Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 38, Ayat: 49-64)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قال الآلوسى " هذا " إشارة إلى ما تقدم من الآيات الناطقة بمحاسنهم " ذكر " أى شرف لهم … والمراد أن فى ذكر قصصهم … شرف عظيم لهم . أو المعنى هذا المذكور من الآيات نوع من الذكر الذى هو القرآن ، وذكر ذلك للانتقال من نوع من الكلام إلى آخر ، كما يقول الجاحظ فى كتبه فهذا باب ، ثم يشرع فى باب آخر . ويقول الكاتب إذا فرغ من فصل من كتابه وأراد الشروع فى آخر هذا ، وكان كيت وكيت ، ويحذف على ما قيل الخبر فى مثل ذلك كثيرا ، وعليه { هَـٰذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ … } وقوله - تعالى - { وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ } بيان لما أعده لهم - سبحانه - فى الآخرة من عطاء جزيل ، وثواب عظيم . والمآب اسم مكان من آب فلان يؤوب إذا رجع ، والمراد بالمتقين كل من تحققت فيه صفة التقوى والخوف من الله - تعالى - وعلى رأسهم الأنبياء الذين اصطفاهم الله - تعالى - واختارهم لتبليغ رسالته . أى وإن للمتقين فى الآخرة لمنزل كريم يرجعون إليه فى الآخرة . فيجدون فيه مالا عين رأت . ولا أذن سمعت . ولا خطر على قلب بشر . واسم الإِشارة فى قوله - تعالى - { هَـٰذَا ذِكْرٌ } يعود إلى ما ذكره - سبحانه - فى الآيات السابقة ، عن هؤلاء الأنبياء من ثناء وتكريم . والذكر الشرف والفضل . أى هذا الذى ذكرناه عن هؤلاء الأنبياء شرف لهم ، وذكر جميل يذكرون به إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها . ثم فصل - سبحانه - ما أعده لهم فى الآخرة من تكريم فقال { جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ ٱلأَبْوَابُ } . والعدن فى اللغة الإِقامة الدائمة فى المكان . يقال عدن فلان بمكان كذا ، إذا أقام به إقامة دائمة . وجنات بدل اشتمال من قوله { لَحُسْنَ مَآبٍ } . أى هؤلاء المتقون أكرمناهم فى الدنيا بالذكر الحسن . ونكرمهم فى الآخرة بأن ندخلهم جنات عظيمة دخولا دائما مؤبدا ، وقد فتحت أبوابها على سبيل التكريم لهم . والحفاوة بمقدمهم . { مُتَّكِئِينَ فِيهَا … } أى فى تلك الجنات . وانتصب لفظ " متكئين " على الحال من ضمير " لهم " والعامل فيه قوله { مُّفَتَّحَةً } . وقوله { يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ } استئناف لبيان حالهم فى الجنات ، أو حال - أيضا - من ضمير " لهم " . أى أن المتقين لهم جنات عظيمة . فاتحة لهم أبوابها على سبيل التكريم ويجلسون فيها جلسة الآمن المطمئن المنعم ، حيث يتكئون ويستندون على الآرائك ، ويطلبون أنواعا كثيرة من الفاكهة اللذيذة ، ومن الشراب الطيب ، فيبلى طلبهم فى الحال . ثم يضاف إلى هذه الفاكهة والشراب ، ما بينه - سبحانه - فى قوله { وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ ٱلطَّرْفِ أَتْرَابٌ } أى وعندهم فضلا عن كل ما تقدم نساء ذوات حياء ، وقد قصرن أعينهن على أرواحهن فلا يتطلعن إلى غيرهم ، لشدة محبتهن لهم . وهن متساويات فى السن والجمال والأخلاق الكريمة . فمعنى أتراب أنهن متساويات فى السن والجمال والشباب . مأخوذ من التراب . لأن التراب يمسهن فى وقت واحد لاتحاد مولدهن أو من الترائب وهى عظام الصدر المتماثلة . ثم بين - سبحانه - أن هذا العطاء العظيم مقابل عملهم الصالح فى الدنيا فقال { هَـٰذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ ٱلْحِسَابِ } . واللام فى قوله { لِيَوْمِ } للتعليل . أى هذا الذى ذكرناه لكم من نعيم الجنات . هو جزاء إيمانكم وعملكم الصالح من أجل يوم الحساب . ثم ختم - سبحانه - جزاءهم ببيان أنه جزاء خالد لا ينقطع ولا ينقص فقال { إِنَّ هَـٰذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ } . أى إن هذا الذى ذكرناه لكم - أيها المتقون - من الجنات وما اشتملت عليه من نعيم ، هو رزقنا الدائم لكم . وليس له من نفاذ أو انقطاع أو انتقاص . يقال نفد الشئ نفادا ونفدا ، إذا فنى وهلك وذهب . ومن الآيات التى وردت فى هذا المعنى قوله - تعالى - { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } أى غير مقطوع . وبعد هذا الحديث الذى يشرح الصدور عن المؤمنين وحسن عاقبتهم . جاء الحديث عن الكافرين وسوء مصيرهم - كما هى عادة القرآن الكريم فى قرن الترغيب بالترهيب فقال - تعالى - { هَـٰذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ } . واسم الإِشارة خبر لمبتدأ محذوف . أى الأمر هذا ، أو مبتدأ محذوف الخبر أى هذا للمؤمنين . وجملة { وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ } معطوفة على جملة " هذا " على التقديرين . أى الأمر كما ذكرنا لك - أيها الرسول الكريم - بالنسبة للمتقين ، أما الطاغون الذين تجاوزوا الحدود فى الكفر والجحود والإعراض عن الحق ، فإن مرجعهم إلينا سيكون شر مرجع ، بسبب إصرارهم على كفرهم . { جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ } أى إذا كان المتقون يدخلون الجنات التى فتحت لهم أبوابها ، فإن الطاغين تستقبلهم جهنم بسعيرها ولهيبها فيلقون فيها ويفترشون نارها ، وبئست هى فراشاً ومهادا . { هَـٰذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاق } واسم الإشارة هنا مرفوع على الابتداء ، وخبره قوله { حَمِيمٌ وَغَسَّاق } وما بينهما اعتراض . والحميم الماء الذى بلغ النهاية فى الحرارة ، والغساق صديد يسيل من أجساد أهل النار مأخوذ من قولهم غسق الجرح - كضرب وسمع - غسقانا إذا سال منه الصديد وما يشبهه . أى هذا هو عذابنا الذى أعددناه لهم ، يتمثل فى ماء بلغ الغاية فى الحرارة ، وفى قيح وصديد يسيلان من أجسادهم ، فليذوقوا كل ذلك جزاء كفرهم وجحودهم . { وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ } أى ليس عذابهم مقصوراً على الحميم والغساق بل لهم أنواع أخرى من العذاب ، تشبه فى شكلها وفى فظاعتها وفى شدتها ، الحميم والغساق . فقوله { وَآخَرُ } مبتدأ ، وقوله { مِن شَكْلِهِ } صفته ، وقوله { أَزْوَاجٌ } خبره . والآية الكريمة معطوفة على الآية التى قبلها . ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك ما يقوله أهل النار بعضهم لبعض على سبيل الندم والتحسر والتقريع . فقال { هَـٰذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لاَ مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُواْ ٱلنَّارِ } . والفوج الجمع الكثير من الناس ، والاقتحام ركوب الشدة والدخول فيها . يقال قحم فلان نفسه فى الأمر ، إذا رمى نفسه فيه من غير روية . أى قال الكفار بعضهم لبعض بعد أن رأوا غيرهم يلقى فى النار معهم ، أو قالت الملائكة لهم على سبيل التقريع والتأنيب { هَـٰذَا فَوْجٌ } أى جمع كثير من أتباعكم وإخوانكم فى الضلال . { مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ } أى داخل معكم النار وعلى غير اختيار منه . وإنما يساق إليها سوقا فى ذلة ومهانة . وهنا يقول زعماء الكفر { لاَ مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُواْ ٱلنَّارِ } أى لا مرحباً ولا أهلاً بهؤلاء الداخلين فى النار معنا ، لأنهم سيصلون سعيرها مثلنا ، ولن يستطيعوا أن يدفعوا شيئا من حرها عنا … فقوله { مَرْحَباً } مفعول به لفعل محذوف وجوبا ، والتقدير أتوا معنا لا مرحباً بهم . والجملة دعائية لا محل لها من الإِعراب أى لا أتوا مكانا رحباً بل ضيقاً ، وهنا يحكى القرآن رد الفوج المقتحم للنار معهم فيقول { قَالُواْ بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ … } أى قال الداخلون فى النار وهم الأتباع لرؤسائهم بل أنتم الذين لا مرحباً بكم ، وإنما الضيق والهلاك لكم . { أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ ٱلْقَرَارُ } أى لا مرحباً بكم لأنكم أنتم أيها الزعماء الذين تسببتم لنا دخول النار معكم ، إذ دعوتمونا فى الدنيا إلى الكفر فاتبعناكم فبئس القرار والمنزل لنا ولكم جهنم . فالجملة الكريمة تعليل لأحقية الرؤساء بدخول النار ، ويقولها الأتباع على سبيل التشفى منهم . ثم يضيفون إلى ذلك قولهم { رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَـٰذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي ٱلنَّارِ } . أى يا ربنا من كان سببا فى نزول هذا العذاب بنا ، فزده عذابا مضاعفاً فى النار ، لأننا لولا هؤلاء الرؤساء وإضلالهم لنا ، لما صرنا إلى هذا المصير الأليم . وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - حكاية عنهم { وَقَالُواْ رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا ٱلسَّبِيلاْ . رَبَّنَآ آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ ٱلْعَذَابِ وَٱلْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً } ثم حكى - سبحانه - ما يقوله أئمة الكفر ، عندما يدورون بأعينهم فى النار ، فلا يرون المؤمنين الذين كانوا يستهزئون بهم فى الدنيا فقال { وَقَالُواْ مَا لَنَا لاَ نَرَىٰ رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِّنَ ٱلأَشْرَارِ … } أى وقال رؤساء الكفر على سبيل التحسر والتعجب وهم ملقون فى النار مالنا لا نرى معنا فى جهنم رجالاً من فقراء المؤمنين ، كنا نعدهم فى الدنيا من الأراذل الأخساء ، لسوء حالهم ، وقلة ذات يدهم . قال القرطبى قال ابن عباس يريدون أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يقول أبو جهل أين بلال ؟ أين صهيب ؟ أين عمار ؟ أولئك فى الفردوس ، واعجبا لأبى جهل ! مسكين أسلم ابنه عكرمة ، وابنته جويرية ، وأسلمت أمه ، وأسلم أخوه ، وكفر هو . قال @ ونوراً أضاء الأرض شرقاً ومغرباً وموضع رجلي منه أسود مظلم @@ ثم حكى القرآن ما سأله هؤلاء المشركون لأنفسهم عندما تلفتوا فى النار ، فلم يجدوا أحداً من المؤمنين الذين كانوا يصفونهم بأنهم من الأشرار فقال { أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ ٱلأَبْصَار } . أى إنهم بعد أن دخلوا النار أخذوا يدورون بأعينهم فيها فلم يروا المؤمنين الذين كانوا يستهزئون بهم فى الدنيا ، فقالوا فيما بينهم ما بالنا لا نرى الرجال الذين كنا نسخر منهم فى الدنيا ، ألم يدخلوا معنا النار ؟ أم دخلوها ولكن أبصارنا لا تراهم وزاغت عنهم ؟ فهم يتحسرون على أحوالهم البائسة بعد أن وجدوا أنفسهم فى النار ، وليس معهم من كانوا يسخرون منهم فى الدنيا وهم فقراء المؤمنين . قال صاحب الكشاف قوله { أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً } قرئ بلفظ الإِخبار على أنه صفة لقوله { رجالا } مثل قوله { كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِّنَ ٱلأَشْرَارِ } وقرئ بهمزة الاستفهام على أنه إنكار على أنفسهم وتأنيب لها فى الاستسخار منهم . وقوله { أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ ٱلأَبْصَار } له وجهان من الاتصال أحدهما أن يتصل بقوله { مالنا } أى مالنا لا نراهم فى النار ؟ كأنهم ليسوا فيها ، بل أزاغت عنهم أبصارنا فلا نراهم وهم فيها ؟ قسموا أمرهم بين أن يكونوا من أهل الجنة وبين أن يكونوا من أهل النار إلا أنهم خفى عليهم مكانهم . الوجه الثانى أن يتصل بقوله { أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً … } على معنى أى الفعلين فعلنا بهم الاستسخار منهم ، أم الازدراء بهم والتحقير ، وأن أبصارنا كانت تعلو عنهم وتقتحمهم ، على معنى إنكار الأمرين جميعاً على أنفسهم … واسم الإِشارة فى قوله - تعالى - { إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ ٱلنَّارِ } يعود إلى التخاصم الذى حكى عنهم . وقوله { لَحَقٌّ } خبر إن . وقوله { تَخَاصُمُ } خبر لمبتدأ محذوف ، والجملة بيان لاسم الإِشارة ، وفى الإِبهام أولاً والتبيين ثانياً مزيد تقرير له . أى إن ذلك الذى قصصناه عليك - أيها الرسول الكريم - من تخاصم أهل النار فيما بينهم وتلاعنهم … حق لا شك فيه ، وثابت ثبوتاً لا يختلف عليه عاقلان . وبذلك تكون الآيات الكريمة قد ساقت بأبلغ بيان ما أعده الله - تعالى - للمتقين من ثواب ، وما أعده للطاغين من عقاب . ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة ، بتلقين رسوله صلى الله عليه وسلم الرد الذى يرد به على المشركين المعترضين على دعوته ، وببيان موقف إبليس من أمر الله - تعالى - له بالسجود لآدم ، وببيان ما أعده - سبحانه - لإبليس وجنده من عذاب . فقال - تعالى - { قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ مُنذِرٌ وَمَا … } .