Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 45, Ayat: 21-26)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

و { أَمْ } فى قوله - تعالى - { أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ ٱجْتَرَحُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ } منقطعة ، وتقدر ببل والهمزة ، وما فيها من معنى بل للانتقال من البيان الأول إلى الثانى ، والهمزة لإِنكار الحسبان . والاجتراح الاكتساب ، ومنه الجارحة للأعضاء التى يكتسب بها كالأيدى . ويقال فلان جارحة أهله ، أى هو الذى يكتسب لهم أرزاقهم . وحسب فعل ماض ، والذين فاعله ، وجملة { أَن نَّجْعَلَهُمْ } ساد مسد المفعولين . والمعنى بل أحسب الذين اكتسبوا ما يسوء من الكفر والمعاصى ، أن نجعلهم متساوين مع الذين آمنوا وعملوا الأعمال الصالحات فى دار الدنيا أو فى الدار الآخرة ؟ كلا ! ! لا يستوون فيهما ، فإن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يحيون فى الدنيا حياة طيبة لا مكان فيها للهموم والأحقاد والإِحن ببركة إيمانهم ، وفى الآخرة ينالون رضا الله - تعالى - وحسن ثوابه . أما الذين اجترحوا السيئات فهم فى شقاء فى الدنيا وفى الآخرة . قال الشوكانى قرأ الجمهور { سواء } بالرفع على أنه خبر مقدم . والمبتدأ محياهم ومماتهم . والمعنى إنكار حسبانهم أن محياهم ومماتهم سواء . وقرأ حمزة والكسائى وحفص { سواء } بالنصب على أنه حال من الضمير المستتر فى الجار والمجرور فى قوله { كَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } أو على أنه معفول ثان لحسب . وقوله { سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } أى بئس حكما حكمهم الذى زعموا فيها تسويتنا بين الذين اجترحوا السيئات ، والذين آمنوا وعملوا الصالحات . فالمقصود بهذه الجملة الكريمة ، توبيخهم على أحكامهم الباطلة ، وأفكارهم الفاسدة . قال الآلوسى قوله { سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } أى ساء حكمهم هذا ، وهو الحكم بالتساوى ، فما مصدرية ، والكلام إخبار عن قبح حكمهم المعهود . ويجوز أن يكون لإِنشاء ذمهم على أن { سَآءَ } بمعنى بئس ، فتكون كلمة { مَا } نكرة موصوفة ، وقعت تمييزا مفسرا لضمير الفاعل المبهم والمخصوص بالذم محذوف أى بئس شيئا حكموا به ذلك . ثم أكد - سبحانه - عدم المساواة بين الفريقين فقال { وَخَلَقَ ٱللَّهُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ } أى خلقهما خلقا ملتبسا بالحق الذى لا يحوم حوله باطل . وقوله { وَلِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } معطوف على مقدر يفهم من سياق الكلام . أى خلقهما بالحق ليبرهن بذلك على وحدانيته وقدرته . ولتجزى كل نفس يوم القيامة بسبب ما اكتسبته من أعمال . ويصح أن يكون معطوفا على قوله { بِٱلْحَقِّ } . أى خلقهما بالحق المقتضى للعدل بين العباد ، ولتجزى كل نفس بما كسبت ، فهو منعطف المسبب على السبب . { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } أى الخلائق المدلول عليهم بقوله { كُلُّ نَفْسٍ } لا يلحقهم شئ من الظلم يوم القيامة ، لأن الله - تعالى - قد كتب على نفسه أنه لا يظلم أحدا . والاستفهام فى قوله - سبحانه - { أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ } للتعجب من حال هؤلاء المشركين ، ولتسلية النبى - صلى الله عليه وسلم - عما أصابه منهم من أذى . والمراد بهواه ما يستحسنه من تصرفات ، حتى ولو كانت تلك التصرفات فى نهاية القبح والشناعة والجهالة . والمعنى انظر وتأمل - أيها الرسول الكريم - فى أحوال هؤلاء الكافرين فإنك لن ترى جهالة كجهالاتهم ، لأنهم إذا حسن لهم هواهم شيئا اتخذوه إلها لهم ، مهما كان قبح تصرفهم ، وانحطاط تفكيرهم ، وخضعوا له كما يخضع العابد لمعبوده . قال ابن عباس كان الرجل فى الجاهلية يعبد الحجر الأبيض زمانا . فإذا رأى غيره أحسن منه عبد الثانى وترك الأول . وقوله { وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ } أى وأضل الله - تعالى - هذا الشقى ، بأن خلق فيه الضلالة ، على علم منه - سبحانه - بأن هذا الشقى أهل لذلك لاستحبابه العمى على الهدى . فيكون قوله { عَلَىٰ عِلْمٍ } حال من الفاعل ، أى أضله - سبحانه - حالة كونه عالما بأنه من أهل الضلال . ويصح أن يكون حالا من المفعول ، أى وأضل الله - تعالى - هذا الشقى ، والحال أن هذا الشقى عالم بطريق الإِيمان ، ولكنه استحب الغى على الرشد . وقوله { وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ } والختم الوسم بطابع ونحوه ، مأخوذ من وضع الخاتم على الشئ ، وطبعه فيه للاستيثاق ، لكى لا يخرج منهما بداخله ولا يدخله ما هو خارج عنه . أى وطبع على سمعه وقلبه ، فجعله لا يسمع سماع تدبر وانتفاع ، ولا يفقه ما فيه هدايته ورشده . { وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً } أى وجعل على بصره غطاء ، يحجب عنه الرؤية السليمة للأشياء وأصل الغشاوة ما يغطى به الشئ ، من غشاه إذا غطاه . والاستفهام فى قوله - تعالى - { فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ ٱللَّهِ } للإِنكار والنفى . أى لا أحد يستطيع أن يهدى هذا الإِنسان الذى اتخذ إلهه هواه من بعد أن أضله الله - عز وجل - . { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } أى أفلا تتفكرون وتتأملون فيما سقت لكم من مواعظ وعبر ، تفكرا يهديكم إلى الرشد ، ويبعثكم على الإِيمان . فأنت ترى أن هذه الآية الكريمة ، تسلية للرسول - صلى الله عليه وسلم - عما أصابه من المشركين ، وتعجيب من أحوالهم التى بلغت الغاية فى الجهالة والضلالة . ودعوة لهم إلى التذكير والاعتبار ، لأن ذلك ينقلهم من الكفر إلى الإِيمان . ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك جانبا من أقوالهم الباطلة فقال { وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ ٱلدَّهْرُ } . أى وقال هؤلاء المشركون على سبيل الجهل والعناد والجحود للحق ، ما الحياة إلا هذه الحياة الدنيوية التى نحياها فيها ، وليس هناك حياة سواها ، فنحن نموت ثم يحيا أولادنا من بعدنا أو يموت بعضنا ويحيا البعض الآخر إلى زمن معين ، أو نكون أمواتا فى أصلاب آبائنا ، ثم نحيا بعد ذلك عند الولادة . { وَمَا يُهْلِكُنَآ } عند انتهاء آجالنا { إِلاَّ ٱلدَّهْرُ } أى إلا مرور الزمان ، وكر الأعوام وتقلب الشهور والأيام . قال ابن كثير ما ملخصه " يخبر - تعالى - عن قول الدهرية من الكفار ، ومن وافقهم من مشركى العرب فى إنكار المعاد { وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا … } أى ما ثَمَّ إلا هذه الدار ، يموت قوم ويعش آخرون ، وما ثَمَّ معاد ولا قيامة … ولهذا قالوا { وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ ٱلدَّهْرُ } - أى إلا مرور الأيام والليالى - فكابروا المعقول وكذبوا المنقول … وفى الحديث الصحيح - الذى رواه الشيخان وغيرهما - عن أبى هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " يقول الله - تعالى - يؤذينى ابن آدم ، يسب الدهر ، وأنا الدهر ، بيدى الأمر ، أقلب ليله ونهاره " . والمقصود من هذا الحديث النهى عن سب الدهر ، لأن الله - تعالى - هو الخالق له ، فمن يسب الدهر ، فكأنما سب الله - تعالى - لأنه - سبحانه - هو الذى يقلب الليالى والأيام . وقد كان العرب فى الجاهلية إذا ما أصابتهم شدة أو نكبة ، قالوا يا خيبة الدهر ، فيسندون تلك الأفعال والمصائب إلى الدهر ويسبونه . وقوله - تعالى - { وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ } رد عليهم فيما قالوه من أقوال باطلة تتعلق بإنكارهم للبعث والحساب . أى وليس لهم فيما زعموه من إنكارهم للبعث من علم مستند إلى نقل أو عقل ، إن هم إلا يظنون ظنا مبنيا على الوهم والضلال . { وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ } أى وإذا تليت عليهم آيات القرآن ، الواضحة فى دلالتها على أن يوم القيامة حق ، وأن الحساب حق . { مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ٱئْتُواْ بِآبَآئِنَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } أى ما كان ردهم على من يذكرهم بالبعث إلا أن قالوا لهم أعيدوا إلينا آباءنا الذين ماتوا إن كنتم صادقين فى قولكم إن هناك بعثا وحسابا وثوابا وعقابا . وقوله { حُجَّتَهُمْ } - بالنصر - خبر كان ، واسمها قوله { إِلاَّ أَن قَالُواْ } . وسمى - سبحانه - أقوالهم مع بطلانها حجة ، على سبيل التهكم بهم ، والاستهزاء بهذه الأقوال . قال صاحب الكشاف فإن قلت لم سمى قولهم حجة وليس بحجة ؟ قلت لأنهم أدلوا به كما يدلى المحتج بحجته ، وساقوه مساقها ، فسميت حجة على سبيل التهكم ، أو لأنه فى حسبانهم وتقديرهم حجة ، أو لأنه فى أسلوب قول القائل تحية بينهم ضرب وجيع … كأنه قيل ما كان حجتهم إلا ما ليس بحجة . والمراد نفى أن تكون لهم حجة ألبتة . ثم ختم - سبحانه - هذه الآية بأمر النبى - صلى الله عليه وسلم - بأن يرد عليهم بما يخرس ألسنتهم فقال { قُلِ ٱللَّهُ يُحْيِيكُمْ } أى وأنتم فى الدنيا { ثُمَّ يُمِيتُكُمْ } عند انقضاء آجالكم فى الدنيا ، { ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ } بأن يعيدكم إلى الحياة مرة أخرى للحساب والجزاء ، وهذا اليوم وهو يوم القيامة آت { لاَ رَيْبَ فِيهِ } ولا شك فى حدوثه . { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } ذلك ، لاستيلاء الهوى والشيطان على قلوبهم ، ولو عقلوا لعلموا أن من أنشأ الإِنسان من العدم ، قادر على إعادته بعد موته من باب أولى . ثم أخذت السورة الكريمة فى أواخرها فى تذكير الناس بأهوال يوم القيامة لكى يستعدوا للقاء هذا اليوم بالإِيمان والعمل الصالح ، فذكرتهم بأحوال الأخيار والأشرار فى هذا اليوم العصيب ، وبينت لهم أن الندم لن ينفع فى هذا اليوم … فقال - تعالى - { وَلِلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ … وَهُوَ ٱلْعِزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } .