاءك الغوث والعون . والاستثناء هنا مفرغ من أعم العلل . أى وإن نشأ أن نغرق المحمولين فى السفن أغرقناهم ، دون أن يجدوا من يغيثهم منا ، أو من ينقذهم من الغرق ، سوى رحمتنا بهم ، وفضلنا عليهم ، وتمتيعنا إياهم بالحياة إلى وقت معين تنقضى عنده حياتهم . فالآيتان الكريمتان تصوران مظاهر قدرة الله ورحمته بعباده أكمل تصوير وذلك لأن السفن التى تجرى فى البحر - مهما عظمت - تصير عندما تشتد أمواجه فى حالة شديدة من الاضطراب ، ويغشى الراكبين فيها من الهول والفزع ما يغشاهم ، وفى تلك الظروف العصيبة لا نجاة لهم مما هم فيه إلا عن طريق رعاية الله - تعالى - ورحمته بهم . ثم ذكر - سبحانه - جانبا من رد المشركين السيئ على من يدعوهم إلى الخير ، ومن جهالاتهم حيث تعجلوا العذاب الذى لا محيص لهم عنه ، ومن أحوالهم عند قيام الساعة ، فقال - تعالى - { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّقُواْ مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ … } .