Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 40, Ayat: 61-68)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
فقوله - تعالى - { ٱللَّهُ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّيلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَٱلنَّهَـارَ مُبْصِـراً } بيان لنعمتى الليل والنهار اللتين أنعم بهما - سبحانه - على الناس . أى الله - تعالى - هو وحده الذى جعل لكم - أيها الناس - الليل لتسكنوا فيه ، وتستريحوا من عناء العمل بالنهار وهيأه لهذه الاستراحة بأن جعله مظلما ساكنا … وجعل لكم بقدرته وفضله النهار مبصرا ، أى جعله مضيئا مسفرا ، بحيث تبصرون فيه ما تريدون إبصاره ، من الأشياء المتنوعة . قال صاحب الكشاف قوله { مُبْصِـراً } هو من الإِسناد المجازى لأن الإِبصار فى الحقيقة لأهل النهار . فإن قلت لم قرن الليل بالمفعول له ، والنهار بالحال ؟ وهلا كانا حالين أو مفعولا لهما . فيراعى حق المقابلة ؟ قلت هما متقابلان من حيث المعنى ، لأن كل واحد منهما يؤدى مؤدى الآخر ، ولأنه لو قال لتبصروا فيه فاتت الفصاحة التى فى الإِسناد المجازى ، ولو قيل ساكنا - والليل يجوز أن يوصف بالسكون على الحقيقة ، ألا ترى إلى قولهم ليل ساج وساكن لا ريح فيه - لم تتميز الحقيقة من المجاز . وقوله { إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْـثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ } بيان لموقف أكثر الناس من نعم الله - تعالى - عليهم . أى إن الله - تعالى - لصاحب فضل عظيم على الناس جميعا ، ولكن أكثرهم لا يشكرونه على آلائه ونعمه ، لغفلتهم وجهلهم واستيلاء الأهواء والشهوات عليهم . وقال - سبحانه - { لَذُو فَضْلٍ } بالتنكير للإِشعار بأنه فضل لا تحيط به عبارة أو وصف . واسم الإِشارة فى قوله - تعالى - { ذَلِكُـمُ ٱللَّهُ رَبُّـكُمْ خَالِقُ كُـلِّ شَيْء … } يعود إلى من سبقت صفاته ونعمه وهو الله - عز وجل - . و { ذَلِكُـمُ } مبتدأ ، وما بعده أخبار متعددة . أى ذلكم الذى أعطاكم من النعم ما أعطاكم هو الله - تعالى - ربكم خالق كل شئ فى هذا الوجود . لا إله إلا هو فى هذا الكون … وقوله - تعالى - { فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ } تعجيب من انصرافهم - بعد هذه النعم - عن الحق إلى الباطل ، وعن الشكران إلى الكفران . أى فكيف تنقلبون عن عبادته - سبحانه - إلى عبادة غيره ، مع أنه - عز وجل - هو الخالق لكل شئ ، وهو صاحب تلك النعم التى تتمتعون بها . وقوله - تعالى - { كَذَلِكَ يُؤْفَكُ ٱلَّذِينَ كَانُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ يَجْحَدُونَ } بيان لحال الذين وقفوا من نعم الله - تعالى - موقف الجحود والكفران . ويؤفك هنا بمعنى القلب والصرف عن الشئ ، من الأفك - بالفتح - مصدر أفكه عن الشئ بمعنى صرفه عنه - وبابه ضرب - ومنه قوله - تعالى - { قَالُوۤاْ أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا … } أى لتصرفنا عن عبادتها . والمعنى مثل ذلك الصرف العجيب من الحق إلى الباطل ، ينصرف وينقلب كل أولئك الذين انتكست عقولهم ، والذين كانوا بآياتنا الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا يجحدون ويكفرون . وبعد أن بين - سبحانه - مظاهر نعمه عن طريق الزمان - الليل والنهار - أتبع ذلك ببيان نعمه عن طريق المكان - الأرض والسماء - فقال { ٱللَّهُ ٱلَّذِي جَعَـلَ لَكُـمُ ٱلأَرْضَ قَـرَاراً } أى جعل الأرض مكانا لاستقراركم عليها ، والسعى فيها . { وَٱلسَّمَآءَ بِنَـآء } أى وجعل لكم السماء بمنزلة القبة المبنية المضروبة فوق رءوسكم ، فأنتم ترونها بأعينكم مرفوعة فوقكم بغير عمد . قال الآلوسى قوله { وَٱلسَّمَآءَ بِنَـآء } أى قبة ، ومنه أبنية العرب لقبابهم التى تضرب . وإطلاق ذلك على السماء على سبيل التشبيه ، وهو تشبيه بليغ . وفيه إشارة لكرويتها . وهذا بيان لفضله - تعالى - المتعلق بالمكان بعد بيان فضله المتعلق بالزمان . وقوله { وَصَوَّرَكُـمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُـمْ } بيان لفضله - تعالى - المتعلق بذواتهم . أى جعل لكم الأرض مستقرا ، والسماء بناء ، وصور أشكالكم فى أحسن تقويم . وأجمل هيئة . كما قال - تعالى - { لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ فِيۤ أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } { وَرَزَقَكُـمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ } أى ورزقكم من الرزق الطيب الحلال المستلذ . { ذَلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُـمْ فَتَـبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ } أى ذلكم الذى أعطاكم تلك النعم المتعلقة بزمانكم ، ومكانكم ، وذواتكم ، ومطعمكم ومشربكم . هو الله ربكم الذى تولاكم بتربيته ورعايته فى جميع أطوار حياتكم فتبارك الله - تعالى - وتعاظم فى ذاته وفى صفاته ، فهو رب العالمين ومالك أمرهم . { هُوَ ٱلْحَيُّ } أى هو - سبحانه - المنفرد بالحياة الدائمة الباقية … { لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } إذ لا موجود يدانيه ولا فى صفاته ولا فى أفعاله . { فَـٱدْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ ٱلْحَـمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } أى فاعبدوه عبادة خالصة لوجهه الكريم ، وأطيعوه طاعة لا مكان معها للتردد أو التكاسل ، حالة كونكم قائلين الحمد لله رب العالمين . قال ابن جرير كان جماعة من أهل العلم يأمرون من قال لا إله إلا الله ، أن يتبعها بقوله { ٱلْحَـمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } عملا بهذه الآية . ثم لقن الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم الرد الذى يوبخ به المشركين فقال { قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لَمَّا جَآءَنِيَ ٱلْبَيِّنَاتُ مِن رَّبِّي … } . أى قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء المشركين الذين يطلبون منك مشاركتهم فى عبادة آلهتهم قل لهم إنى نهيت من ربى وخالقى ومالك أمرى عن عبادة غيره - تعالى - ، والسبب فى ذلك أن كل الدلائل والبراهين التى أكرمنى - سبحانه - بها ، تشهد وتصرح بأن المستحق للعبادة هو الله - تعالى - وحده . فقوله { لَمَّا جَآءَنِيَ ٱلْبَيِّنَاتُ مِن رَّبِّي } بيان السبب الذى من أجله نهاه ربه عن عبادة غيره ، وهذه البينات تشمل دلائل التوحيد العقلية والنقلية . وقوله { وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } أى إنى بعد أن نهانى ربى عن عبادة غيره أمرنى بأن أسلم وجهى إليه بالعبادة والطاعة ، إذ هو وحده رب العالمين ومالك أمرهم . ثم بين - سبحانه - مظاهر قدرته فى خلق الإنِنسان فى أطوار مختلفة ، فقال - تعالى - { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ } أى خلق أباكم آدم من تراب ، وأنتم فرع عنه . { ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ } وأصل النطفة الماء الصافى . أو القليل من الماء الذى يبقى فى الدلو أو القربة ، وجمعها نطف ونطاف . يقال نطفت القربة إذا تقاطر ماؤها بقلة . والمراد بها هنا المنى الذى يخرج من الرجل ، ويصب فى رحم المرأة ، { ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ } والعلقة قطعة من الدم المتجمد . { ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً } أى ثم يخرجكم من بطون أمهاتكم أطفالا صغارا ، بعد أن تكامل خلقكم فيها . فقوله { طِفْلاً } اسم جنس يصدق على القليل والكثير . ثم { لِتَـبْلُغُوۤاْ أَشُدَّكُـمْ } بعد ذلك ، بعد أن تنتقلوا من مرحلة الطفولة إلى المرحلة التى تكتمل فيها أجسامكم وعقولكم . { ثُمَّ لِتَكُـونُواْ شُيُوخاً } بعد ذلك ، بأن تصلوا إلى السن التى تتناقص فيها قوتكم والجملة الكريمة معطوفة على قوله { لِتَـبْلُغُوۤا } أو معمولة لمحذوف كالجمل التى تقدمتها ، أى ثم يبقيكم لتكونوا شيوخا . { وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّىٰ مِن قَبْلُ } أى ومنكم من يدركه الموت من قبل أن يدرك سن الشيخوخة ، أو سن الشباب ، أو سن الطفولة . وقوله - تعالى - { وَلِتَبْلُغُوۤاْ أَجَلاً مُّسَمًّى } معطوف على مقدر . أى فعل ذلك بكم لكي تعيشوا ، ولتبلغوا أجلا مسمى تنتهى عنده حياتكم ، ثم تبعثون يوم القيامة للحساب . والجزاء . وقوله { وَلَعَلَّـكُمْ تَعْقِلُونَ } أى ولعلكم تعقلون عن ربكم أنه هو الذى يحيبكم يوم القيامة كما أماتكم ، وكما أنشأكم من تلك الأطوار المتعددة وأنتم لم تكونوا قبل ذلك شيئا مذكورا . ثم ختم - سبحانه - هذه الآيات الزاخرة بكثير من النعم بقوله - تعالى - { هُوَ ٱلَّذِي يُحْيِـي } من يريد إحياءه { وَيُمِيتُ } من يشاء إماتته . { فَإِذَا قَضَىٰ أَمْرا } أى فإذا أراد إبراز أمر من الأمور إلى هذا الوجود { فَإِنَّمَا يَقُولُ لَه } أى لهذا الأمر { كُن فيَكُونُ } فى الحال بدون توقف على سبب من الأسباب ، أو علة من العلل . ثم ساق - سبحانه - بعد ذلك - ما يسلى النبى صلى الله عليه وسلم عما أصلبه من المشركين ، بأن بين له سوء عاقبتهم يوم القيامة ، وبأن أمره بالصبر على كيدهم ، وبشره بأن العاقبة ستكون له ولأتباعه … فقال - تعالى - { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يُجَادِلُونَ … } .