Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 39, Ayat: 53-59)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ذكر المفسرون فى سبب نزول قوله - تعالى - { قُلْ يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ } روايات منها ما رواه محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر عن أبيه عمر بن الخطاب قال لما اجتمعنا على الهجرة . تواعدت أنا وهشام بن العاص بن وائل السَّهْمى وعيَّاش بن أبى ربيعة بن عتبة ، فقلنا الموعد أضَاةَ بنى غفار - أى غدير بنى غفار - وقلنا من تأخر منا فقد حبس فليمض صاحبه فأصبحت أنا وعياش بن عتبة ، وحبس عنا هشام ، وإذا به قد فُتِن فافتَتنَ ، فكنا نقول بالمدينة هؤلاء قد عرفوا الله - عز وجل - وآمنوا برسوله صلى الله عليه وسلم ، ثم افتتنوا لبلاء لحقهم لا نرى لهم توبة ، وكانوا هم - أيضاً - يقولون هذا فى أنفسهم . فأنزل الله - عز وجل - فى كتابه { قُلْ يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ … } إلى قوله - تعالى - { أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ } قال عمر فكتبتها بيدى ، ثم بعثتها إلى هشام . قال هشام فلما قدمت على خرجت بها إلى ذى طوى فقلت اللهم فهمنيها ، فعرفت أنها نزلت فينا ، فرجعت فجلست على بعيرى فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم . والأمر فى قوله - تعالى - { قُلْ يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ } موجه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وإضافة العباد إلى الله - تعالى - للتشريف والتكريم . والإِسراف تجاوز الحد فى كل شئ ، وأشهر ما يكون استعمالا فى الإِنفاق ، كما فى قوله - تعالى - { يَابَنِيۤ ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُوۤاْ } والمراد بالإِسراف هنا الإِسراف فى اقتراف المعاصى والسيئات ، والخطاب للمؤمنين المذنبين . وعدى الفعل " أسرفوا " بعلى ، لتضمنه معنى الجناية ، أى جنوا على أنفسهم . والقُنُوط اليأس ، وفعله من بابى ضرب وتعب . يقال فلان قانط من الحصول على هذا الشئ ، أى يائس من ذلك ولا أمل له فى تحقيق ما يريده . والمعنى قل - أيها الرسول الكريم - لعبادى المؤمنين الذين جنوا على أنفسهم بارتكابهم للمعاصى ، قل لهم لا تيأسوا من رحمة الله - تعالى - ومن مغفرته لكم . وجملة { إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعاً } تعليلية . أى لا تيأسوا من رحمة الله - تعالى لأنه هو الذى تفضل بمحو الذنوب جميعها . لمن يشاء من عباده المؤمنين العصاة . { إِنَّهُ } - سبحانه - { هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ } أى هو الواسع المغفرة والرحمة لمن يشاء من عباده المؤمنين ، فهم إن تابوا من ذنوبهم قبل - سبحانه - توبتهم كما وعد تفضلا منه وكرما ، وإن ما توا دون أن يتوبوا ، فهم تحت رحمته ومشيئته ، إن شاء غفر لهم ، وإن شاء عذبهم ، ثم أدخلهم الجنة بفضله وكرمه . أما غير المؤمنين ، فإنهم إن تابوا من كفرهم ودخلوا فى الإِسلام ، غفر - سبحانه - ما كان منهم قبل الإِسلام لأن الإِسلام يَجُبّ ما قبله . وإن ماتوا على كفرهم فلن يغفر الله - تعالى - لهم ، لقوله { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذٰلِكَ لِمَن يَشَآءُ } قال الإِمام الشوكانى واعلم أن هذه الآية أرجى آية فى كتاب الله ، لاشتمالها على أعظم بشارة ، فإنه أولا أضاف العباد إلى نفسه لقصد تشريفهم ، ومزيد تبشيرهم ، ثم وصفهم بالإسراف فى المعاصى … ثم عقب على ذلك بالنهى عن القنوط من الرحمة … ثم جاء بما لا يبقى بعده شك ولا يتخالج القلب عند سماعه ظن فقال { إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ … } فالألف واللام قد صيرت الجمع الذى دخلت عليه للجنس الذى يستلزم استغراق أفراده ، فهو فى قوة إن الله يغفر كل ذنب كائنا ما كان ، إلا ما أخرجه النص القرآنى وهو الشرك . ثم لم يكتف بما أخبر به عباده من مغفرة كل ذنب ، بل أكد ذلك بقوله { جميعا } فيالها من بشارة ترتاح لها النفوس … وما أحسن تعليل هذا الكلام بقوله { إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ … } . وقال الجمل فى حاشيته ما ملخصه وفى هذه الآية من أنواع المعانى والبيان أشياء حسنة ، منها إقباله عليهم ، ونداؤهم ، ومنها إضافتهم إليه إضافة تشريف ، ومنها الالتفات من التكلم إلى الغيبة ، فى قوله { مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ } ، ومنها إضافة الرحمة لأجل أسمائه الحسنى ، ومنها إعادة الظاهر بلفظه فى قوله { إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ } ومنها إبراز الجملة من قوله { إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ } مؤكدة بإن ، والفصل ، وبإعادة الصفتين اللتين تضمنتهما الجملة السابقة . وقال عبد الله بن مسعود وغيره هذه أرجى آية فى كتاب الله تعالى . وبعد أن فتح - سبحانه - لعباده باب رحمته فتحا واسعا كريما … أتبع ذلك بحضهم على التوبة والإِنابة إليه ، حتى يزيدهم من فضله وإحسانه فقال { وَأَنِـيبُوۤاْ إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ ٱلْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ } . أى قل لهم - أيها الرسول الكريم - لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا ، وارجعوا إليه بالتوبة والإِنابة ، وأخلصوا له العبادة ، من قبل أن ينزل بكم العذاب الذى لا تستطيعون دفعه ثم لا تجدون من ينجيكم منه . فأنت ترى أن الآية الأولى بعد أن فتحت للعصاة باب رحمة الله على مصراعيه ، جاءت الآية الثانية فحثتهم على التوبة الصادقة النصوح ، حتى تكون رحمة الله - تعالى - بهم أكمل وأتم وأوسع ، فإن التوبة النصوح سبب فى تحويل السيئات إلى حسنات . كما قال - تعالى - { إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَـٰئِكَ يُبَدِّلُ ٱللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } ثم أمرهم باتباع أوامر القرآن الكريم ونواهيه فقال { وَٱتَّبِعُـوۤاْ أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُـمْ } أى واتبعوا هذا القرآن الكريم ، الذى هو أحسن ما أنزله - سبحانه - إليكم ، بسبب ما اشتمل عليه من هدايات سامية ، ومن تشريعات حكيمة ، ومن آداب قويمة . فإن اتباع ما اشتمل عليه هذا القرآن من توجيهات . يؤدى إلى السعادة فى الدنيا والآخرة . وقوله { مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُـمُ ٱلْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } متعلق بالأمر بالاتباع ، وإرشاد إلى وجوب الامتثال بدون تأخير أو تسويف . أى سارعو إلى اتباع إرشادات وتشريعات وآداب هذا القرآن ، من قبل أن ينزل بكم العذاب فجأة وبدون مقدمات ، بحيث لا تشعرون بإتيانه إلا عند نزوله . فالآية الكريمة تقرير وتأكيد لما قبلها من الدعوة إلى المسارعة بالتوبة وبالعمل الصالح . وقوله { أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يٰحَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ ٱللَّه … } فى موضع المفعول لأجله بتقدير مضاف محذوف . أى اتبعوا ما أمرناكم به ، واحذروا ما نهيناكم عنه ، كراهة أن تقول نفس يوم القيامة { يٰحَسْرَتَا } أى يا ندامتى { عَلَىٰ مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ ٱللَّه … } أى بسبب تفريطى وتقصيرى فى طاعة الله ، وفى حقه - تعالى - . وأصل الجنب والجانب الجهة المحسوسة للشئ ، وأطلق على الطاعة على سبيل المجاز ، حيث شبهت بالجهة . بجامع تعلق كل منهما - أى الجانب والطاعة - بصاحبه . إذ الطاعة لها تعلق بالله - تعالى - . كما أن الجهة لها تعلق بصاحبها . قال صاحب الكشاف فإن قلت لم نكرت " نفس " ؟ قلت لأن المراد بها بعض الأنفس وهى نفس الكافر . ويجوز أن يكون نفس متميزة من الأنفس إما بلجاج فى الكفر شديد ، أو بعذاب عظيم ، ويجوز أن يراد التكثير ، كما قال الأعشى @ دعا قومه حولي فجاءوا لنصره وناديت قوماً بالمسناة غيباً ورب بقيع لو هتفت بجوه أتاني كريم ينفض الرأس مغضباً @@ وهو يريد أفواجا من الكرام ينصرونه ، لا كريما واحدا … وجملة { وَإِن كُنتُ لَمِنَ ٱلسَّاخِرِينَ } فى محل نصب على الحال . أى فرطت فى جنب الله وطاعته ، والحال أنى لم أكن إلا من الساخرين بدينه ، المستهزئين بأتباع هذا الدين الحق . قال قتادة لم يكفه أنه ضيع طاعة الله حتى سخر من أهلها . ثم ذكر - سبحانه - مقالة أخرى مما تقوله تلك النفس فقال { أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ ٱللَّهَ هَدَانِي } إلى طاعته واتباع دينه { لَكُـنتُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ } للشرك والمعاصى ، ومن الذين صانوا أنفسهم عما يغضبه - سبحانه - ولا يرضيه . ثم ذكر - سبحانه - مقالة ثالثة لها فقال { أَوْ تَقُولَ } هذه النفس { حِينَ تَرَى ٱلْعَذَابَ } فى الآخرة { لَوْ أَنَّ لِي كَـرَّةً } أى رجعة إلى الدنيا { فَأَكُونَ } فيها { مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ } لأقوالهم وأفعالهم ، وعقائدهم ، بحيث أخلص العبادة لله - تعالى - وأطيعه فى السر والعلن . وهكذا يصور القرآن الكريم أحوال النفوس فى الآخرة ، تصوير مؤثرا بليغاً ، يحمل كل عاقل على الإِيمان الصالح الذى ينفعه فى ذلك اليوم الهائل الشديد . وقوله - سبحانه - { بَلَىٰ قَدْ جَآءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَٱسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ } رد منه - عز وجل - على هذا القائل { لَوْ أَنَّ ٱللَّهَ هَدَانِي لَكُـنتُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ } وتكذيب له فى هذه الدعوى . والمراد بالآيات الحجج والبراهين الدالة على حقيقة دين الإِسلام ، وعلى رأسها آيات القرآن الكريم . أى ليس الأمر كما ذكرت أيها النادم على ما فرط منه ، من أن الله لم يهدك إلى الطريق القويم ، بل الحق أن الله - تعالى قد أرشدك إليه عن طريق إرسال رسوله ، وإنزال كتابه ، ولكنك كذبت رسوله ، واستكبرت عن سماع آيات الله وعن اتباعها ، وكنت فى دنياك من الكافرين بها ، الجاحدين لصدقها ، فأصابك ما أصابك من عذاب الآخرة بسبب أعمالك القبيحة فى الدنيا . قال الشوكانى وجاء - سبحانه - بخطاب المذكر فى قوله " جاءتك ، وكذبت ، واستكبرت ، وكنت " لأن النفس تطلق على المذكر والمؤنث . قال المبرد تقول العرب نفس واحد . أى ، إنسان واحد … ثم انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن أحوال الكافرين والمؤمنين يوم القيامة ، وعن مظاهر قدرة الله - تعالى - وعن تلقين الله - تعالى - لنبيه صلى الله عليه وسلم الجواب الذى يرد به على المشركين . وعن أحوال الناس عند النفخ فى الصور … قال - تعالى - { وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ تَرَى ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ … } .