Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 41, Ayat: 1-8)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

سورة " فصلت " من السور التى بدئت ببعض حروف التهجى . والرأى الراجح فى هذه الحروف أنها جئ بها للإِيقاظ والتنبيه على أن هذا القرآن من عند الله - تعالى - ، بدليل أنه مؤلف من جنس الحروف التى يتخاطب بها المشركون ، ومع ذلك فقد عجزوا عن أن يأتوا بسورة من مثله . وقوله { تَنزِيلٌ مِّنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } بيان لمصدر هذا القرآن ، وقوله { تَنزِيلٌ } خبر لمبتدأ محذوف . أى هذا القرآن ليس أساطير الأولين - كما زعم الجاحدون الجاهلون - وإنما هو منزل من عند الله - تعالى - صاحب الرحمة العظيمة الدائمة . إذ لفظ " الرحمن " بمعنى عظيم الرحمة ، لأن فعلان صيغة مبالغة فى كثرة الشئ وعظمته ، أما صيغة فعيل فتستعمل فى الصفات الدائمة ككريم ، فكأنه - تعالى - يقول هذا الكتاب منزل من الله - تعالى - العظيم الرحمة الدائمة . قال بعض العلماء وإنما خص هذان الوصفان بالذكر ، لأن الخلق فى هذا العالم كالمرضى المحتاجين ، والقرآن مشتمل على كل ما يحتاج إليه المرضى من الأدوية ، وعلى كل ما يحتاج إليه الأصحاء من الأغذية . فكان أعظم النفع من الله على هذا العالم إنزال القرآن الناشئ عن رحمته ولطفه بخلقه . ثم أثنى - سبحانه - على هذا القرآن الذى أنزله بمقتضى رحمته وحكمته فقال { كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ . بَشِيراً وَنَذِيراً } . ومعنى { فُصِّلَتْ آيَاتُهُ } ميزت فى ألفاظها بفواصل ومقاطع ، وميزت فى معانيها لاشتمالها على أنواع متعددة من المعانى الحكيمة . وقوله { قُرْآناً } منصوب على المدح ، أو على الحال من كتاب ، { عَرَبِيّاً } صفة للقرآن . وقوله { لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } متعلق بفصلت . أى هذا القرآن منزل من عند الله - تعالى - الذى وسعت رحمته كل شئ ، وهو كتاب فصلت آياته ووضحت وميزت من حيث ألفاظها تفصيلا بليغا ، إذ اشتملت على فواصل ومقاطع فيما بينها ليسهل فهمه وحفظه . وفصلت آياته من حيث معانيها تفصيلا حكيما . إذ بعضها جاء لبيان ذاته وصفاته وأفعاله - تعالى - ، وبعضها اشتمل على ألوان من نعمه التى لا تحصى ، وبعضها جاء بأسمى أنواع الهدايات والآداب والأحكام والقصص والمواعظ ، وبعضها جاء لتبشير المؤمنين بحسن الثواب ، ولإِنذار الكافرين بسوء العقاب . وخص - سبحانه - الذين يعلمون بالذكر ، لأنهم هم الذين ينتفعون بما اشتمل عليه هذا الكتاب من تفصيل لآياته شامل لألفاظها ومعانيها . قال صاحب الكشاف قوله { لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } أى لقوم عرب يعلمون ما نزل عليهم من الآيات المفصلة المبينة بلسانهم العربى ، لا يلتبس عليهم شئ منه . فإن قلتبم يتعلق قوله { لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } ؟ قلت يجوز أن يتعلق بتنزيل ، أو بفصلت ، أى تنزيل من الله لأجلهم . أو فصلت آياته لهم . وأجود أن يكون صفة مثل ما قبله وما بعده ، أى قرآنا عربيا كائنا لقوم عرب لئلا يفرق بين الصلات والصفات … وقوله - تعالى - { فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } بيان لموقف الناس من هذا القرآن المنزل من الرحمن الرحيم . والمراد بالأكثر هنا الكافرون الذين لا ينتفعون بهدايات القرآن الكريم . أى هذا القرآن أنزلناه إليك لتخرج الناس به من الظلمات إلى النور ، فأعرض أكثرهم عن هداياته لاستحواذ الشيطان عليهم ، فهم لا يسمعون سماع تدبر واتعاظ ، وإنما يسمعون بقلوب قاسية ، وعقول خالية من إدراك معانيه ، ومن الاستجابة له . ونفى - سبحانه - سماعهم له ، مع أنهم كانوا يسمعون من الرسول صلى الله عليه وسلم ومن أصحابه ، لأنهم لما سمعوه ولم يؤمنوا به … صار سماعهم بمنزلة عدمه . ثم حكى - سبحانه - أقوالهم التى تدل على توغلهم فى الكفر والعناد فقال { وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِيۤ أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَٱعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ } ، والأكنة جمع كنان وهو الغطاء للشئ . و { وَقْرٌ } الصمم الذى يحول بين الإِنسان وبين سماع ما يقال له . والحجاب من الحجب بمعنى الستر لأنه يمنع المشاهدة ، ومنه قيل للبواب حاجب ، لأنه يمنع من الدخول . أى وقال الكافرون للنبى صلى الله عليه وسلم على سبيل تيئيسه من إيمانهم إن قلوبنا قد كستها أغطية متكاثفة جعلتها لا تفقه ما تقوله لنا ، وما تدعونا إليه ، وإن آذاننا فيها صمم يحول بيننا وبين سماع حديثك ، وإن من بيننا ومن بينك حاجزا غليظا يحجب التواصل والتلاقى بيننا وبينك ، وما دام حالنا وحالك كذلك فاعمل ما شئت فيما يتعلق بدينك ، ونحن من جانبنا سنعمل