Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 45, Ayat: 27-37)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قال الإِمام الرازى قوله { وَلِلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } أنه - تعالى - لما احتج بكونه قادرا على الإِحياء فى المرة الأولى ، وعلى كونه قادراً على الإِحياء فى المرة الثانية فى الآيات المتقدمة ، عمم بعد ذلك الدليل فقال { وَلِلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } أى لله - تعالى - القدرة على جميع الممكنات سواء أكانت من السماوات أم من الأرض . أى { لِلَّهِ } - تعالى - وحده { مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } خلقا وتصرفا وإحياء وإماتة لا راد لقضائه . ولا معقب لحكمه . ثم بين - سبحانه - سوء عاقبة الكافرين يوم القيامة فقال { وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاَعةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ ٱلْمُبْطِلُونَ } . أى ولله - تعالى - ملك السماوات والأرض ، وله - أيضا - ملك وقت قيام الساعة . لأنه لا يستطيع أحد أن يعلم وقت قيامها ، أو يتصرف فيه ، إلا هو - عز وجل - وفى اليوم الذى تقوم فيه الساعة يخسر المبطلون ، أنفسهم وأهليهم ، ويصيرون فى حال شديدة من الهم والغم والكرب ، لأنهم كذبوا بهذا اليوم ، وكفروا به وقالوا { مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ ٱلدَّهْرُ } قال الشوكانى وقوله { وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاَعةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ ٱلْمُبْطِلُونَ } أى المكذبون الكافرون المتعلقون بالأباطيل ، يظهر فى ذلك اليوم خسرانهم لأنهم يصيرون إلى النار ، والعامل فى { يَوْمَ } هو الفعل { يَخْسَرُ } ويومئذ بدل منه ، والتنوين للعوض عن المضاف إليه المدلول عليه بما أضيف إليه المبدل منه ، فيكون التقدير { وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاَعةُ } يوم تقوم الساعة ، فيكون بدلا توكيديا . والأحسن أن يكون العامل فى { يَوْمَ } هو { مُلْكُ } - أى ما يدل عليه هذا اللفظ . أى ولله - تعالى - ملك السماوات والأرض - وملك يوم تقوم الساعة ، ويكون قوله { يَوْمَئِذٍ } معمولا ليخسر … وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - { فَإِذَا جَـآءَ أَمْرُ ٱللَّهِ قُضِيَ بِٱلْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ ٱلْمُبْطِلُونَ } ثم يعرض - سبحانه - مشهدا من مشاهد هذا اليوم الهائل الشديد فيقول { وَتَرَىٰ كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً } . وقوله - سبحانه - { جَاثِيَةً } من الجثُو وهو الجلوس على الركب بتحفز وترقب وخوف . يقال جثنا فلان على ركبتيه يجثو جثوا وجثيا ، إذ برك على ركبتيه وأنامله فى حالة تحفز ، كأنه منتظر لما يكرهه . أى وترى - أيها العاقل - فى هذا اليوم الذى تشيب من هوله الولدان ، كل أمة من الأمم متميزة عن غيرها ، وجاثية على ركبها ، مترقبة لمصيرها فى تلهف وخوف فالجملة الكريمة تصور أهوال هذا اليوم ، وأحوال الناس فيه ، تصويرا بليغاً مؤثرا ، يبعث على الخوف الشديد من هذا اليوم ، وعلى تقديم العمل الصالح الذى ينفع صاحبه { يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَٱلأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } وقوله { كُلَّ أُمَّةٍ } مبتدأ ، وقوله { تُدْعَىٰ إِلَىٰ كِتَابِهَا } خبره . أى كل أمة تدعى إلى سجل أعمالها الذى أمر الله - تعالى - ملائكته بكتابته لتحاسب عليه . وقوله { ٱلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } مقول لقول مقدر . أى ويقال لهم جميعا فى هذا الوقت اليوم تجدون جزاء أعمالكم التى كنتم تعملونها فى الدنيا من خير أو شر . ويقال لهم - أيضا - { هَـٰذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِٱلْحَقِّ } . أى هذا كتابنا الذى سجلته عليكم الملائكة ، يشهد عليكم بالحق ، لأنه لا زيادة فيما كتب عليكم ولا نقصان ، وإنما هى أعمالكم أحصيناها عليكم . قال القرطبى قوله - تعالى - { هَـٰذَا كِتَابُنَا } قيل من لقول الله لهم . وقيل من قول الملائكة . { يَنطِقُ عَلَيْكُم بِٱلْحَقِّ } أى يشهد . وهو استعارة ، يقال نطق الكتاب بكذا ، أى بين . وقيل إنهم يقرءونه فيذكرهم الكتاب ما عملوا ، فكأنه ينطق عليهم . دليله قوله - تعالى - { وَيَقُولُونَ يٰوَيْلَتَنَا مَالِ هَـٰذَا ٱلْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا } وقوله - سبحانه - { وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِٱلْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } وقوله { يَنطِقُ } فى موضع الحال من الكتاب " . وقال الجمل فى حاشيته فإن قيل كيف أضيف الكتاب إليهم فى قوله { كُلُّ أمَّةٍ تُدْعَىٰ إِلَىٰ كِتَابِهَا } . وأضيف هنا إلى الله - تعالى - فقال { هَـٰذَا كِتَابُنَا } ؟ فالجواب أنه لا منافاة بين الأمرين ، لأنه كتابهم بمعنى أنه مشتمل على أعمالهم ، وكتاب الله ، بمعنى أنه - سبحانه - هو الذى أمر الملائكة بكتابته . وقوله - سبحانه - { إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } تعليل للنطق بالحق ، أى إنا كنا نأمر ملائكتنا بنسخ أعمالكم ، أى بكتابتها وتثبيتها عليكم فى الصحف ، حسنة كانت أو سيئة ، فالمراد بالنسخ هنا الإِثبات لا الإِزالة . ثم فصل - سبحانه - ما يترتب على ما سبق من أحكام فقال { فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ } أى فيدخلهم - سبحانه - فى جنته ورضوانه . { ذَلِكَ } العطاء الجزيل { هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْمُبِينُ } الذى لا يدانيه فوز . { وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ } فيقال لهم على سبيل التوبيخ والتقريع والزجر { أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ } أى أفلم تأتكم رسلى بآياتى الدالة على وحدانيتى وعلى صدقهم فيما يبلغونه عنى ؟ بلى لقد جاءكم رسلى بآياتى . { فَٱسْتَكْبَرْتُمْ } عن الاستماع إليهم ، وعن الاستجابة لهم ، واتباع دعوتهم . { وَكُنتُمْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ } أى وكنتم فى الدنيا قوما عادتكم الإِجرام ، واجتراح السيئات ، واقتراف المنكرات . { وَإِذَا قِيلَ } لكم فى الدنيا { إِنَّ وعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ } أى إن ما وعد الله - تعالى - به من البعث والحساب حق وصدق { وَٱلسَّاعَةُ لاَ رَيْبَ فِيهَا } أى لا شك فيها . { قُلْتُم } على سبيل العناد والجحود { مَّا نَدْرِي مَا ٱلسَّاعَةُ } أى قلتم على سبيل الإِنكار لها ، والاستبعاد لحصولها لا نعرف أن هناك شيئا اسمه الساعة ، ولا نعترف بها اعترافا يدل على إيماننا بها . { إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ } أى كنتم فى الدنيا تقولون لا نوقن ولا نؤمن بحدوث الساعة ، ولكنا نظن ونتوهم أن هناك شيئا اسمه الساعة ، وما نحن بمستيقنين بإتيانها . ولعل هذا الكلام الذى حكاه القرآن الكريم عنهم ، هو كلام الشاكين المتحيرين من الكافرين أما الجاحدون منهم فهم الذين حكى القرآن عنهم أنهم قالوا { مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ ٱلدَّهْرُ … } ثم بين - سبحانه - ما ترتب على هذه الأقوال الباطلة من نتائج فقال { وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ } أى وظهر لهؤلاء الكافرين سيئات أعمالهم على حقيقتها التى كانوا لا يتوقعونها . { وَحَاقَ بِهِم } أى وأحاط ونزل بهم { مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } أى فى الدنيا ، فقد كانوا فى الدنيا ينكرون البعث والحساب والجزاء ويستهزئون بمن يحدثهم عن ذلك . فنزل بهم العذاب المهين ، جزاء استهزائهم وإنكارهم . { وَقِيلَ } لهم على سبيل التأنيب والزجر { ٱلْيَوْمَ نَنسَاكُمْ } أى نهملكم ونترككم فى النار { كَمَا نَسِيتُمْ } أنتم فى الدنيا وأنكرتم { لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـٰذَا } وهو يوم القيامة { وَمَأْوَاكُمُ ٱلنَّارُ } أى ومسكنكم الذى تؤون إليه النار وبئس القرار . { وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } أى وليس لكم من ناصرين ينصرونكم ، ويخففون عنكم هذا العذاب الذى حل بكم . ثم بين - سبحانه - الأسباب التى أدت بهم إلى هذا المصير السئ فقال { ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ ٱتَّخَذْتُمْ آيَاتِ ٱللَّهِ هُزُواً } . أى ذلكم العذاب المبين الذى نزل بكم سببه أنكم استهزأتم بآيات القرآن الكريم ، وسخرتم منها ، وكذبتم من جاء بها . { وَغَرَّتْكُمُ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا } أى وخدعتكم الحياة الدنيا بزخارفها ومتعها وشهواتها . { فَٱلْيَوْمَ لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا } أى من النار . { وَلاَ هُمْ يُسْتَعَتَبُونَ } أى ولا هم يطلب منهم أن يرضوا ربهم ، بان يتوبوا إليه مما كان منهم من كفر وفسوق فى الدنيا ، لأن التوبة قد فات أوانها . فقوله { يُسْتَعَتَبُونَ } من العتب - بفتح العين وسكون التاء - وهى الموجدة . يقال عتب عليه يعتب ، إذا وجد عليه ، فإذا فاوضه فيما عتب عليه فيه ، قيل عاتبه . والمقصود من الآية الكريمة أن هؤلاء الكافرين لا يقبل منهم فى هذا اليوم عذر أو توبة . ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بقوله { فَلِلَّهِ ٱلْحَمْدُ } أى فلله - تعالى - وحده الحمد والثناء { رَبِّ ٱلسَّمَاوَتِ وَرَبِّ ٱلأَرْضِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } لا رب سواه ولا خالق غيره . { وَلَهُ ٱلْكِبْرِيَآءُ } أى العظمة والسلطان والجلال { فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعِزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } . قال ابن كثير أى هو العظيم الممجد الذى كل شئ خاضع لديه . فقير إليه وفى الحديث الصحيح يقول الله - تعالى - " العظمة إزارى ، والكبرياء ردائى ، فمن نازعنى واحدا منهما أسكنته نارى " . { وَهُوَ ٱلْعِزِيزُ } أى الذى لا يغالب ولا يمانع ، { ٱلْحَكِيمُ } فى أقواله وأفعاله . وبعد فهذا تفسير محرر لسورة " الجاثية " نسأل الله - تعالى - أن يجعله خالصا لوجهه ونافعا لعباده . والحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات . وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .