Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 39, Ayat: 27-31)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

واللام فى قوله - تعالى - { وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ … } موطئة للقسم . أى والله لقد ضربنا وكررنا بأساليب متنوعة فى هذا القرآن العظيم ، من كل مثل يحتاج إليه الناس فى أمورهم وشئونهم ، وينتفعون به فى دنياهم ودينهم . وقوله - تعالى - { لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } تعليل لضرب المثل . أى فعلنا ذلك فى كتابنا الذى هو أحسن الحديث ، كى يتعظوا ويعتبروا ويتذكروا ما أمرناهم به ، أو نهيناهم عنه . فلعل هنا بمعنى كى التعليلية ، وهذا التعليل إنما هو بالنسبة إلى غيره - تعالى - . وقوله - سبحانه - { قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ … } ثناء آخر منه - تعالى - على كتابه الكريم . والجملة الكريمة حال مؤكدة من قوله قبل ذلك { هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ … } أى هذا القرآن قرآنا عربيا لا لبس فيه ولا اختلاف ولا اضطراب ولا تناقض . قال صاحب الكشاف قوله { قُرْآناً عَرَبِيّاً } حال مؤكدة كقولك جاءنى زيد رجلا صالحا ، وإنسانا عاقلا . ويجوز أن ينتصب على المدح { غَيْرَ ذِي عِوَجٍ } أى مستقيما بريئا من التناقض والاختلاف . فإن قلت فهلا قيل مستقيما ، أو غير معوج ؟ قلت فيه فائدتان إحداهما نفى أن يكون فيه عوج قط ، كما قال { وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا } والثانية أن لفظ العوج مختص بالمعانى دون الأعيان … وقيل المراد بالعوج الشك واللبس ، وأنشد @ وقد أتاك غير ذى عوج من الإِله وقول غير مكذوب @@ وقوله { لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } علة أخرى لاشتمال القرآن على الامتثال المتكررة المتنوعة . أى كررنا الأمثال النافعة فى هذا القرآن للناس ، كى يتقوا الله - تعالى - ويخشوا عقابه . ثم ضرب - سبحانه - مثلا للعبد المشرك وللعبد المؤمن ، فقال { ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ … } وقوله { مَثَلاً } مفعول ثان لضرب ، و { رَّجُلاً } مفعوله الأول . وأخر عن المفعول الثانى للتشويق إليه ، وليتصل به ما هو من تتمته ، وهو التمثيل لحال الكافر والمؤمن . وقوله { مُتَشَاكِسُونَ } من الشاكس بمعنى التنازع والتخاصم وسوء الخلق ، يقال رجل شَكْس وشكِس - بفتح الشين مع إسكان الكاف أو كسرها وفعله من باب كرم - إذا كان صعب الطباع ، عسر الخلق . وقوله " سلما " بفتح السين واللام - مصدر وصف به على سبيل المبالغة . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو " سالما " أى خالصا لسيده دون أن ينازعه فيه منازع . والمعنى إن مثل المشرك الذى يعبد آلهة متعددة ، كمثل عبد مملوك لجماعة متشاكسين متنازعين لسوء أخلاقهم وطباعهم ، وهذا العبد موزع وممزق بينهم ، لأن أحدهم يطلب منه شيئا معينا ، والثانى يطلب منه شيئا يباين ما طلبه الأول ، والثالث يطلب منه ما يتناقض مع ما طلبه الأول والثانى … وهو حائر بينهم جميعا ، لا يدرى أو يطيع ما أمره به الأول أم الثانى أم الثالث . … ؟ لأنه لا يملك أن يطيع أهواءهم المتنازعة التى تمزق أفكاره وقواه . هذا هو مثل المشرك فى حيرته وضلاله وانتكاس حاله . أما مثل المؤمن فهو كمثل عبد مملوك لسيد واحد ، وخالص لفرد واحد ، وليس لغيره من سبيل إليه ، فهو يخدم سيده بإخلاص وطاعة ، لأنه يعرف ماله وما عليه ، وفى راحة تامة من الحيرة والمتاعب التى انغمس فيها ذلك العبد الذى يملكه الشركاء المتشاكسون . فالمقصود بهذين المثلين بيان ما عليه العبد المشرك من ضلال وتحير وتمزق ، وما عليه العبد المؤمن من هداية واستقرار واطمئنان . واختار - سبحانه - الرجل لضرب المثلين ، لأنه أتم معرفة من غيره لما يتعبه ولما يريحه ولما يسعده ولما يشقيه . قال صاحب الكشاف - رحمه الله - عند تفسيره لهذه الآية واضرب - يا محمد - لقومك مثلا وقل لهم ما تقولون فى رجل من المماليك قد اشترك فيه شركاء ، بينهم اختلاف وتنازع . كل واحد منهم يدعى أنه عبده ، فهم يتجاذبونه ، ويتعاورونه فى مهن شتى ، وإذا عنت له حاجة تدافعوه ، فهو متحير فى أمره ، قد تشعبت الهموم قلبه ، وتوزعت أفكاره ، لا يدرى أيهم يرضى بخدمته ، وعلى أيهم يعتمد فى حاجاته . وفى آخر قد سلم لمالك واحد وخلص له ، فهو معتنق لما لزمه من خدمته معتمد عليه فيما يصلحه ، فهمه واحد ، وقلبه مجتمع ، أى هذين العبدين أحسن وأجمل شأنا ؟ والمراد تمثيل حال من يثبت آلهة شتى … ويبقى متحيرا ضائعا لا يدرى أيهم يعبد ، وممن يطلب رزقه ؟ فَهمَّهُ شَعَاع - بفتح الشين أى متفرق - ، وقلبه أوزاع ، وحال من لم يثبت إلا إلها واحدا ، فهو قائم بما كلفه ، عارف بما أرضاه وما أسخطه ، متفضل عليه فى عاجله ، مؤمل للثواب فى آجله . والاستفهام فى قوله - تعالى - { هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً } للإنكار والاستبعاد . أى لا يستوى الرجل الذى فيه شركاء متشاكسون ، والرجل الذى سلم لرجل آخر ، فى رأى أى ناظر ، وفى عقل أى عاقل ، فالأول فى حيرة من أمره ، والثانى على بينة من شأنه . وساق - سبحانه - هذا المعنى فى صورة الاستفهام ، للإِشعار بأن ذلك من الجلاء والوضوح بحيث لا يخفى على كل ذى عقل سليم . وانتصب لفظ " مثلا " على التمييز المحول عن الفاعل ، لأن الأصل هل يستوى مثلهما وحالهما ؟ وجملة { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } تقرير وتأكيد لما قبلها من نفى الاستواء واستبعاده ، وتصريح بأن ما عليه المؤمنون من إخلاص فى العبودية لله - تعالى - يستحق منهم كل شكر وثناء على الله - عز وجل - حيث وفقهم لذلك . وقوله - تعالى - { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } إضراب وانتقال من بيان عدم الاستواء على الوجه المذكور ، إلى بيان أن أكثر الناس وهم المشركون لا يعلمون هذه الحقيقة مع ظهورها ووضوحها لكل ذى عينين يبصرهما ، وعقل يعقل به . ثم أخبر - سبحانه - رسوله صلى الله عليه وسلم بأن الموت سينزل به كما سينزل بأعدائه الذين يتربصون به ريب المنون ، ولكن فى الوقت الذى يشاؤه الله - تعالى - فقال - { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } . أى إنك - أيها الرسول الكريم - سيلحقك الموت ، كما أنه سيلحق هؤلاء المشركين لا محالة ، وما دام الأمر كذلك فأى موجب لتعجل الموت الذى يعم الخلق جميعا . وجاء الحديث عن حلول الموت به صلى الله عليه وسلم وبأعدائه ، بأسلوب التأكيد ، للإِيذان بأنه لا معنى لاستبطائهم لموته صلى الله عليه وسلم ولا للشماتة به صلى الله عليه وسلم إذا ما نزل به الموت ، إذ لا يشمت الفانى فى الفانى مثله . ثم بين - سبحانه - ما يكون بينه وبينهم يوم القيامة فقال { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ } . أى ثم إنكم جميعا يوم القيامة عند ربكم وخالقكم تختصمون وتحتكمون ، فتقيم عليهم - أيها الرسول الكريم - الحجة ، بأنك قد بلغت الرسالة ، وهم يعتذرون بالأباطيل والتعليلات الكاذبة ، والأقوال الفاسدة ، وسينتقم ربك من الظالم للمظلوم ، ومن المبطل للمحق . هذا ، وقد ساق الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية ، جملة من الأحاديث والآثار فقال ما ملخصه ثم إن هذه الآية - وإن كان سياقها فى المؤمنين والكافرين ، وذكر الخصومة بينهم فى الدار الآخرة - فإنها شاملة لكل متنازعين فى الدنيا ، فإنه تعاد عليهم الخصومة فى الدار الآخرة . روى ابن أبى حاتم عن الزبير بن العوام - رضى الله عنه - قال " لما نزلت هذه الآية قلت يا رسول الله أتكرر علينا الخصومة ؟ قال نعم . قلت إنَّ الأمر إذاً لشديد " . وروى الإِمام أحمد عن أبى سعيد الخدرى قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " والذي نفسي بيده إنه ليختصم حتى الشاتان فيما انتطحتا " . وقال ابن عباس يخاصم الصادقُ الكاذبَ ، والمظلومُ الظالمَ ، والمهدىُّ الضالَّ ، والضعيفُ المُسْتَكْبِرَ . ثم بين - سبحانه - أنه لا أحد أشد ظلما ممن كذب على الله - تعالى - وكذب بالصدق إذ جاءه ، وأن من صفات المتقين أنهم يؤمنون بالحق ، ويدافعون عنه ، وأنه - سبحانه - سيكفر عنهم سيئاتهم … فقال - تعالى - { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى ٱللَّهِ … } .