ما شئنا فيما يتعلق بديننا . وهذه الأقوال التى حكاها القرآن عنهم ، تدل على أنهم قوم قد بلغوا أقصى درجات الجحود والعناد فقلوبهم قد أغلقت عن إدراك الحق ، وأسماعهم قد صمت عن سماعه ، وأشخاصهم قد أبت الاقتراب من شخص الرسول صلى الله عليه وسلم الذى يحمل لهم الخير والنور ، وما حملهم على ذلك إلا اتباعهم للهوى والشيطان . وصدق الله إذ يقول { فَلَمَّا زَاغُوۤاْ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَاسِقِينَ } ثم لقن الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم الجواب الذى يرد به عليهم فقال { قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ } . أى قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء الجاحدين إنما أنا بشر مثلكم فى الصفات البشرية أوجدنى الله - تعالى - بقدرته كما أوجدكم ، وينتهى نسبى ونسبكم إلى آدم - عليه السلام - إلا أن الله - تعالى - قد اختصنى بوحيه ورسالته - وهو أعلم حيث يجعل رسالته - وأمرنى أن أبلغكم أن إلهكم وخالقكم . . هو إله واحد لا شريك له ، فعليكم أن تخلصلوا له العبادة والطاعة . وقوله { فَٱسْتَقِيمُوۤاْ إِلَيْهِ وَٱسْتَغْفِرُوهُ } أى فالزموا الاستقامة فى طريقكم إليه - تعالى - بالإِيمان به وطاعته والإخلاص فى عبادته . وقوله - تعالى - { … وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ . ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ وَهُمْ بِٱلآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ } تهديد لهم بسوء المصير إذا استمروا على عنادهم وشركهم . والويل لفظ دال على الشر أو الهلاك ، وهو مصدر لافعل له من لفظه ، والمراد به هنا الدعاء عليهم بالخزى والهلاك . أى فهلاك وخزى وعقاب شديد لهؤلاء المشركين ، الذين لا يؤتون الزكاة ، أى لا يؤمنون بها ، ولا يخرجونها إلى مستحقيها ، ولا يعملون على تطهير أنفسهم بأدائها … وفضلا عن كل ذلك فهم بالآخرة وما فيها من حساب وثواب وعقاب كافرون . قال ابن كثير والمراد بالزكاة ها هنا طهارة النفس من الأخلاق المرذولة … وقال قتادة يمنعون زكاة أموالهم ، واختاره ابن جرير … وفيه نظر ، لأن إيجاب الزكاة إنما كان فى السنة الثانية من الهجرة ، وهذه الآية مكية . اللهم إلا أن يقال لا يبعد أن يكون أصل الزكاة - وهو الصدقة - كان مأمورا به فى ابتداء البعثة ، كقوله - تعالى - { وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } فأما الزكاة ذات النصب والمقادير فإنما بين أمرها فى المدينة ، ويكون هذا جمعا بين القولين … وقال بعض العلماء قد استدل بعض علماء الأصول بهذه الآية الكريمة على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة ، لأنه - تعالى - صرح فى هذه الآية الكريمة ، بأنهم مشركون ، وأنهم كافرون بالآخرة ، وقد توعدهم - سبحانه - بالويل على كفرهم بالآخرة ، وعدم إيتائهم الزكاة ، سواء أقلنا إن الزكاة فى الآية هى زكاة المال المعروفة ، أو زكاة الأبدان عن طريق فعل الطاعات ، واجتناب المعاصى . ورجع بعضهم - أن المراد بالزكاة هنا زكاة الأبدان - لأن السورة مكية وزكاة المال المعروفة إنما فرضت فى السنة الثانية من الهجرة . وعلى أية حال فالآية تدل على خطاب الكفار بفروع الإِسلام . أعنى امتثال أوامره واجتناب نواهيه ، وما دلت عليه هذه الآية من أنهم مخاطبون بذلك ، وأنهم يعذبون على الكفر والمعاصى ، جاء موضحا فى آيات أخر كقوله - تعالى - { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ . قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ ٱلْمُصَلِّينَ . وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ ٱلْمِسْكِينَ . وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ ٱلُخَآئِضِينَ … } وخص - سبحانه - من بين أوصاف المشركين منع الزكاة مقرونا بالكفر بالآخرة ، لأن أحب شئ إلى الإِنسان ماله ، وهو شقيق روحه ، فإذا بذله للمحتاجين ، فذلك أقوى دليل على استقامته ، وصدق نيته . وقوله - تعالى - { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } بيان لحسن عاقبة المؤمنين ، بعد بيان سوء عاقبة الكافرين . أى إن الذين آمنوا إيمانا حقا وعملوا الأعمال الصالحات ، لهم أجر عظيم غير { مَمْنُونٍ } أى غير مقطوع عنهم ، من مننت الحبل إذا قطعته ، أو غير منقوص عما وعدهم الله به ، أو غير ممنون به عليهم ، بل يعطون ما يعطون من خيرات جزاء أعمالهم الصالحة فى الدنيا ، فضلا من الله - تعالى - وكرما . ثم أمر الله - تعالى - صلى الله عليه وسلم - أن يوبخ هؤلاء المشركين على إصرارهم على كفرهم ، مع أن مظاهر قدرة الله - تعالى - الماثلة أمام أعينهم تدعوهم إلى الإِيمان ، فقال - تعالى - { قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِٱلَّذِي خَلَقَ … } .