Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 43, Ayat: 67-80)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وقوله - تعالى - { ٱلأَخِلاَّءُ } جمع خليل بمعنى صديق . وسمى الأصدقاء أخلاء ، لأن المودة التى بينهم تخللت قلوبهم واختلطت بنفوسهم . أى الأصدقاء فى الدنيا ، يصير بعضهم لبعض يوم القيامة أعداء ، لأنهم كانوا يجتمعون على الشرور والآثام فى الدنيا ، وكانوا يتواصون بالبقاء على الكفر والفسوق والعصيان فلما جاء يوم القيامة ، وانكشفت الحقائق … انقلبت صداقتهم إلى عداوة . { إِلاَّ ٱلْمُتَّقِينَ } فإن صداقتهم فى الدنيا تنفعهم فى الآخرة ، لأنهم أقاموها على الإِيمان والعمل الصالح والطاعة لله رب العالمين . فالآية الكريمة إنذار للكافرين الذين كانت صداقاتهم فى الدنيا تقوم على محاربة الحق ، ومناصرة الباطل … وبشارة عظيمة للمتقين الذين بنوا صداقتهم فى الدنيا على طاعة الله - عالى - ونصرة دينه ، والعمل بشريعته . ثم بشر الله - تعالى - عباده بجملة من البشارات الكريمة ، فقال - تعالى - { يٰعِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ ٱلْيَوْمَ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ ٱدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ } . والخوف معناه توقع ما يخشاه ويغتم له الإِنسان فى المستقبل . والحزن معناه غم يلحق الإِنسان من أجل شئ مضى . وقوله { تُحْبَرُونَ } أى تفرحون وتسرون سرورا عظيما يظهر حباره - بفتح الحاء وكسرها - أى أثره الحسن على وجوهكم وأفئدتكم ، فهو من الحبَر - بفتح الحاء والباء - بمعنى الأثر . ويصح أن يكون من الحَبْر - بسكون الباء - بمعنى الزينة وحسن الهيئة . وبهذا ترى الآيات الكريمة قد نفت عنهم الخوف والحزن ، وفتحت لهم أبواب الجنة ، وأعلمتهم بأنهم سيكونون هم وأزواجهم فى سرور دائم . أى يقول الله - تعالى - لعباده من المؤمنين يوم القيامة يا عباد الذين شرفتكم بالإِضافة إلى ذاتى ، لا خوف عليكم اليوم من أمر المستقبل ، ولا أنتم تحزنون على أمر مضى . وقوله { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ } فى محل نصب ، صفة لقوله " يا عباد " أى يا عباد الذين آمنوا بآياتنا الدالة على وحدانيتنا وعلى صدق نبينا - صلى الله عليه وسلم - . وكانوا فى الدنيا مخلصين وجوههم لنا ، وجاعلين أنفسهم سالمة لطاعتنا … { ٱدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ } أى ونساؤكم المؤمنات { تُحْبَرُونَ } أى تسرون وتتلذذون بتلك النعم التى أنعم بها - سبحانه - عليكم . فالمراد بأزواجهم هنا نساؤهم ، لأن فى هذه الصحبة تلذذا أكثر ، ونعيما أكبر . والإِضافة فى قوله { أَزْوَاجُكُمْ } للاختصاص التام ، فتخرج الأزواج غير المؤمنات . ومنهم من يرى أن المراد بقوله { وَأَزْوَاجُكُمْ } نظراؤكم وأشباهكم فى الطاعة لله - تعالى - . أى ادخلوا الجنة أنتم وأشباهكم فى الإِيمان والطاعة ، دخولا لا تنالون معه إلا الفرح الدائم ، والسرور الذى لا انقطاع له . وشبيه بهذ الآية قوله - تعالى - { إِنَّ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ ٱليَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلاَلٍ عَلَى ٱلأَرَآئِكِ مُتَّكِئُونَ } ثم بين - سبحانه - مظاهر أخرى لتكريمه لهؤلاء العباد فقال { يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ … } . والصحاف جمع صحفة ، وهى الآنية الواسعة الكبيرة التى توضع فيها الأطعمة . والأكواب جمع كوب وهو ما يوضع فيه الشراب . وفى الكلام حذف يعرف من السياق ، والتقدير يقال لهم ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون ، فإذا ما دخلوها واستقروا فيها ، يطاف عليهم بأطعمة وأشربة فى أوان من ذهب . ولم تذكر الأطعمة والأشربة للعلم بها ، إذ لا معنى للطواف بالصحاف والأكواب وهى فارغة … { وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ ٱلأَنْفُسُ وَتَلَذُّ ٱلأَعْيُنُ } أى وفى الجنة التى دخلوها كل ما تشتهيه الأنفس من أنواع المشتهيات ، وكل ما تتلذذ بين الأعين وتسر برؤيته . { وَأَنتُمْ } أيها المؤمنون { فِيهَا خَالِدُونَ } خلودا أبديا لا نهاية له . ثم ختم - سبحانه - هذا التكريم لعباده بقوله { وَتِلْكَ ٱلْجَنَّةُ ٱلَّتِيۤ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِّنْهَا تَأْكُلُونَ } . واسم الإِشارة { تِلْكَ } مبتدأ وخبره { ٱلْجَنَّةُ } وما بعدهما صفة الجنة … وفى الكلام التفات من الغيبة إلى الخطاب على سبيل التشريف . وقال - سبحانه - { وَتِلْكَ } بالإِفراد ، للإِشعار بأن الخطاب لكل واحد من أهل الجنة ، على سبيل العناية به ، والإِعلاء من شأنه . أى ويقال لهم يوم القيامة على سبيل التشريف وهذه الجنة التى أورثتموها بسبب أعمالكم الصالحة فى الدنيا ، لكم فيها فاكهة كثيرة ، وثمار شهية لذيذة ، منها تأكلون أكلا هنيئا مريئا . وعبر بقوله - تعالى - { أُورِثْتُمُوهَا } للإِشعار بأنها قد صارت إليهم بفضل الله وكرمه ، كما يصير الميراث إلى الوارث . وقوله { بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } بيان للأسباب التى أوصلتهم إلى هذه المنازل العالية ، فإن أعمالهم الطيبة التى تقبلها الله - تعالى - منهم ، جعلتهم - بفضله وإحسانه - فى أعلى الدرجات وأسماها . وكعادة القرآن الكريم فى المقارنة بين الأخيار والأشرار جاء الحديث عن سوء عاقبة الكافرين بعد الحديث عن حسن عاقبة المؤمنين ، فقال - تعالى - { إِنَّ ٱلْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ } . أى إن الكافرين بالحق ، الراسخين فى الإِجرام ، الكاملين فيه ، سيكونون يوم القيامة ، فى عذاب جهنم خالدين فيه خلودا أبديا . { لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ } أى لا يخفف عنهم العذاب ، فقوله { يُفَتَّرُ } مأخوذ من الفتور بمعنى الهدوء والسكون ، يقال فترت الحمى ، إذا خفت حدتها ، وفتر المرض إذا سكن قليلا . { وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ } أى وهم فى هذا العذاب فى أقصى درجات الحزن والذلة واليأس يقال أبلس فلان إبلاسا ، إذا سكت عن الكلام سكوتا مصحوبا بالحزن وانقطاع الحجة . ثم بين - سبحانه - أن ما نزل بهؤلاء المجرمين من عذاب كان بسبب كفرهم فقال - تعالى - { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـٰكِن كَانُواْ هُمُ ٱلظَّالِمِينَ } . أى نحن ما ظلمنا هؤلاء الكافرين بإنزال هذا العذاب المهين الدائم بهم ، ولكن هم الذين ظلموا أنفسهم ، باستحبابهم العمى على الهدى ، وإيثارهم الغى على الرشد . ثم حكى - سبحانه - بعض أقوالهم بعد نزول العذاب بهم فقال { وَنَادَوْاْ يٰمَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ } . والمراد بذلك سؤال خازن النار واللام فى قوله { لِيَقْضِ } لام الدعاء . أى وبعد أن طال العذاب على هؤلاء الكافرين ، نادوا فى ذلة واستجداء قائلين لخازن النار يا مالك ادع لنا ربك كى يقضى علينا ، بأن يميتنا حتى نستريح من هذا العذاب . فالمراد بالقضاء هنا الإِهلاك والإِماتة ، ومنه قوله - تعالى - { فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ … } أى فأهلكه . وفى هذا النداء ما فيه من الكرب والضيق ، حتى إنهم ليتمنون الموت لكى يستريحوا مما هم فيه من عذاب . وهنا يجيئهم الرد بما يزيدهم غما على غمهم ، وهو قوله - تعالى - { قَالَ إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ } أى قال مالك فى الرد عليهم إنكم ماكثون فيه بدون موت يريحكم من عذابها ، وبدون حياة تجدون معها الراحة والأمان . وقوله - سبحانه - { لَقَدْ جِئْنَاكُم بِٱلْحَقِّ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ } تأكيد منه - تعالى - وتقرير لرد مالك عليهم ، ومبين لسبب مكثهم فيها … أى لقد جئناكم - أيها الكافرون - بالحق على ألسنة رسلنا الذين لم يتركوا وسيلة من الوسائل إلا وسلكوها معكم فى الإِرشاد إلى طريق الهدى ، ولكن أكثرهم كان كارها للحق والهدى ، معرضا عنهما إعراضا كليا ، مصرا على كفره وشركه . وعبر - سبحانه - بالأكثر لأن قلة منهم لم تكن كارهة للحق ، ولكنها كانت منقادة لأمر سادتها وكبرائها … أما الذين كانوا يعرفون الحق ولكن يكرهونه ، فهم الزعماء والكبراء ، لأنهم يرون فى اتباعه انتقاصا من شهواتهم وتصادما مع أهوائهم . ثم وبخهم - سبحانه - على مكرهم ، وبين أنه مكر بائر خائب فقال { أَمْ أَبْرَمُوۤاْ أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ } . و { أَمْ } هنا منقطعة بمعنى بل والهمزة ، والجملة الكريمة كلام مستأنف مسوق لتأنيب المشركين على ما دبروه من كيد للرسول - صلى الله عليه وسلم - وللمؤمنين . والإِبرام الإِتقان للشئ والإِحكام له ، وأصله الفتل المحكم . يقال أبرم فلان الحبل ، إذا أتقن فتله . أى بل أحكموا كيدهم للنبى - صلى الله عليه - وسلم - ولأصحابه ؟ إن كانوا يظنون ذلك فقد خاب ظنهم ، لأن مكرنا أعظم من مكرهم ، وكيدنا يزهق كيدهم … فالمقصود بالآية الكريمة الانتقال من عدم إجابة ندائهم ، إلى تأنيبهم على ما كان منهم فى الدنيا من مكر بالحق وأهله ، وكيف أن هذا المكر السئ كانت نتيجته الخسران لهم . وقوله - سبحانه - { أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم … } توبيخ آخر لهم على جهلهم وانطماس بصائرهم . والمراد بالسر هنا حديثهم مع أنفسهم ، والمراد بنجواهم ما تكلم به بعضهم مع بعض دون أن يطلعوا عليه أحدا غيرهم . أى بل أيظن هؤلاء الجاهلون أننا لا نعلم ما يتحدثون به مع أنفسهم ، وما يتحدثون به مع غيرهم فى خفية واستتار . وقوله - سبحانه - { بَلَىٰ وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ } أى إذا كانوا يظنون ذلك فقد خابوا وخسروا ، فإننا نعلم سرهم ونجواهم . ورسلنا الذين يحفظون عليهم أعمالهم ، ملازمون لهم ، ويسجلون عليهم كل صغيرة وكبيرة . وبعد هذا التهديد والوعيد لأولئك الكافرين … تأخذ السورة الكريمة فى تلقين الرسول - صلى الله عليه وسلم - الحجة التى يجابههم بها ، وفى تسليته عما أصابه منهم ، وفى الثناء على الله - تعالى - بما هو أهله من تمجيد وتعظيم ، ثم تختتم بهذا النداء الخاشع من الرسول - صلى الله عليه وسلم - لخالقه - عز وجل - فتقول { قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ … سَلاَمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } .