Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 39, Ayat: 5-7)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

فقوله - تعالى - { خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ } تفصيل لبعض أفعاله الدالة على وحدانيته - سبحانه - وقدرته . أى الله وحده هو الذى أوجد هذه السموات وتلك الأرض ، إيجادا ملتبساً بالحق والحكمة والمصلحة التى تعود عليكم - أيها الناس - بالخير والمنفعة ومن كان شأنه كذلك ، استحال أن يكون له شريك أو ولد . ثم ساق - سبحانه - دليلا ثانيا على وحدانيته فقال { يُكَوِّرُ ٱللَّيْـلَ عَلَى ٱلنَّهَـارِ وَيُكَوِّرُ ٱلنَّـهَارَ عَلَى ٱللَّيْلِ } . والتكوير فى اللغة طرح الشئ بعضه على بعض . يقال كور فلان المتاع ، إذا ألقى بعضه على بعض ، ومنه كور العمامة . أى انضمام بعض أجزائها على بعض . والمقصود أن الليل والنهار كلاهما يكُر على الآخر فيذهبه ويحل محله ، بطريقة متناسقة محكمة لا اختلال معها ولا اضطراب . قال صاحب الكشاف " والتكوير اللف واللى . يقال كارَ العمامة على رأسه وكوَّرها . وفيه أوجه ، منها أن الليل والنهار خلفة يذهب هذا ويأتى مكانه هذا ، وإذا غشى مكانه ، فكأنما ألبسه ولف عليه ، كما يلف اللباس على اللابس . ومنها أن كل واحد منهما يغيب الآخر إذا طرأ عليه ، فشبه فى تغييبه إياه بشئ ظاهر لف عليه ما غيبه عن مطامح الأبصار . ومنها أن هذا يكر على هذا كرورا متتابعا ، فشبه ذلك بتتابع أكوار العمامة بعضها على إثر بعض " . قال بعض العلماء ما ملخصه " والتعبير بقوله " يكور … " تعبير عجيب ، يقسر الناظر فيه قسرا على الالتفات إلى ما كشف حديثا عن كروية الأرض فهو يصور حقيقة مادة ملحوظة على وجه الأرض ، فالأرض الكروية تدور حول نفسها فى مواجهة الشمس ، فالجزء الذى يواجه الشمس من سطحها المكور يغمره الضوء ويكون نهارا . ولكن هذا الجزء لا يثبت لأن الأرض تدور . وكلما تحركت بدأ الليل يغمر السطح الذى كان عليه النهار . وهذا السطح مكور ، فالنهار كان عليه مكورا ، والليل يتبعه مكورا كذلك ، وبعد فترة يبدأ النهار من الناحية الأخرى يتكور على الليل ، وهكذا فى حركة دائبة " يكور - سبحانه - الليل على النهار ويكور النهار على الليل " . واللفظ يرسم الشكل ، ويحدد الوضع ، ويعين نوع طبيعة الأرض وحركتها ، وكروية الأرض ودورانها ، يفسران هذا التعبير تفسيرا أدق من أى تفسير آخر لا يستصحب هذه النظرية . ثم ذكر - سبحانه - دليلا ثالثا على وحدانيته وقدرته فقال { وَسَخَّـرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ كُـلٌّ يَجْرِي لأَجَـلٍ مُّسَـمًّى } والتسخير التذليل والانقياد والطاعة التامة . أى وجعل - سبحانه - الشمس والقمر منقادين لأمره انقيادا تاملا وكلاهما يجرى فى مداره إلى الوقت المحدد فى علم الله - تعالى - لنهاية دورانه ، وانقطاع حركته . وهما فى جريانهما يسيران بنظام محكم دقيق غاية الدقة ، كما قال - تعالى - { لاَ ٱلشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ ٱلقَمَرَ وَلاَ ٱلَّيلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله { أَلا هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْغَفَّارُ } . وفى تصدير الجملة الكريمة بأداة الاستفتاح { ألا } إشارة إلى كمال الاعتناء بمضمونها ، وإلى وجوب التدبر فيما اشتملت عليه . أى ألا إن الله - تعالى - وحده هو الخالق لكل تلك المخلوقات ، وهو وحده المتصرف فيها ، والمهيمن عليها ، وهو وحده { ٱلْعَزِيزُ } الغالب على كل ما سواه ، الكثير المغفرة لذنوب عباده التائبين إليه توبة نصوحا . ثم ساق - سبحانه - أدلة أخرى على وحدانية فقال { خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } . أى خلقكم - سبحانه - من نفس واحدة هى نفس أبيكم آدم ثم خلق من هذه النفس الواحدة ، زوجها وهى أمكم حواء . قال الشوكانى والتعبير بالجعل دون الخلق مع العطف بثم . للدلالة على أن خلق حواء من ضلع آدم ، أدخل فى كونه آية باهرة دالة على كمال القدرة لأن خلق آدم هو على عادة الله المستمرة فى خلقه ، وخلق حواء على الصفة المذكورة لم تَجرِبه عادة لكونه - تعالى - لم يخلق أنثى من ضلع رجل غيرها . وقال الجمل فإن قلت كيف عطف بثم مع أن خلق حواء من آدم سابق على خلقنا منه ؟ أجيب بأن ثم هنا للترتيب فى الإِخبار لا فى الإِيجاد . أو المعطوف متعلق بمعنى واحدة ، فثم عاطفة عليه لا على خلقكم ، فمعناه خلقكم من نفس واحدة أفردت بالإِيجاد ، ثم شفعت بزوجة . أو هو معطوف على خلقكم ، لكن المراد بخلقهم ، خلقهم يوم أخذ الميثاق دفعة لا على هذا الخلق ، الذى هو فيه الآن بالتوالد والتناسل . وقوله - تعالى - { وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } بيان لبعض آخر من أفعاله - تعالى - الدالة على وحدانيته وقدرته . والجملة الكريمة معطوفة على ما قبلها وهى قوله { خلقكم } . أى وأنزل لكم من كل من الإِبل والبقر والغنم والمعز زوجين ذكرا وأنثى يتم بهما التناسل وبقاء النوع . قالوا وعبر - سبحانه - عن الخلق بالإِنزال ، لما يروى أنه - تعالى - خلق هذه الأنواع فى الجنة ثم أنزلها ، فيكون الإِنزال على سبيل الحقيقة . أو أن الكلام على سبيل المجاز ، لأن هذه الأنعام لا تعيش إلا عن طريق ما تأكله من نبات ، والنبات لا يخرج إلا بالماء النازل من السماء فكأن الأنعام نازلة من السماء ، لأن سبب سببها منزل منها … أو أن " أنزل " هنا بمعنى أنشأ وأوجد . أو لأن الخلق إنما يكون بأمر من السماء . وقوله - تعالى - { يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُـمْ خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ } بيان لكيفية خلق ما خلقه الله من الأناسى والأنعام بتلك الطريقة العجيبة . أى أنه - تعالى - يخلقكم - أيها الناس - بقدرته فى بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق ، بأن يحولكم من نطفة إلى علقة إلى مضغة ، إلى عظام مكسوة باللحم ، ثم يحولكم بعد ذلك إلى خلق آخر ، وهذه المراحل كلها تتم وأنتم فى ظلمات بطون أمهاتكم ، وظلمات الأرحام التى بداخل البطون وظلمات الغشاء الذى بداخل الأرحام والبطون ، وذلك كله من أقوى الأدلة على قدرة الله - تعالى - ورعايته لخلقه . وصدق الله إذ يقول { أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ . فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ . إِلَىٰ قَدَرٍ مَّعْلُومٍ . فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ ٱلْقَادِرُونَ } واسم الإِشارة فى قوله - تعالى - { ذَلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ ٱلْمُلْكُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ } يعود إليه - سبحانه - باعتبار أفعاله السابقة . وتصرفون من الصرف بمعنى الابتعاد عن الشئ إلى غيره . أى ذلكم العظيم الشأن الذى ذكرنا لكم بعض مظاهر قدرته ، هو الله ربكم الذى له ملك كل شئ ، والذى لا معبود بحق سواه ، فكيف تصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره ؟ وكيف تزعمون أن له شريكا أو ولدا … مع توفر الأدلة على بطلان ذلك . والمتأمل فى هاتين الآيتين يراهما قد ذكرتا ألوانا من البراهين على وحدانية الله - تعالى - وقدرته ، كخلق السموات والأرض بالحق ، وتكوير الليل على النهار ، والنهار على الليل ، وتسخير الشمس والقمر لمنافع الناس ، وخلق الناس جميعا من نفس واحدة ، ورعايتهم بلطفه وإحسانه فى مراحل حياتهم ، وإيجاد الأنعام التى تنفعهم فى شئونهم المختلفة . ثم بين - سبحانه - أنه غنى عن خلقه ، وأنهم هم الفقراء إليه فقال { إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلاَ يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ ٱلْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ } . أى إن تكفروا - أيها الناس - بعد أن سقنا لكم من الأدلة ما سقنا على صحة الإِيمان وفساد الكفر ، فإن الله - تعالى - غنى عنكم وعن إيمانكم وعبادتكم وعن الخلق أجمعين . ومع ذلك فإنه - سبحانه - لرحمته بكم ، لا يرضى لعباده الكفر ، أى لا يحبه منهم ولا يحمده لهم ، ولا يجازى الكافر المجازاة التى يجازى بها المؤمن فإن المؤمن له جنات النعيم ، أما الكافر فله نار الجحيم . وإن تشكروا الله على نعمه - أيها الناس - بأن تخلصوا له العبادة والطاعة وتستعملوا نعمه فيما خلقت له ، يرض لكم هذا الشكر ، ويكافئكم عليه مكافأة جزيلة . بأن يزيدكم من نعمه وإحسانه وخيره . { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ } أى ولا تحمل نفس يوم القيامة حمل أخرى ، وِإنما كل نفس تجازى على حسب أعمالها فى الدنيا . { ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُـمْ } يوم القيامة { فَيُنَبِّئُكُـمْ } أى فيخبركم { بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } فى دنياكم ، ويجازى الذين أساءوا بما عملوا ، ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى . { إِنَّهُ } - سبحانه - { عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } أى عليم بما تخفيه الصدور من أسرار ، وبما تضمره القلوب من أقوال وأفعال … لا يخفى عليه شئ فى الأرض ولا فى السماء . قال الجمل فى حاشيته قوله { وَلاَ يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ ٱلْكُفْرَ } معنى عدم الرضا به ، لا يفعل فعل الراضى ، بأن يأذن فيه ويقر عليه ، ويثيب فاعله ويمدحه ، بل يفعل فعل الساخط بأن ينهى عنه ، ويذم عليه ، ويعاقب مرتكبه وإن كان بإرادته ، إذ لا يخرج شئ عنها . أو المعنى ولا يرضى لعباده المؤمنين الكفر ، وهم الذين قال الله - تعالى - فى شأنهم { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } فيكون الكلام عاما فى اللفظ خاصا فى المعنى ، كقوله - تعالى - { عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ ٱللَّهِ } أى بعض العباد . وبذلك ترى هذه الآية الكريمة قد أقامت الأدلة المتعددة على وحدانية الله - تعالى - وعلى كمال قدرته ، وعلى أن من شكر الله - تعالى - على نعمه ، فإن عاقبة هذا الشكر تعود على الشاكر بالخير الجزيل ، أما من جحد نعم الله - تعالى - وأشرك معه فى العبادة غيره ، فإن عاقبة هذا الجحود ، تعود على الجاحد بالشر الوبيل ، وبالشفاء فى الدنيا والآخرة . وبعد أن أقام - سبحانه - الأدلة المتعددة على وحدانيته وكمال قدرته ، أتبع ذلك بالحديث عن طبيعة الإِنسان فى حالتى السراء والضراء ، ونفى - سبحانه - المساواة بين المؤمنين والكافرين ، والعلماء والجهلاء فقال - تعالى - { وَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا … } .