Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 44, Ayat: 9-26)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
و { بَلْ } فى قوله - تعالى - { بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ } للاضراب الإِبطالى ، لأن المقصود من الآية الكريمة ، نفى إيقانهم بأن خالق السماوات والأرض هو الله ، لعدم جريهم على ما يقتضيه هذا الإِيقان ، لأنهم لو كانوا موقنين حقا بذلك ، لأخلصوا لله - تعالى - العبادة والطاعة . فيكون المعنى إن هؤلاء الكفار لم يكونوا موقنين بأن رب السماوات والأرض وما بينهما هو الله ، بل قالوا ما قالوا فى ذلك على سبيل الشك واللعب . قال الآلوسى " قوله { بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ … } إضراب إبطالى ، أبطل به إيقانهم لعدم جريهم على موجبه ، وتنوين { شَكٍّ } للتعظيم ، أى فى شك عظيم . { يَلْعَبُونَ } أى لا يقولون ما يقولون عن جد وإذعان ، بل يقولونه مخلوطا بهزء ولعب . وهذه الجملة خبر بعد خبر لهم … والالتفات عن خطابهم لفرط عنادهم ، وإهمال أمرهم … " . والفاء فى قوله - تعالى - { فَٱرْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي ٱلسَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ } لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، ولتسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأمره بالصبر حتى يحكم الله بينه وبينهم . والارتقاب الانتظار ، وأكثر ما يستعمل الارتقاب فى الأمر المكروه والمراد باليوم مطلق الوقت ، وهو مفعول به لارتقب . قال الآلوسى ما ملخصه " والمراد بالسماء جهة العلو ، وإسناد الإِتيان بذلك إليها من قبيل الإِسناد إلى السبب ، لأنه يحصل بعدم إمطارها … " . أى فارتقب يوم تأتى السماء بجدب ومجاعة ، فإن الجائع جدا يرى بينه وبين السماء كهيئة الدخان ، وهى ظلمة تعرض للبصر لضعفه … وإرادة الجدب والمجاعة منه مجاز ، من باب ذكر المسبب وإرادة السبب … وبعض العرب يسمى الشر الغالب دخانا ، ووجه ذلك أن الدخان مما يتأذى به فأطلق على كل مؤذ يشبهه ، وأريد به هنا الجدب ، ومعناه الحقيقى معروف " . وللمفسرين فى معنى هذه الآية إتجاهات أولها ما ورد فى الحديث الصحيح من " أن مشركى مكة ، لما أصروا على كفرهم وعلى إعراضهم عن الحق ، دعا عليهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله " اللهم أعنى عليهم بسبع كسبع يوسف … " فأصابهم القحط والبلاء والجوع … وكنى عن ذلك بالدخان ، لأن العرب يسمون الشر الغالب بالدخان ، فيقولون كان بيننا أمر ارتفع له دخان … والسبب فيه أن الإِنسان إذا اشتد ضعفه ، أظلمت عيناه ، فيرى الدنيا كالمملوءة بالدخان . روى البخارى وغيره عن ابن مسعود قال " إن قريشا لما أبطأت عن الإِسلام ، واستعصت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا عليهم بسنين كسنى يوسف ، فأصابهم من الجهد والجوع حتى أكلوا العظام والميتة وجعلوا يرفعون أبصارهم إلى السماء فلا يرون إلا الدخان … فقيل يا رسول الله ، استسق الله لمضر فإنها قد هلكت ، فاستسقى لهم فسقوا ، فأنزل الله { إِنَّا كَاشِفُو ٱلْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ } " . قال ابن كثير " وهذا الحديث مخرج فى الصحيحين ، ورواه الإِمام أحمد فى مسنده ، وهو عند الترمذى والنسائى فى تفسيرهما ، وعن ابن جرير وابن أبى حاتم من طرق متعددة " . وعلى هذا الرأى يكون الدخان قد وقع فعلا ، بمعنى أن المشركين قد أصابهم بلاء شديد فى عهد النبى - صلى الله عليه وسلم - . ثم كشف الله عنهم ما كشف ببركة دعاء النبى - صلى الله عليه وسلم - . أما الاتجاه الثانى فيرى أصحابه ، أن المراد بالدخان ، ما يكون قبل يوم القيامة من دخان يسبق ذلك ، كعلامة من علامات البعث والنشور . واستدل أصحاب هذا الاتجاه ، بأحاديث ذكرها المفسرون . قال ابن كثير " وقال آخرون لم يمض الدخان بعد ، بل هو من أمارات الساعة ، كما تقدم من حديث حذيفة بن أسيد الغفارى . قال أشرف علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غرفته ونحن نتذاكر الساعة ، فقال " لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات طلوع الشمس من مغربها ، والدخان ، والدابة ، وخروج يأجوج ومأجوج ، وخروج عيسى ابن مريم ، والدجال وثلاثة خسوف خسوف بالمشرق وخسوف بالمغرب ، وخسوف بجزيرة العرب ، ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس - أو تحشر الناس - تبيت معهم حيث باتوا ، وتقيل حيث قالوا " . ثم ساق ابن كثير بعد ذلك أحاديث أخرى ، وقال فى نهايتها والظاهر أن ذلك يوم القيامة " . ويبدو لنا أن الاتجاه الأول أقرب إلى سياق الآيات التى ذكرها الله - تعالى - فى هذه السورة ، ولا يتعارض ذلك مع كون ظهور الدخان علامة من علامات قرب يوم القيامة ، كما جاء فى حديث حذيفة بن أسيد الغفارى ، الذى ذكره ابن كثير - رحمه - الله - وقال فى شأنه تفرد بإخراجه مسلم فى صحيحه . ومن المفسرين الذين رجحوا الاتجاه الأول الإِمام الطبرى ، فقد قال بعد أن ساق هذين القولين وأولى القولين بالصواب فى ذلك قول ابن مسعود ، من أن الدخان الذى أمر الله - تعالى - نبيه ان يرتقبه ، هو ما أصاب قومه من الجهد بدعائه عليهم . وإنما قلت القول الذى قاله ابن مسعود - رضى الله عنه - هو أولى بتأويل الآية ، لأن الله - تعالى - توعد بالدخان مشركى قريش … ولأن الأخبار قد تظاهرت بأن ذلك كائن . والمعنى فانتظر يا محمد لمشركى قومك ، يوم تأتيهم السماء من البلاء الذى يحل بهم ، بمثل الدخان المبين " . ومنهم - أيضا - الإِمام الآلوسى ، فقد قال - رحمه الله - هذا ، والأظهر حمل الدخان على ما روى عنا ابن مسعود ، لأن أنسب بالسياق ، لما أنه فى كفار قريش ، وبيان سوء حالهم " . وقوله - سبحانه - { يَغْشَى ٱلنَّاسَ } صفة ثانية للدخان ، والمراد بهم كفار مكة وأمثالهم ممن أصابه الجوع والبلاء . أى ارتقب - أيها الرسول الكريم - يوم تأتى السماء لهؤلاء المشركين بعذاب من صفاته أنه عذاب واضح ، يحسونه بحواسهم ، ويشعرون به شعورا جليا ، ومن صفاته كذلك أنه يحيط بهم من كل جوانبهم ، ويجعلهم يتضرعون إلينا ويقولون { هَـٰذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ } أى شديد ألمه ، وعظيم هوله . ثم يقولون - أيضا - { رَّبَّنَا ٱكْشِفْ عَنَّا ٱلْعَذَابَ إِنَّا مْؤْمِنُونَ } أى يا ربنا أزل عنا هذا العذاب المتمثل فى الجوع والمرض وغيرهما ، فإنك إن رفعت عنا ذلك آمنا برسولك - صلى الله عليه وسلم - ، واتبعنا دعوته ، ولكنهم بعد أن كشف الله - تعالى - عنهم هذا العذاب ، نقضوا عهودهم ، وأصروا على كفرهم . ولذا عقب الله - تعالى - على تضرعهم هذا بقوله { أَنَّىٰ لَهُمُ ٱلذِّكْرَىٰ … } أى كيف يتأتى لهم التذكر والاعتبار والاتعاظ … والحال أنهم { وَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ } هو محمد - صلى الله عليه وسلم - ، الذى لم يترك بابا من أبواب الخير إلا وأرشدهم إليه ، ولم يترك وسيلة من وسائل الهداية إلا وسلكها معهم … ولكنهم استحبوا العمى على الهدى ، ولذا أكد القرآن ذلك فقال { ثُمَّ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ وَقَالُواْ مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ } . أى كيف يتعظون والحال أنه قد جاءهم رسول عظيم الشأن ، وضح الحق أكمل توضيح . فما كان منهم بعد أن استمعوا إليه ، إلا الإِعراض عن دعوته ، ولم يكتفوا بهذا الإِعراض والصدود ، بل قالوا فى شأنه بجهالة وسوء أدب { مُعَلَّمٌ } أى إنسان يعلمه غيره من البشر ، وقالوا فى شأنه - أيضا - { مَّجْنُونٌ } أى مختلط فى عقله . ثم بين - سبحانه - جانبا من مظاهر فضله عليهم ، ورحمته بهم ، فقال { إِنَّا كَاشِفُو ٱلْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ } . أى إنا بفضلنا ورحمتنا كاشفوا العذاب عنكم كشفا قليلا - أيها المشركون - ، ولكنكم لم تقابلوا فضلنا عليكم ، ورحمتنا بكم ، بالشكر والطاعة بل قابلتم ذلك بالإِصرار على الكفر ، والثبات على الجحود . فالمراد بقوله - تعالى - { إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ } عزمهم وإصراهم على الاستمرار على الكفر ، لأنهم لم يوجد منهم إيمان ، حتى يتركوه ويعودوا إلى الكفر ، وإنما الذى وجد منهم هو الوعد بالإِيمان إذا انكشف عنهم العذاب ، فلما انكشف عنهم ، نقضوا عهودهم ، واستمروا على كفرهم . وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - { وَقَالُواْ يَٰأَيُّهَ ٱلسَّاحِرُ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ ٱلْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ } ثم هددهم - سبحانه - تهديدا ترتعد له القلوب فقال { يَوْمَ نَبْطِشُ ٱلْبَطْشَةَ ٱلْكُبْرَىٰ إِنَّا مُنتَقِمُونَ } . وقوله { يَوْمَ } منصوب بفعل مقدر . وقوله { نَبْطِشُ } من البطش بمعنى الأخذ بقوة وعنف . يقال بطش فلان بفلان يبطش به ، إذا نكل به تنكيلا شديدا . أى اذكر - أيها العاقل - لتعتبر وتتعظ يوم أن نأخذ هؤلاء الكافرين أخذ عزيز مقتدر ، حيث ننتقم انتقاما يذلهم ويخزيهم . وهذا البطش الشديد منا لهم سيكون جزءا منه فى الدنيا ، كانتقامنا منهم يوم بدر وسيكون أشده وأعظمه وأدومه عليهم … يوم القيامة . وبذلك نرى السورة الكريمة بعد أن مدحت القرآن الكريم مدحا عظيما ، وبينت جانبا من مظاهر فضل الله - تعالى - على عباده ، أخذت فى تسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - عما أصابه من أعدائه ، وهددت هؤلاء الأعداء بسوء المصير فى الدنيا ، وفى الآخرة . ثم انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن جانب من قصة موسى - عليه السلام - مع فرعون وملئه ، وكيف أن الله - تعالى - أجاب دعاء نبيه موسى ، فأهلك فرعون وقومه ، ونجى موسى وبنى إسرائيل من شرورهم فقال - تعالى - { وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ … مَا فِيهِ بَلاَءٌ مُّبِينٌ } .